الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي﴾ قِيلَ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ قالَ ذَلِكَ في أوَّلِ حالِ نَظَرِهِ واسْتِدْلالِهِ عَلى ما سَبَقَ إلى وهْمِهِ وغَلَبَ في ظَنِّهِ؛ لِأنَّ قَوْمَهُ قَدْ كانُوا يَعْبُدُونَ الأوْثانَ عَلى أسْماءِ الكَواكِبِ فَيَقُولُونَ هَذا صَنَمُ زُحَلَ وصَنَمُ الشَّمْسِ وصَنَمُ المُشْتَرِي، ونَحْوُ ذَلِكَ. والثّانِي: أنَّهُ قالَ قَبْلَ بُلُوغِهِ وقَبْلَ، إكْمالِ اللَّهِ تَعالى عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ، فَقالَ ذَلِكَ وقَدْ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الأُمُورُ وحَرَّكَتْهُ الخَواطِرُ والدَّواعِي عَلى الفِكْرِ فِيما شاهَدَهُ مِنَ الحَوادِثِ الدّالَّةِ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى ورُوِيَ في الخَبَرِ أنَّ أُمَّهُ كانَتْ ولَدَتْهُ في مَغارٍ خَوْفًا مِن نُمْرُودٍ؛ لِأنَّهُ كانَ يَقْتُلُ الأطْفالَ المَوْلُودِينَ في ذَلِكَ الزَّمانِ، فَلَمّا خَرَجَ مِنَ المَغارِ قالَ هَذا القَوْلَ حِينَ شاهَدَ الكَواكِبَ. والثّالِثُ: أنَّهُ قالَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الإنْكارِ عَلى قَوْمِهِ، وحَذَفَ الألِفَ وأرادَ: أهَذا رَبِّي قالَ الشّاعِرُ: ؎كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رَأيْتَ بِواسِطٍ غَلَسَ الظَّلامِ مِنَ الرَّبابِ خَيالا ومَعْناهُ: أكْذَبَتْكَ. وقالَ آخَرُ: ؎رَقَوْنِي وقالُوا يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ ∗∗∗ فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هم هُمْ (p-١٦٨)مَعْناهُ: أهم هم ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ إخْبارٌ بِأنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ ولَوْ كانَ رَبًّا لَأحْبَبْتُهُ وعَظَّمْتُهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وهَذا الِاسْتِدْلالُ الَّذِي سَلَكَ إبْراهِيمُ طَرِيقَهُ مِن أصَحِّ ما يَكُونُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ وأوْضَحِهِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا رَأى الكَوْكَبَ في عُلُوِّهِ وضِيائِهِ قَرَّرَ نَفْسَهُ عَلى ما يَنْقَسِمُ إلَيْهِ حُكْمُهُ مِن كَوْنِهِ رَبًّا خالِقًا أوْ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا، فَلَمّا رَآهُ طالِعًا آفِلًا ومُتَحَرِّكا زائِلًا قَضى بِأنَّهُ مُحْدَثٌ لِمُقارَنَتِهِ لِدَلالاتِ الحَدَثِ وأنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ؛ لِأنَّهُ عَلِمَ أنَّ المُحْدَثَ غَيْرُ قادِرٍ عَلى إحْداثِ الأجْسامِ وأنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ كَما اسْتَحالَ ذَلِكَ مِنهُ إذْ كانَ مُحْدَثًا، فَحَكَمَ بِمُساواتِهِ لَهُ في جِهَةِ الحُدُوثِ وامْتِناعِ كَوْنِهِ خالِقًا رَبًّا ثُمَّ لَمّا طَلَعَ القَمَرُ فَوَجَدَهُ مِنَ العِظَمِ والإشْراقِ وانْبِساطِ النُّورِ عَلى خِلافِ الكَوْكَبِ قَرَّرَ أيْضًا نَفْسَهُ عَلى حُكْمِهِ فَقالَ: هَذا رَبِّي، فَلَمّا رَعاهُ وتَأمَّلَ وجَدَهُ في مَعْناهُ في بابِ مُقارَنَتِهِ لِلْحَوادِثِ مِنَ الطُّلُوعِ والأُفُولِ والِانْتِقالِ والزَّوالِ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ وإنْ كانَ أكْبَرَ وأضْوَأ مِنهُ، ولَمْ يَمْنَعْهُ ما شاهَدَ مِنَ اخْتِلافِهِما مِنَ العِظَمِ والضِّياءِ مِن أنْ يَقْضِيَ بِهِ بِالحُدُوثِ لِوُجُودِ دَلالاتِ الحَدَثِ فِيهِ ثُمَّ لَمّا أصْبَحَ رَأى الشَّمْسَ طالِعَةً في عِظَمِها وإشْراقِها وتَكامُلِ ضِيائِها قالَ: هَذا رَبِّي؛ لِأنَّها بِخِلافِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ في هَذِهِ الأوْصافِ، ثُمَّ لَمّا رَآها آفِلَةً مُنْتَقِلَةً حَكَمَ لَها بِالحُدُوثِ أيْضًا وأنَّها في حُكْمِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ لِشُمُولِ دَلالَةِ الحَدَثِ لِلْجَمِيعِ. وفِيما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] أوْضَحُ دَلالَةً عَلى وُجُوبِ الِاسْتِدْلالِ عَلى التَّوْحِيدِ وعَلى بُطْلانِ قَوْلِ الحَشْوِ القائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأنَّهُ لَوْ جازَ لِأحَدٍ أنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّقْلِيدِ لَكانَ أوْلاهم بِهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمّا اسْتَدَلَّ إبْراهِيمُ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ واحْتَجَّ بِهِ عَلى قَوْمِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ عَلَيْنا مِثْلَهُ؛ وقَدْ قالَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ إيّاهُ مَعَ سائِرِ الأنْبِياءِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] فَأمَرَنا اللَّهُ تَعالى بِالِاقْتِداءِ بِهِ في الِاسْتِدْلالِ عَلى التَّوْحِيدِ والِاحْتِجاجِ بِهِ عَلى الكُفّارِ ومِن حَيْثُ دَلَّتْ أحْوالُ هَذِهِ الكَواكِبِ عَلى أنَّها مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ خالِقَةٍ ومَرْبُوبَةٌ غَيْرُ رَبٍّ فَهي دالَّةٌ أيْضًا عَلى أنَّ مَن كانَ في مِثْلِ حالِها في الِانْتِقالِ والزَّوالِ والمَجِيءِ والذَّهابِ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ رَبًّا خالِقًا وأنَّهُ يَكُونُ مَرْبُوبًا، فَدَلَّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقالُ ولا الزَّوالُ ولا المَجِيءُ ولا الذَّهابُ، لِقَضِيَّةِ اسْتِدْلالِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّ مَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهو مُحْدَثٌ، وثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ مَن عَبَدَ ما هَذِهِ صِفَتُهُ فَهو غَيْرُ عالِمٍ بِاَللَّهِ (p-١٦٩)تَعالى وأنَّهُ بِمَنزِلَةِ مَن عَبَدَ كَوْكَبًا أوْ بَعْضَ الأشْياءِ المَخْلُوقَةِ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى تَجِبُ بِكَمالِ العَقْلِ قَبْلَ إرْسالِ الرُّسُلِ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَدَلَّ عَلَيْها قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِحُجَجِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] يَعْنِي واَللَّهُ أعْلَمُ ما ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِدْلالِ عَلى حُدُوثِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ والشَّمْسِ، وأنَّ مَن كانَ في مِثْلِ حالِها مِن مُقارَنَةِ الحَوادِثِ لَهُ لا يَكُونُ إلَهًا. ولَمّا قُرِّرَ ذَلِكَ عِنْدَهم قالَ: ﴿فَأيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالأمْنِ﴾ [الأنعام: ٨١] أمَّنْ يَعْبُدُ إلَهًا واحِدًا أحَقُّ أمْ مَن يَعْبُدُ آلِهَةً شَتّى ؟ قالُوا: مَن يَعْبُدُ إلَهًا واحِدًا، فَأقَرُّوا عَلى أنْفُسِهِمْ فَصارُوا مَحْجُوجِينَ. وقِيلَ إنَّهم لَمّا قالُوا لَهُ أما تَخافُ أنْ يَخْبِلَكَ آلِهَتُنا ؟ قالَ لَهم: أما تَخافُونَ أنْ تَخْبِلَكم بِجَمْعِكُمُ الصَّغِيرِ مَعَ الكَبِيرِ في العِبادَةِ ؟ فَأبْطَلَ ذَلِكَ حِجاجُهم عَلَيْهِ مِن حَيْثُ رَجَعَ عَلَيْهِمْ ما أرادُوا إلْزامَهُ إيّاهُ فَألْزَمَهم مِثْلَهُ عَلى أصْلِهِمْ وأبْطَلَ قَوْلَهم بِقَوْلِهِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] أمْرٌ لَنا بِالِاقْتِداءِ بِمَن ذَكَرَ مِنَ الأنْبِياءِ في الِاسْتِدْلالِ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى عَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا مِنَ اسْتِدْلالِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ في لُزُومِ شَرائِعِ مَن كانَ قَبْلَنا مِنَ الأنْبِياءِ بِأنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ بِذَلِكَ الِاسْتِدْلالُ عَلى التَّوْحِيدِ مِنَ الشَّرائِعِ السَّمْعِيَّةِ وهو عَلى الجَمِيعِ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في أُصُولِ الفِقْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب