الباحث القرآني

ومِن سُورَةِ المُنافِقِينَ ﷽ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أيْمانَهم جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ١٦] قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: " أشْهَدُ " يَمِينٌ؛ لِأنَّ القَوْمَ قالُوا: " نَشْهَدُ " فَجَعَلَهُ اللَّهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أيْمانَهم جُنَّةً﴾ [المجادلة: ١٦] وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ: " أشْهَدُ وأُقْسِمُ وأعْزِمُ وأحْلِفُ كُلُّها أيْمانٌ " وقالَ زُفَرُ: " إذا قالَ: أُقْسِمُ لَأفْعَلَنَّ، فَهو يَمِينٌ، ولَوْ قالَ: أشْهَدُ لَأفْعَلَنَّ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا " وقالَ مالِكٌ: " إنْ أرادَ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ أيْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَهو يَمِينٌ وإلّا فَلا شَيْءَ وكَذَلِكَ أحْلِفُ " قالَ: " ولَوْ قالَ: أعْزِمُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إلّا أنْ يَقُولَ: أعْزِمُ بِاللَّهِ، ولَوْ قالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أوْ قالَ: نَذْرٌ لِلَّهِ، فَهو عَلى ما نَوى، وإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَكَفّارَتُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ " وقالَ الشّافِعِيُّ: " أُقْسِمُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَمِينٌ إنْ أرادَها، وإنْ أرادَ المَوْعِدَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وأشْهَدُ بِاللَّهِ إنْ نَوى اليَمِينَ فَيَمِينٌ، وإنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ (p-٣٤٥)بِيَمِينٍ، وأعْزِمُ بِاللَّهِ إنْ أرادَ يَمِينًا فَهو يَمِينٌ " وذَكَرَ الرَّبِيعُ عَنِ الشّافِعِيِّ: " إذا قالَ: أُقْسِمُ أوْ أشْهَدُ أوْ أعْزِمُ ولَمْ يَقُلْ: بِاللَّهِ فَهو كَقَوْلِهِ: واللَّهِ، وإنْ قالَ: أحْلِفُ بِاللَّهِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ إلّا أنْ يَنْوِيَ اليَمِينَ " قالَ أبُو بَكْرٍ: لا يَخْتَلِفُونَ أنَّ " أشْهَدُ بِاللَّهِ " يَمِينٌ فَكَذَلِكَ " أشْهَدُ " مِن وجْهَيْنِ: أحَدِهِما: أنَّ اللَّهَ حَكى عَنِ المُنافِقِينَ أنَّهم قالُوا: " نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ " ثُمَّ جَعَلَ هَذا الإطْلاقَ يَمِينًا مِن غَيْرِ أنْ يَقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ، وقالَ تَعالى: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦] فَعَبَّرَ عَنِ اليَمِينِ بِالشَّهادَةِ عَلى الإطْلاقِ. والثّانِي: أنَّهُ لَمّا أخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ القَسَمِ وجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ في حَذْفِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى وفي إظْهارِهِ، وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى القَسَمَ في كِتابِهِ فَأظْهَرَ تارَةً الِاسْمَ وحَذَفَهُ أُخْرى والمَفْهُومُ بِاللَّفْظِ في الحالَيْنِ واحِدٌ بِقَوْلِهِ:﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: ١٧] فَحَذَفَهُ تارَةً اكْتِفاءً بِعِلْمِ المُخاطَبِينَ بِإضْمارِهِ وأظْهَرَهُ أُخْرى، ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ أبا بَكْرٍ عَبَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ رُؤْيا، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ «أصَبْتَ بَعْضًا وأخْطَأْتَ بَعْضًا فَقالَ أبُو بَكْرٍ: أقْسَمْتُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تُقْسِمْ» ورُوِيَ أنَّهُ قالَ: «واللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي» فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُ: " أقْسَمْتُ عَلَيْكَ " يَمِينًا؛ فَمِنَ النّاسِ مَن يَكْرَهُ القَسَمَ لِقَوْلِهِ: " لا تُقْسِمْ " ومِنهم مَن لا يَرى بِهِ بَأْسًا وأنَّهُ إنَّما قالَ: " لا تُقْسِمْ "؛ لِأنَّ عِبارَةَ الرُّؤْيا ظَنٌّ قَدْ يَقَعُ فِيها الخَطَأُ، وهَذا يَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّهُ لَيْسَ عَلى مَن أقْسَمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أنْ يَبَرَّ قَسَمَهُ؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يُخْبِرْهُ لَمّا أقْسَمَ عَلَيْهِ لِيُخْبِرَهُ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ مَن عَلِمَ تَأْوِيلَ رُؤْيا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الإخْبارُ بِها؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يُخْبِرْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيا ورَوى هِشامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ قالَ: كانَ أبُو بَكْرٍ قَدِ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ عَلى الشّامِ، فَلَقَدْ رَأيْتُنِي وأنا أشُدُّ الإبِلَ بِأقْتابِها، فَلَمّا أرادَ أنْ يَرْتَحِلَ قالَ لَهُ النّاسُ: تَدَعُ عُمَرَ يَنْطَلِقُ إلى الشّامِ ؟ واللَّهِ إنَّ عُمَرَ لَيَكْفِيكَ الشّامَ وهو هَهُنا قالَ: أقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمّا أقَمْتَ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ لِلْعَبّاسِ فِيما خاصَمَ فِيهِ عَلِيًّا مِن أشْياءَ تَرَكَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإيثارِهِ: أقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمّا سَلَّمْتَهُ لِعَلِيٍّ. وقَدْ رَوى البَراءُ قالَ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإبْرارِ القَسَمِ»، وهَذا يَدُلُّ عَلى إباحَةِ القَسَمِ وأنَّهُ يَمِينٌ، وهَذا عَلى وجْهِ النَّدْبِ؛ «لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أبِي بَكْرٍ لَمّا قالَ: " أقْسَمْتُ عَلَيْكَ "» وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ وعَلْقَمَةَ وإبْراهِيمَ وأبِي العالِيَةِ والحَسَنِ: القَسَمُ يَمِينٌ وقالَ الحَسَنُ وأبُو العالِيَةِ: أقْسَمْتُ وأقْسَمْتُ بِاللَّهِ سَواءٌ. (p-٣٤٦)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب