الباحث القرآني

قَوْلُهُ (p-١٩٦)تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ إنَّما خَصَّ اليَتِيمَ بِالذِّكْرِ فِيما أمَرَنا بِهِ مِن ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنِ الِانْتِصارِ لِنَفْسِهِ ومَنعِ غَيْرِهِ عَنْ مالِهِ، ولَمّا كانَتِ الأطْماعُ تَقْوى في أخْذِ مالِهِ أكَّدَ النَّهْيَ عَنْ أخْذِ مالِهِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن لَهُ وِلايَةٌ عَلى اليَتِيمِ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ مالِ اليَتِيمِ مُضارَبَةً، وأنْ يَعْمَلَ بِهِ هو مُضارَبَةً فَيَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ؛ إذْ رَأى ذَلِكَ أحْسَنَ، وأنْ يُبْضِعَ ويَسْتَأْجِرَ مَن يَتَصَرَّفُ ويَتَّجِرُ في مالِهِ، وأنْ يَشْتَرِيَ مالَهُ مِن نَفْسِهِ إذا كانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ، وهو أنْ يَكُونَ ما يُعْطِي اليَتِيمُ أكْثَرَ قِيمَةً مِمّا يَأْخُذُهُ مِنهُ وأجازَ أبُو حَنِيفَةَ شِراهُ مالَ اليَتِيمِ لِنَفْسِهِ إذا كانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ وقالَ تَعالى: ﴿حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ ولَمْ يَشْرِطِ البُلُوغَ، فَدَلَّ عَلى أنَّ بَعْدَ البُلُوغِ يَجُوزُ أنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِ مالَهُ إذا لَمْ يَكُنْ مَأْنُوسَ الرُّشْدِ ولا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ إذا بَلَغَ أشُدَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَفُوتَ مالَهُ سَواءٌ آنَسَ مِنهُ الرُّشْدَ أوْ لَمْ يُؤْنِسْ رُشْدَهُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ عاقِلًا؛ لِأنَّهُ جَعَلَ بُلُوغَ الأشُدِّ نِهايَةً لِإباحَةِ قُرْبِ مالِهِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الوَصِيَّ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَأْكُلَ مِن مالِ اليَتِيمِ فَقِيرًا كانَ أوْ غَنِيًّا ولا يَسْتَقْرِضُ مِنهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأحْسَنَ ولا خَيْرًا لِلْيَتِيمِ. وجَعَلَ أبُو حَنِيفَةَ بُلُوغَ الأشُدِّ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً فَإذا بَلَغَها دُفِعَ إلَيْهِ مالُهُ ما لَمْ يَكُنْ مَعْتُوهًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ اجْتِهادُ الرَّأْيِ وغالِبُ الظَّنِّ، فَكانَ عِنْدَهُ أنَّ هَذِهِ السِّنَّ مَتى بَلَغَها كانَ بالِغًا أشُدَّهُ. وقَدِ اخْتُلِفَ في بُلُوغِ الأشُدِّ، فَقالَ عامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: { هو بُلُوغُ الحُلُمِ } . وقالَ السُّدِّيُّ: { هو ثَلاثُونَ سَنَةً } . وقِيلَ: { ثَمانِي عَشْرَةَ سَنَةً } . وجَعَلَهُ أبُو حَنِيفَةَ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً عَلى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنا. وقِيلَ: إنَّ الأشُدَّ واحِدُها شَدٌّ وهو قُوَّةُ الشَّبابِ عِنْدَ ارْتِفاعِهِ، وأصْلُهُ مِن شَدِّ النَّهارِ وهو قُوَّةُ الضِّياءِ عِنْدَ ارْتِفاعِهِ؛ قالَ الشّاعِرُ: ؎تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهارِ ظَعِينَةٌ طَوِيلَةُ أنْقاءِ اليَدَيْنِ سَحُوقُ * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ فِيهِ أمَرَ بِإيفاءِ الحُقُوقِ عَلى الكَمالِ؛ ولَمّا كانَ الكَيْلُ والوَزْنُ يَتَعَذَّرُ فِيهِما التَّحْدِيدُ بِأقَلِّ القَلِيلِ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْنا ذَلِكَ وإنَّما كَلَّفَنا الِاجْتِهادَ في التَّحَرِّي دُونَ حَقِيقَةِ الكَيْلِ والوَزْنِ، وهَذا أصْلٌ في جَوازِ الِاجْتِهادِ في الأحْكامِ وأنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وإنْ كانَتِ الحَقِيقَةُ المَطْلُوبَةُ بِالِاجْتِهادِ واحِدَةً؛ لِأنّا قَدْ عَلِمْنا أنَّ لِلْمِقْدارِ المَطْلُوبِ مِنَ الكَيْلِ حَقِيقَةً مَعْلُومَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعالى قَدْ أمَرَنا بِتَحَرِّيها والِاجْتِهادِ فِيها ولَمْ يُكَلِّفْنا إصابَتَها؛ إذْ لَمْ يَجْعَلْ لَنا دَلِيلًا عَلَيْها، فَكانَ كُلُّ (p-١٩٧)ما أدّانا إلَيْهِ اجْتِهادُنا مِن ذَلِكَ فَهو الحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنا بِهِ. وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قاصِرًا عَنْ تِلْكَ الحَقِيقَةِ أوْ زائِدًا عَلَيْها، ولَكِنَّهُ لَمّا لَمْ يَجْعَلْ لَنا سَبِيلًا إلَيْها أسْقَطَ حُكْمَها عَنّا. ويَدُلُّكَ عَلى أنَّ تِلْكَ الحَقِيقَةَ المَطْلُوبَةَ غَيْرُ مُدْرَكَةٍ يَقِينًا أنَّهُ قَدْ يُكالُ أوْ يُوزَنُ ثُمَّ يُعادُ عَلَيْهِ الكَيْلُ أوِ الوَزْنُ فَيَزِيدُ أوْ يَنْقُصُ لا سِيَّما فِيما كَثُرَ مِقْدارُهُ؛ ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] في هَذا المَوْضِعِ، يَعْنِي أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أكْثَرُ مِمّا يَتَحَرّاهُ بِاجْتِهادِهِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ عِيسى بْنُ أبانَ بِأمْرِ الكَيْلِ والوَزْنِ عَلى حُكْمِ المُجْتَهِدِينَ في الأحْكامِ وشَبَّهَهُ بِهِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ قَدِ انْتَظَمَ ذَلِكَ تَحَرِّي الصِّدْقِ وعَدْلَ القَوْلِ في الشَّهاداتِ والأخْبارِ والحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ والتَّسْوِيَةِ بَيْنَ القَرِيبِ والبَعِيدِ فِيهِ، وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا﴾ [النساء: ١٣٥] وقَدْ بَيَّنّا حُكْمَ ذَلِكَ فِيما تَقَدَّمَ في مَوْضِعِهِ. وقَدِ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا﴾ مَصالِحَ الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ لِأنَّ مَن تَحَرّى صِدْقَ القَوْلِ في العَدْلِ فَهو أنْ يَتَحَرّى العَدْلَ في الفِعْلِ أحْرى، ومَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ حازَ خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ نَسْألُ اللَّهَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِذَلِكَ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبِعَهْدِ اللَّهِ أوْفُوا﴾ عَهْدُ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلى أوامِرِهِ وزَواجِرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يا بَنِي آدَمَ﴾ [يس: ٦٠] وقَدْ يَتَناوَلُ المَنذُورَ وما يُوجِبُهُ العَبْدُ عَلى نَفْسِهِ مِنَ القُرَبِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ [النحل: ٩١]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب