الباحث القرآني
بابُ وُقُوعِ الفُرْقَةِ بِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ
قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ الآيَةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: في هَذِهِ الآيَةِ ضُرُوبٌ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى وُقُوعِ الفُرْقَةِ بِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. واخْتِلافُ الدّارَيْنِ أنْ يَكُونَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ والآخَرُ مِن أهْلِ دارِ الإسْلامِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ المُهاجِرَةَ إلى دارِ الإسْلامِ قَدْ صارَتْ مِن أهْلِ دارِ الإسْلامِ وزَوْجُها باقٍ عَلى كُفْرِهِ مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ بِهِما الدّارانِ، وحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الفُرْقَةِ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾
(p-٣٢٩)ولَوْ كانَتِ الزَّوْجِيَّةُ باقِيَةً لَكانَ الزَّوْجُ أوْلى بِها بِأنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أرادَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾؛ وقَوْلُهُ: ﴿وآتُوهم ما أنْفَقُوا﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا؛ لِأنَّهُ أمَرَ بِرَدِّ مَهْرِها عَلى الزَّوْجِ، ولَوْ كانَتِ الزَّوْجِيَّةُ باقِيَةً لَما اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ المَهْرِ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَسْتَحِقَّ البُضْعَ وبَدَلَهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ولَوْ كانَ النِّكاحُ الأوَّلُ باقِيًا لَما جازَ لَها أنْ تَتَزَوَّجَ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ والعِصْمَةُ المَنعُ، فَنَهانا أنْ نَمْتَنِعَ مِن تَزْوِيجِها لِأجْلِ زَوْجِها الحَرْبِيِّ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنا مُسْلِمَةً، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ في الحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنا مُسْلِمَةً ولَها زَوْجٌ كافِرٌ في دارِ الحَرْبِ: " قَدْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ فِيما بَيْنَهم ولا عِدَّةَ عَلَيْها " وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " عَلَيْها العِدَّةُ، وإنْ أسْلَمَ الزَّوْجُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلّا بِنِكاحٍ مُسْتَقْبَلٍ "، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وقالَ مالِكٌ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " إنْ أسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أنْ تَحِيضَ ثَلاثَ حِيَضٍ فَقَدْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ " . ولا فَرْقَ عِنْدَ الشّافِعِيِّ بَيْنَ دارِ الحَرْبِ وبَيْنَ دارِ الإسْلامِ، لا حُكْمَ لِلدّارِ عِنْدَهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: رَوى قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " إذا أسْلَمَتِ اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِها فَهو أحَقُّ بِها ما دامُوا في دارِ الهِجْرَةِ " .
ورَوى الشَّيْبانِيُّ عَنِ السَّفّاحِ بْنِ مَطَرٍ عَنْ داوُدَ بْنِ كُرْدُوسٍ قالَ: " كانَ رَجُلٌ مِن بَنِي تَغْلِبَ نَصْرانِيٌّ عِنْدَهُ امْرَأةٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ نَصْرانِيَّةٌ فَأسْلَمَتِ المَرْأةُ وأبى الزَّوْجُ أنْ يُسْلِمَ، فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُما " ورَوى لَيْثٌ عَنْ عَطاءٍ وطاوُسٍ ومُجاهِدٍ في النَّصْرانِيِّ تُسْلِمُ امْرَأتُهُ قالُوا: " إنْ أسْلَمَ مَعَها فَهي امْرَأتُهُ، وإنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُما " .
ورَوى قَتادَةُ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: " إذا أسْلَمَ وهي في عِدَّتِها فَهي امْرَأتُهُ، وإنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُما "، ورَوى حَجّاجٌ عَنْ عَطاءٍ مِثْلَهُ، وعَنْ الحَسَنِ وابْنِ المُسَيَّبِ مِثْلَهُ وقالَ إبْراهِيمُ: " إنْ أبى أنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُما " ورَوى عَبّادُ بْنُ العَوّامِ عَنْ خالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " إذا أسْلَمَتِ النَّصْرانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِها فَهي أمْلَكُ لِنَفْسِها "
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَصَلَ اخْتِلافُ السَّلَفِ في ذَلِكَ عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ؛ فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " هو أحَقُّ بِها ما دامُوا في دارِ الهِجْرَةِ "، وهَذا مَعْناهُ عِنْدَنا إذا كانا في دارٍ واحِدَةٍ، ومَتى اخْتَلَفَتْ بِهِما الدّارُ فَصارَ أحَدُهُما في دارِ الحَرْبِ والآخَرُ في دارِ الإسْلامِ بانَتْ، وقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إذا أسْلَمَتْ وأبى الزَّوْجُ الإسْلامَ فُرِّقَ بَيْنَهُما " .
وهَذا أيْضًا عَلى أنَّهُما في دارِ الإسْلامِ وقالَ آخَرُونَ مِمَّنْ ذَكَرْنا قَوْلَهُ: " هي امْرَأتُهُ ما دامَتْ في العِدَّةِ فَإذا انْقَضَتِ العِدَّةُ وقَعَتِ الفُرْقَةُ "، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " تَقَعِ الفُرْقَةُ بِإسْلامِها " واتَّفَقَ فُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى أنَّها لا تَبِينُ (p-٣٣٠)مِنهُ بِإسْلامِها إذا كانا في دارٍ واحِدَةٍ واخْتَلَفُوا في وقْتِ وُقُوعِ الفُرْقَةِ إذا أسْلَمَتْ ولَمْ يُسْلِمِ الزَّوْجُ، فَقالَ أصْحابُنا: " إنْ كانا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ حَتّى يَعْرِضَ الإسْلامَ عَلَيْهِ، فَإنْ أسْلَمَ، وإلّا فُرِّقَ بَيْنَهُما "، وهو مَعْنى ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعُمَرَ، وقالُوا: " إنْ كانا حَرْبِيَّيْنِ في دارِ الحَرْبِ فَأسْلَمَتْ فَهي امْرَأتُهُ ما لَمْ تَحِضْ ثَلاثَ حِيَضٍ، فَإذا حاضَتْ ثَلاثَ حِيَضٍ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُما " ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَن رُوِيَ عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ اعْتِبارُ الحَيْضِ إنَّما أرادُوا بِهِ الحَرْبِيِّينَ في دارِ الحَرْبِ وقالَ أصْحابُنا: " إذا أسْلَمَ أحَدُ الحَرْبِيِّينَ، وخَرَجَ إلَيْنا أيُّهُما كانَ وبَقِيَ الآخَرُ في دارِ الحَرْبِ فَقَدْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ بِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ " وقَدْ ذَكَرْنا وُجُوهَ دَلائِلِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: " نَزَلَتْ في سَبايا أوْطاسٍ كانَ لَهُنَّ أزْواجٌ في الشِّرْكِ وأباحَهُنَّ لَهم بِالسَّبْيِ " ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] قالَ: " كُلُّ ذاتِ زَوْجٍ فَإتْيانُها زِنًا إلّا ما سُبِيَتْ " وقالَ النَّبِيُّ ﷺ في السَّبايا: «لا تُوطَأُ حامِلٌ حَتّى تَضَعَ ولا حائِلٌ حَتّى تُسْتَبْرَأ بِحَيْضَةٍ» .
واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى جَوازِ وطْءِ المَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْراءِ، وإنْ كانَ لَها زَوْجٌ في دارِ الحَرْبِ إذا لَمْ يُسْبَ زَوْجُها مَعَها، فَلا يَخْلُو وُقُوعُ الفُرْقَةِ مِن أنْ يَتَعَلَّقَ بِإسْلامِها أوْ بِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ عَلى الحَدِّ الَّذِي بَيَّنّا أوْ بِحُدُوثِ المِلْكِ عَلَيْها، وقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ إسْلامَها لا يُوجِبُ الفُرْقَةَ في الحالِ؛ وثَبَتَ أيْضًا أنَّ حُدُوثَ المِلْكِ لا يَرْفَعُ النِّكاحَ بِدَلالَةِ أنَّ الأمَةَ الَّتِي لَها زَوْجٌ إذا بِيعَتْ لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ.
وكَذَلِكَ إذا ماتَ رَجُلٌ عَنْ أمَةٍ لَها زَوْجٌ لَمْ يَكُنِ انْتِقالُ المِلْكِ إلى الوارِثِ رافِعًا لِلنِّكاحِ، فَلَمْ يَبْقَ وجْهٌ لِإيقاعِ الفُرْقَةِ إلّا اخْتِلافَ الدّارَيْنِ فَإنْ قِيلَ: اخْتِلافُ الدّارَيْنِ لا يُوجِبُ الفُرْقَةَ؛ لِأنَّ المُسْلِمَ إذا دَخَلَ دارَ الحَرْبِ بِأمانٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكاحُ امْرَأتِهِ، وكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنا بِأمانٍ لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وكَذَلِكَ لَوْ أسْلَمَ الزَّوْجانِ في دارِ الحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أحَدُهُما إلى دارِ الإسْلامِ لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ، فَسَلَّمْنا أنَّهُ لا تَأْثِيرَ لِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ في إيجابِ الفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنى اخْتِلافِ الدّارَيْنِ ما ذَهَبْتَ إلَيْهِ، وإنَّما مَعْناهُ أنْ يَكُونَ أحَدُهُما مِن أهْلِ دارِ الإسْلامِ إمّا بِالإسْلامِ أوْ بِالذِّمَّةِ والآخَرُ مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ فَيَكُونُ حَرْبِيًّا كافِرًا، فَأمّا إذا كانا مُسْلِمَيْنِ فَهُما مِن أهْلِ دارٍ واحِدَةٍ، وإنْ كانَ أحَدُهُما مُقِيمًا في دارِ الحَرْبِ والآخَرُ في دارِ الإسْلامِ فَإنِ احْتَجَّ المُخالِفُ لَنا بِما رَوى يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ (p-٣٣١)قالَ: «رَدَّ النَّبِيُّ ﷺ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلى أبِي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكاحِ الأوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ»، وقَدْ كانَتْ زَيْنَبُ هاجَرَتْ إلى المَدِينَةِ وبَقِيَ زَوْجُها بِمَكَّةَ مُشْرِكًا ثُمَّ رَدَّها عَلَيْهِ بِالنِّكاحِ الأوَّلِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا تَأْثِيرَ لِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ في إيقاعِ الفُرْقَةِ فَيُقالُ: لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ لِلْمُخالِفِ مِن وُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّهُ قالَ: " رَدَّها بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاحِ الأوَّلِ "؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّها لا تُرَدُّ إلَيْهِ بِالعَقْدِ الأوَّلِ بَعْدَ انْقِضاءِ ثَلاثِ حِيَضٍ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ في العادَةِ أنَّها لا تَحِيضُ ثَلاثَ حِيَضٍ في سِتِّ سِنِينَ، فَسَقَطَ احْتِجاجُ المُخالِفِ بِهِ مِن هَذا الوَجْهِ.
ووَجْهٌ آخَرُ: وهو ما رَوى خالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في اليَهُودِيَّةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زَوْجِها أنَّها أمْلَكُ لِنَفْسِها؛ فَكانَ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ الفُرْقَةَ قَدْ وقَعَتْ بِإسْلامِها، وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُخالِفَ النَّبِيَّ ﷺ فِيما قَدْ رَواهُ عَنْهُ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوى عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلى أبِي العاصِ بِنِكاحٍ ثانٍ» فَهَذا يُعارِضُ حَدِيثَ داوُدَ بْنَ الحُصَيْنِ، وهو مَعَ ذَلِكَ أوْلى؛ لِأنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ إنْ صَحَّ فَإنَّما هو إخْبارٌ عَنْ كَوْنِها زَوْجَةً لَهُ بَعْدَما أسْلَمَ، ولَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ عَقْدٍ ثانٍ، وفي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الإخْبارُ عَنْ حُدُوثِ عَقْدٍ ثانٍ بَعْدَ إسْلامِهِ، فَهو أوْلى؛ لِأنَّ الأوَّلَ إخْبارٌ عَنْ ظاهِرِ الحالِ، والثّانِيَ إخْبارٌ عَنْ مَعْنًى حادِثٍ قَدْ عَلِمَهُ، وهَذا مِثْلُ ما تَقُولُهُ في رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ»، وحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الأصَمِّ أنَّهُ تَزَوَّجَها وهو حالٌّ.
فَقُلْنا: حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أوْلى؛ لِأنَّهُ أخْبَرَ عَنْ حالٍ حادِثَةٍ وأخْبَرَ الآخَرُ عَنْ ظاهِرِ الأمْرِ الأوَّلِ، وكَحَدِيثِ زَوْجِ بَرِيرَةَ أنَّهُ كانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ ورِوايَةُ مَن رَوى أنَّهُ كانَ عَبْدًا، فَكانَ الأوَّلُ أوْلى لِإخْبارِهِ عَنْ حالٍ حادِثَةٍ عَلِمَها، وأخْبَرَ الآخَرُ عَنْ ظاهِرِ الأمْرِ الأوَّلِ ولَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ حالٍ أُخْرى.
* * *
* فَصْلٌ
وإنَّما قالَ أبُو حَنِيفَةَ في المُهاجِرَةِ أنَّهُ لا عِدَّةَ عَلَيْها مِنَ الزَّوْجِ الحَرْبِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى -: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ فَأباحَ نِكاحَها مِن غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ، وقالَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ والعِصْمَةُ المَنعُ، فَحَظَرَ الِامْتِناعَ مِن نِكاحِها؛ لِأجْلِ زَوْجِها الحَرْبِيِّ.
والكَوافِرُ يَجُوزُ أنْ يَتَناوَلَ الرِّجالَ، وظاهِرُهُ في هَذا المَوْضِعِ الرِّجالُ؛ لِأنَّهُ في ذِكْرِ المُهاجِراتِ. وأيْضًا أباحَ النَّبِيُّ ﷺ وطْءَ المَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْراءِ بِحَيْضَةٍ، والِاسْتِبْراءُ لَيْسَ بِعِدَّةٍ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ «عِدَّةُ الأمَةِ حَيْضَتانِ» والمَعْنى فِيها وُقُوعُ الفُرْقَةِ بِاخْتِلافِ الدّارَيْنِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى -: ﴿واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا﴾؛ قالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: يَعْنِي رَدَّ الصَّداقِ، واسْألُوا أهْلَ (p-٣٣٢)الحَرْبِ مَهْرَ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ إذا صارَتْ إلَيْهِمْ، ولْيَسْألُوا هم أيْضًا مَهْرَ مَن صارَتْ إلَيْنا مُسْلِمَةً مِنهم "؛ وقالَ الزُّهْرِيُّ: " فَأمّا المُؤْمِنُونَ فَأقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وأمّا المُشْرِكُونَ فَأبَوْا أنْ يُقِرُّوا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وإنْ فاتَكم شَيْءٌ مِن أزْواجِكم إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أزْواجُهم مِثْلَ ما أنْفَقُوا﴾ فَأُمِرَ المُسْلِمُونَ أنْ يَرُدُّوا الصَّداقَ إذا ذَهَبَتِ امْرَأةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ولَها زَوْجٌ مُسْلِمٌ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِ المُسْلِمُونَ صَداقَ امْرَأتِهِ إنْ كانَ في أيْدِيهِمْ مِمّا يَرُدُّونَ، وأنْ يَرُدُّوا إلى المُشْرِكِينَ " .
ورَوى خُصَيْفٌ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ تَعالى -: ﴿واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ﴾ " مِنَ الغَنِيمَةِ أنْ يُعَوَّضَ مِنها " .
ورَوى زَكَرِيّا بْنُ أبِي زائِدَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: " كانَتْ زَيْنَبُ امْرَأةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ في القُرْآنِ: ﴿واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا﴾ خَرَجَتْ إلى المُؤْمِنِينَ " ورَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي الضُّحى عَنْ مَسْرُوقٍ: ﴿وإنْ فاتَكم شَيْءٌ مِن أزْواجِكم إلى الكُفّارِ﴾ قالَ: " لَيْسَ بَيْنَكم وبَيْنَهم عَهْدٌ " ﴿فَعاقَبْتُمْ﴾ " وأصَبْتُمْ غَنِيمَةً " ﴿فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أزْواجُهم مِثْلَ ما أنْفَقُوا﴾ قالَ: " عَوِّضُوا زَوْجَها مِثْلَ الَّذِي ذَهَبَ مِنهُ " .
ورَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ، وزادَ: " يُعْطى مِن جَمِيعِ الغَنِيمَةِ ثُمَّ يَقْسِمُونَ غَنِيمَتَهم " وقالَ ابْنُ إسْحاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قالَ: " إنْ فاتَ أحَدُكم أهْلَهُ إلى الكُفّارِ ولَمْ يَأْتِ مِنَ الكُفّارِ مَن تَأْخُذُونَ مِنهُ مِثْلَ ما أخَذَ مِنكم فَعَوِّضُوهم مِن فَيْءٍ إنْ أصَبْتُمُوهُ " وجائِزٌ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوايَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مُخالِفَةٍ لِما قَدَّمْنا مِن أنَّهم يُعَوَّضُونَ مِن صَداقٍ إنْ وجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إلى الكُفّارِ، وأنَّهُ إنَّما يَجِبُ رَدُّهُ مِن صَداقٍ وجَبَ لِلْكُفّارِ إذا كانَ هُناكَ صَداقٌ قَدْ وجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، وإذا لَمْ يَكُنْ صَداقٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الغَنِيمَةِ وهَذِهِ الأحْكامُ في رَدِّ المَهْرِ وأخْذِهِ مِنَ الكُفّارِ وتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنَ الغَنِيمَةِ أوْ مِن صَداقٍ قَدْ وجَبَ رَدُّهُ عَلى أهْلِ الحَرْبِ مَنسُوخٌ عِنْدَ جَماعَةِ أهْلِ العِلْمِ غَيْرُ ثابِتِ الحُكْمِ إلّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ. "
فَإنَّ عَبْدَ الرَّزّاقِ رَوى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: أرَأيْتَ لَوْ أنَّ امْرَأةً مِن أهْلِ الشِّرْكِ جاءَتِ المُسْلِمِينَ فَأسْلَمَتْ أيُعَوَّضُ زَوْجُها مِنها شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعالى - في المُمْتَحَنَةِ: ﴿وآتُوهم ما أنْفَقُوا﴾ ؟ قالَ: إنَّما كانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَ أهْلِ عَهْدِهِ، قُلْتُ: فَجاءَتِ امْرَأةٌ الآنَ مِن أهْلِ عَهْدٍ ؟ قالَ: نَعَمْ، يُعاضُ فَهَذا مَذْهَبُ عَطاءٍ في ذَلِكَ " وهو خِلافُ الإجْماعِ فَإنْ قِيلَ: لَيْسَ في القُرْآنِ ولا في السُّنَّةِ ما يُوجِبُ نَسْخَ هَذِهِ الأحْكامِ، فَمِن أيْنَ وجَبَ نَسْخُها ؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنسُوخًا بِقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وبِقَوْلِ (p-٣٣٣)النَّبِيِّ ﷺ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ».
{"ayahs_start":10,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا جَاۤءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَ ٰتࣲ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَـٰتࣲ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلࣱّ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ یَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّاۤ أَنفَقُوا۟ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُوا۟ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡیَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ","وَإِن فَاتَكُمۡ شَیۡءࣱ مِّنۡ أَزۡوَ ٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُوا۟ ٱلَّذِینَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَ ٰجُهُم مِّثۡلَ مَاۤ أَنفَقُوا۟ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا جَاۤءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَ ٰتࣲ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَـٰتࣲ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلࣱّ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ یَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّاۤ أَنفَقُوا۟ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُوا۟ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡیَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق