الباحث القرآني

ومِن سُورَةِ المُجادَلَةِ ﷽ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ رَوى سُفْيانُ عَنْ خالِدٍ عَنْ أبِي قِلابَةَ قالَ: " كانَ طَلاقُهم في الجاهِلِيَّةِ الإيلاءَ والظِّهارَ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ جَعَلَ اللَّهُ في الظِّهارِ ما جَعَلَ فِيهِ، وجَعَلَ في الإيلاءِ ما جَعَلَ فِيهِ. " وقالَ عِكْرِمَةُ: " كانَتِ النِّساءُ تُحَرَّمُ بِالظِّهارِ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها﴾ الآيَةَ " . وأمّا المُجادَلَةُ الَّتِي كانَتْ في المَرْأةِ، فَإنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ أبِي إسْحاقَ في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها﴾ " في امْرَأةٍ يُقالُ لَها خُوَيْلَةُ " وقالَ عِكْرِمَةُ: بِنْتُ ثَعْلَبَةَ وزَوْجُها أوْسُ بْنُ (p-٣٠٢)الصّامِتِ، قالَتْ إنَّ زَوْجَها جَعَلَها عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ما أُراكِ إلّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» وهو يَوْمَئِذٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، فَقالَتْ: اُنْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِداكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ قالَ: «ما أُراكِ إلّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَأعادَتْ ذَلِكَ مِرارًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] قالَ قَتادَةُ: " حَرَّمَها ثُمَّ يُرِيدُ أنْ يَعُودَ لَها فَيَطَأها فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا " . قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ما أُراكِ إلّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الطَّلاقِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهارِ، ومُحْتَمَلٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الظِّهارِ؛ والأوْلى أنْ يَكُونَ المُرادُ تَحْرِيمَ الطَّلاقِ لِأنَّ حُكْمَ الظِّهارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الآيَةِ والآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذا القَوْلِ، فَثَبَتَ أنَّ مُرادَهُ تَحْرِيمُ الطَّلاقِ ورَفْعُ النِّكاحِ؛ وهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ هَذا الحُكْمُ قَدْ كانَ ثابِتًا في الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الظِّهارِ، وإنْ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِن حُكْمِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ. فَإنْ قِيلَ: إنْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ حَكَمَ فِيها بِالطَّلاقِ بِقَوْلِهِ: «ما أُراكِ إلّا قَدْ حَرُمْتِ» فَكَيْفَ حَكَمَ فِيها بِعَيْنِها بِالظِّهارِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالطَّلاقِ بِذَلِكَ القَوْلِ بِعَيْنِهِ في شَخْصٍ بِعَيْنِهِ ؟ وإنَّما النَّسْخُ يُوجِبُ الحُكْمَ في المُسْتَقْبَلِ بِخِلافِ الأوَّلِ في الماضِي قِيلَ لَهُ: لَمْ يَحْكُمِ النَّبِيُّ ﷺ بِالطَّلاقِ، وإنَّما عَلَّقَ القَوْلَ فِيهِ فَقالَ: «ما أُراكِ إلّا قَدْ حَرُمْتِ» فَلَمْ يَقْطَعْ بِالتَّحْرِيمِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ اللَّهُ - تَعالى - قَدْ أعْلَمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أنَّهُ سَيَنْسَخُ هَذا الحُكْمَ ويَنْقُلَهُ مِنَ الطَّلاقِ إلى تَحْرِيمِ الظِّهارِ الآنَ، «فَجَوَّزَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الآيَةَ فَلَمْ يُثْبِتِ الحُكْمَ فِيهِ، فَلَمّا نَزَلَتِ الآيَةُ حَكَمَ فِيها بِمُوجِبِها» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا﴾ يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ - في تَشْبِيهِها بِظَهْرِ الأُمِّ، لِأنَّ الِاسْتِمْتاعَ بِالأُمِّ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وهي لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذا القَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنكم مِن نِسائِهِمْ﴾ وذَلِكَ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الظِّهارَ مَخْصُوصٌ بِهِ المُؤْمِنُونَ دُونَ أهْلِ الذِّمَّةِ فَإنْ قِيلَ فَقَدْ قالَ اللَّهُ: ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] ولَمْ يُخَصِّصِ المَذْكُورِينَ في الثّانِيَةِ قِيلَ لَهُ: المَذْكُورُونَ في الآيَةِ الثّانِيَةِ هُمُ المَذْكُورُونَ في الآيَةِ الأُولى، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ خاصًّا في المُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] فَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ، فَرَوى مَعْمَرٌ عَنْ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] قالَ: " الوَطْءُ، فَإذا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الكَفّارَةُ " وهَذا تَأْوِيلٌ مُخالِفٌ لِلْآيَةِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣] وقَدْ رَوى سُفْيانُ عَنْ ابْنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْ طاوُسٍ قالَ: " إذا تَكَلَّمَ بِالظِّهارِ لَزِمَهُ " ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: (p-٣٠٣)" أنَّهُ إذا قالَ أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتّى يُكَفِّرَ " ورُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهابٍ وقَتادَةَ: " إذا أرادَ جِماعَها لَمْ يَقْرَبْها حَتّى يُكَفِّرَ " . وقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ في مَعْنى العَوْدِ، فَقالَ أصْحابُنا واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " الظِّهارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لا يَرْفَعُهُ إلّا الكَفّارَةُ " ومَعْنى العَوْدِ عِنْدَهُمُ اسْتِباحَةُ وطْئِها فَلا يَفْعَلُهُ إلّا بِكَفّارَةٍ يُقَدِّمُها. وذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ: " لَوْ وطِئَها ثُمَّ ماتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفّارَةٌ " وقالَ الثَّوْرِيُّ: " إذا ظاهَرَ مِنها لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلّا بَعْدَ الكَفّارَةِ، وإنْ طَلَّقَها ثُمَّ تَزَوَّجَها لَمْ يَطَأْها حَتّى يُكَفِّرَ "، وهَذا مُوافِقٌ لِقَوْلِ أصْحابِنا، وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: " إذا أجْمَعَ بَعْدَ الظِّهارِ عَلى إمْساكِها، وإصابَتِها فَقَدْ وجَبَتْ عَلَيْهِ الكَفّارَةُ، فَإنْ طَلَّقَها بَعْدَ الظِّهارِ ولَمْ يُجْمِعْ عَلى إمْساكِها، وإصابَتِها فَلا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، وإنْ تَزَوَّجَها بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّها حَتّى يُكَفِّرَ كَفّارَةَ الظِّهارِ " . وذَكَرَ ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ أنَّهُ إذا ظاهَرَ مِنها ثُمَّ وطِئَها ثُمَّ ماتَتْ فَلا بُدَّ مِنَ الكَفّارَةِ؛ لِأنَّهُ وطِئَ بَعْدَ الظِّهارِ وقالَ أشْهَبُ عَنْ مالِكٍ: " إذا أجْمَعَ بَعْدَ الظِّهارِ عَلى إمْساكِها، وإصابَتِها وطَلَبَ الكَفّارَةَ فَماتَتِ امْرَأتُهُ فَعَلَيْهِ الكَفّارَةُ " وقالَ الحَسَنُ: " إذا أجْمَعَ رَأْيُ المَظاهِرِ عَلى أنْ يُجامِعَ امْرَأتَهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الكَفّارَةُ، وإنْ أرادَ تَرْكَها بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ العَوْدَ هو الإجْماعُ عَلى مُجامَعَتِها " . وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ فِيمَن ظاهَرَ مِنَ امْرَأتِهِ ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَطَأها قالَ: " أرى عَلَيْهِ الكَفّارَةَ راجَعَها أوْ لَمْ يُراجِعْها، وإنْ ماتَتْ لَمْ يَصِلْ إلى مِيراثِها حَتّى يُكَفِّرَ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " إنْ أمْكَنَهُ أنْ يُطَلِّقَها بَعْدَ الظِّهارِ فَلَمْ يُطَلِّقْ فَقَدْ وجَبَتِ الكَفّارَةُ ماتَتْ أوْ عاشَتْ " . وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَن لا يُعَدُّ خِلافًا أنَّ العَوْدَ أنْ يُعِيدَ القَوْلَ مَرَّتَيْنِ قالَ أبُو بَكْرٍ: رَوَتْ عائِشَةُ وأبُو العالِيَةِ أنَّ آيَةَ الظِّهارِ نَزَلَتْ في شَأْنِ خَوْلَةَ حِينَ ظاهَرَ مِنها زَوْجُها أوْسُ بْنُ الصّامِتِ «فَأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَقالَ: لا أجِدُ، فَقالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قالَ: لَوْ لَمْ آكُلْ في اليَوْمِ ثَلاثَ مَرّاتٍ كادَ أنْ يُغْشى عَلى بَصَرِي، فَأمَرَهُ بِالإطْعامِ» وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ العَزْمَ عَلى إمْساكِها ووَطْئِها؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْألْهُ عَنْ ذَلِكَ، وبُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ إرادَةَ الجِماعِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْألْهُ، وبُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الطَّلاقَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَلْ طَلَّقْتَها، وبُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ إعادَةَ القَوْلِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْألْهُ هَلْ أعَدْتَ القَوْلَ مَرَّتَيْنِ؛ فَثَبَتَ قَوْلُ أصْحابِنا وهو أنَّ لَفْظَ الظِّهارِ يُوجِبُ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الكَفّارَةُ. ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى -: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: ذِكْرُ الحالِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ الخِطابُ، وهو أنَّهُ قَدْ كانَ مِن عادَتِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ الظِّهارُ فَقالَ: ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنكم مِن نِسائِهِمْ﴾ قَبْلَ هَذِهِ الحالِ ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] والمَعْنى: ويَعُودُونَ (p-٣٠٤)بَعْدَ الإسْلامِ إلى ذَلِكَ، كَما قالَ - تَعالى -: ﴿فَإلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ [يونس: ٤٦] ومَعْناهُ: واللَّهُ شَهِيدٌ، فَيَكُونُ نَفْسُ القَوْلِ عَوْدًا إلى العادَةِ الَّتِي كانَتْ لَهم في ذَلِكَ، كَما قالَ: ﴿حَتّى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ [يس: ٣٩] والمَعْنى: حَتّى صارَ كَذَلِكَ، وكَما قالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ: ؎هَذِي المَكارِمُ لا قَعْبانِ مِن لَبَنٍ شِيبا بِماءٍ فَعادا بَعْدُ أبْوالًا مَعْناهُ: صارا كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُما في الثَّدْيِ لَمْ يَكُونا كَذَلِكَ وكَما قالَ لَبِيدٌ: ؎وما المَرْءُ إلّا كالشِّهابِ وضَوْئِهِ ∗∗∗ يَحُورُ رَمادًا بَعْدَ إذْ هو ساطِعُ ويَحُورُ يَرْجِعُ، وإنَّما مَعْناهُ هَهُنا يَصِيرُ رَمادًا. كَذَلِكَ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] أنَّهم يَصِيرُونَ إلى حالِ الظِّهارِ الَّذِي كانَ يَكُونُ مِثْلُهُ مِنهم في الجاهِلِيَّةِ. والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ في الظِّهارِ إيجابُ تَحْرِيمِ الوَطْءِ مُوَقَّتًا بِالكَفّارَةِ، فَإذا كانَ الظِّهارُ مَخْصُوصًا بِتَحْرِيمِ الوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ ولا تَأْثِيرَ لَهُ في رَفْعِ النِّكاحِ وجَبَ أنْ يَكُونَ العَوْدُ هو العَوْدَ إلى اسْتِباحَةِ ما حَرَّمَهُ بِالظِّهارِ، فَيَكُونُ مَعْناهُ: يَعُودُونَ لَلْمَقُولِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «العائِدُ في هِبَتِهِ كالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ»، وإنَّما هو عائِدٌ في المَوْهُوبِ، وكَقَوْلِنا: اللَّهُمَّ أنْتَ رَجاؤُنا، أيْ مَن رَجَوْنا؛ وقالَ - تَعالى -: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] يَعْنِي: المُوقَنَ بِهِ وقالَ الشّاعِرُ: ؎أخْبِرْ مَن لاقَيْتَ أنْ قَدْ وفَيْتُمْ ∗∗∗ ولَوْ شِئْتَ قالَ المُنَبِّئُونَ أساءُوا ؎، وإنِّي لَراجِيكم عَلى بُطْءِ سَعْيِكم ∗∗∗ كَما في بُطُونِ الحامِلاتِ رَجاءُ يَعْنِي مَرْجُوًّا وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] مَعْناهُ: لِما حَرَّمُوا، فَيَسْتَبِيحُونَهُ فَعَلَيْهِمُ الكَفّارَةُ قَبْلَ الِاسْتِباحَةِ ويَبْطُلُ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ البَقاءَ عَلى النِّكاحِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الظِّهارَ لا يُوجِبُ تَحْرِيمَ العَقْدِ والإمْساكَ فَيَكُونُ العَوْدُ إمْساكَها عَلى النِّكاحِ؛ لِأنَّ العَوْدَ لا مَحالَةَ قَدِ اقْتَضى عَوْدًا إلى حُكْمِ مَعْنًى قَدْ تَقَدَّمَ إيجابُهُ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْإمْساكِ عَلى النِّكاحِ فِيهِ تَأْثِيرٌ. والثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ [المجادلة: ٣] و" ثُمَّ " يَقْتَضِي التَّراخِيَ، ومَن جَعَلَ العَوْدَ البَقاءَ عَلى النِّكاحِ فَقَدْ جَعَلَهُ عائِدًا عَقِيبَ القَوْلِ بِلا تَراخٍ، وذَلِكَ خِلافُ مُقْتَضى الآيَةِ. وأمّا مَن جَعَلَ العَوْدَ العَزِيمَةَ عَلى الوَطْءِ فَلا مَعْنى لِقَوْلِهِ أيْضًا؛ لِأنَّ مُوجِبَ القَوْلِ هو تَحْرِيمُ الوَطْءِ لا تَحْرِيمُ العَزِيمَةِ، والعَزِيمَةُ عَلى المَحْظُورِ، وإنْ كانَتْ مَحْظُورَةً فَإنَّما تَعَلَّقَ حُكْمُها بِالوَطْءِ، فالعَزِيمَةُ عَلى الِانْفِرادِ لا حُكْمَ لَها، وأيْضًا لا حَظَّ لِلْعَزِيمَةِ في سائِرِ الأُصُولِ ولا (p-٣٠٥)تَتَعَلَّقُ بِها الأحْكامُ، ألا تَرى أنَّ سائِرَ العُقُودِ، والتَّحْرِيمَ لا يَتَعَلَّقُ بِالعَزِيمَةِ فَلا اعْتِبارَ بِها ؟ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ عَفا لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أوْ يَعْمَلُوا بِهِ» فَإنْ قِيلَ: هَلّا كانَ العَوْدُ إعادَةَ القَوْلِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْهُ كَما قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] ومَعْناهُ لَفَعَلُوا مِثْلَ ما نُهُوا عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: هَذا خَطَأٌ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّ إجْماعَ السَّلَفِ والخَلَفِ جَمِيعًا قَدِ انْعَقَدَ بِأنَّ هَذا لَيْسَ بِمُرادٍ، فَقائِلُهُ خارِجٌ عَنْ نِطاقِ الإجْماعِ. والثّانِي: أنَّهُ يَجْعَلُ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣] تَكْرارًا لِلْقَوْلِ واللَّفْظِ مَرَّتَيْنِ، واللَّهُ - تَعالى - لَمْ يَقُلْ ثُمَّ يُكَرِّرُونَ القَوْلَ مَرَّتَيْنِ، فَفِيهِ إثْباتُ مَعْنًى لا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْهُ. وإنْ حَمَلْتَهُ عَلى أنَّهُ عائِدٌ لِمِثْلِ القَوْلِ فَفِيهِ إضْمارٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ القَوْلِ وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا بِدَلالَةٍ، فالقائِلُ بِذَلِكَ خارِجٌ عَنِ الإجْماعِ ومُخالِفٌ لِحُكْمِ الآيَةِ ومُقْتَضاها فَإنْ قِيلَ: وأنْتَ إذا حَمَلْتَهُ عَلى تَحْرِيمِ الوَطْءِ وأنَّ تَقْدِيمَ الكَفّارَةِ لِاسْتِباحَةِ الوَطْءِ فَقَدْ زُلْتَ عَنِ الظّاهِرِ قِيلَ لَهُ: إذا كانَ الظِّهارُ قَدْ أوْجَبَ تَحْرِيمَ الوَطْءِ فاَلَّذِي يَسْتَبِيحُهُ مِنهُ هو الَّذِي حَرَّمَهُ بِالقَوْلِ، فَجازَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَوْدًا لِما قالَ؛ إذْ هو مُسْتَبِيحٌ لِذَلِكَ الوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ بِعَيْنِهِ وكانَ عَوْدًا لِما قالَ مِن إيجابِ التَّحْرِيمِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الوَطْءَ إذا كانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ النِّكاحِ، وحُكْمُ الوَطْءِ الثّانِي كالأوَّلِ في أنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ واحِدٍ ثُمَّ حَرَّمَهُ بِالظِّهارِ، جازَ أنْ يَكُونَ الإقْدامُ عَلى اسْتِباحَتِهِ عَوْدًا لِما حَرَّمَ فَكانَ هَذا المَعْنى مُطابِقًا لِلَّفْظِ. فَإنْ قِيلَ: إنْ كانَتِ الِاسْتِباحَةُ هي المُوجِبَةَ لِلْكَفّارَةِ فَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ مِن أنْ يَكُونَ العَزِيمَةَ عَلى الِاسْتِباحَةِ وعَلى الإقْدامِ عَلى الوَطْءِ أوْ إيقاعِ الوَطْءِ، فَإنْ كانَ المُرادُ الأوَّلَ فَهَذا يُلْزِمُكَ إيجابَ الكَفّارَةِ بِنَفْسِ العَزِيمَةِ قَبْلَ الوَطْءِ كَما قالَ مالِكٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ. وإنْ كانَ المُرادُ إيقاعَ الوَطْءِ فَواجِبٌ أنْ لا تَلْزَمَهُ الكَفّارَةُ إلّا بَعْدَ الوَطْءِ، وهَذا خِلافُ الآيَةِ، ولَيْسَ هو قَوْلُكَ أيْضًا. قِيلَ لَهُ: المَعْنى في ذَلِكَ هو ما قَدْ بَيَّنّا مِنَ الإقْدامِ عَلى اسْتِباحَةِ الوَطْءِ، فَقِيلَ لَهُ: إذا أرَدْتَ الوَطْءَ وعُدْتَ لِاسْتِباحَةِ ما حَرَّمْتَهُ فَلا تَطَأْ حَتّى تُكَفِّرَ، لا أنَّ الكَفّارَةَ واجِبَةٌ ولَكِنَّها شَرْطٌ في رَفْعِ التَّحْرِيمِ، كَقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] يَعْنِي فَقَدِّمُ الِاسْتِعاذَةَ قَبْلَ القِراءَةِ، وقَوْلِهِ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] والمَعْنى: إذا أرَدْتُمُ القِيامَ وأنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَقَدِّمُوا الغَسْلَ. وكَقَوْلِهِ: ﴿إذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكم صَدَقَةً﴾ [المجادلة: ١٢] وكَقَوْلِهِ: ﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] (p-٣٠٦)والمَعْنى: إذا أرَدْتُمْ ذَلِكَ. قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا أنَّ الظِّهارَ لا يُوجِبُ كَفّارَةً، وإنَّما يُوجِبُ تَحْرِيمَ الوَطْءِ، ولا يَرْتَفِعُ إلّا بِالكَفّارَةِ، فَإذا لَمْ يُرِدْ وطْأها فَلا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، وإنْ ماتَتْ أوْ عاشَتْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ إذْ كانَ حُكْمُ الظِّهارِ إيجابَ التَّحْرِيمِ فَقَطْ مُوَقَّتًا بِأداءِ الكَفّارَةِ، وأنَّهُ مَتى لَمْ يُكَفِّرْ فالوَطْءُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ فَإنْ وطِئَ سَقَطَ الظِّهارُ والكَفّارَةُ وذَلِكَ لِأنَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الظِّهارِ وما أوْجَبَ بِهِ مِنَ الكَفّارَةِ بِأدائِها قَبْلَ الوَطْءِ لِقَوْلِهِ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣] فَمَتى وقَعَ المَسِيسُ فَقَدْ فاتَ الشَّرْطُ فَلا تَجِبُ الكَفّارَةُ بِالآيَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ أوْ مُعَلَّقٍ عَلى شَرْطٍ فَإنَّهُ مَتى فاتَ الوَقْتُ وعَدِمَ الشَّرْطُ لَمْ يَجِبْ بِاللَّفْظِ الأوَّلِ واحْتِيجَ إلى دَلالَةٍ أُخْرى في إيجابِ مِثْلِهِ في الوَقْتِ الثّانِي. فَهَذا حُكْمُ الظِّهارِ إذا وقَعَ المَسِيسُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، إلّا أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ رَجُلًا ظاهَرَ مِنَ امْرَأتِهِ فَوَطِئَها قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ سَألَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ لَهُ: «اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ولا تَعُدْ حَتّى تُكَفِّرَ» فَصارَ التَّحْرِيمُ الَّذِي بَعْدَ الوَطْءِ واجِبًا بِالسُّنَّةِ، وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَن وطِئَ ما الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الكَفّارَةِ بَعْدَهُ، فَقالَ الحَسَنُ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ وإبْراهِيمُ وابْنُ المُسَيِّبِ: " لَيْسَ عَلَيْهِ إلّا كَفّارَةٌ واحِدَةٌ "، وكَذَلِكَ قَوْلُ مُجاهِدٍ وطاوُسٍ وابْنِ سِيرِينَ في آخَرِينَ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ وقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ والزُّهْرِيِّ وقَتادَةَ " عَلَيْهِ كَفّارَتانِ " . قالَ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ظاهَرْتُ مِنَ امْرَأتِي فَجامَعْتُها قَبْلَ أنْ أُكَفِّرَ ؟ فَقالَ: «اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ولا تَعُدْ حَتّى تُكَفِّرَ» فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفّارَتَيْنِ بَعْدَ الوَطْءِ. واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في تَوْقِيتِ الظِّهارِ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ: " إذا قالَ أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي اليَوْمَ بَطَلَ الظِّهارُ بِمُضِيِّ اليَوْمِ "، وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى ومالِكٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " هو مُظاهِرٌ أبَدًا " قالَ أبُو بَكْرٍ: تَحْرِيمُ الظِّهارِ لا يَقَعُ إلّا مُوَقَّتًا بِأداءِ الكَفّارَةِ، فَإذا وقَّتَهُ المُظاهِرُ وجَبَ تَوْقِيتُهُ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مِمّا لا يَتَوَقَّتُ لَما انْحَلَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بِالتَّكْفِيرِ كالطَّلاقِ، فَأشْبَهَ الظِّهارُ اليَمِينَ الَّتِي يُحِلُّها الحِنْثُ، فَوَجَبَ تَوْقِيتُهُ كَما يَتَوَقَّتُ اليَمِينُ ولَيْسَ كالطَّلاقِ؛ لِأنَّهُ لا يُحِلُّهُ شَيْءٌ. فَإنْ قِيلَ: تَحْرِيمُ الطَّلاقِ الثَّلاثِ يَقَعُ مُوَقَّتًا بِالزَّوْجِ الثّانِي ولا يَتَوَقَّتُ بِتَوْقِيتِ الزَّوْجِ إذا قالَ أنْتِ طالِقٌ اليَوْمَ قِيلَ لَهُ: إنَّ الطَّلاقَ لا يَتَوَقَّتُ بِالزَّوْجِ الثّانِي، وإنَّما يَسْتَفِيدُ الزَّوْجُ الأوَّلُ بِالزَّوْجِ الثّانِي إذا تَزَوَّجَها بَعْدَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ مُسْتَقْبَلاتٍ والثَّلاثُ الأُوَلُ واقِعَةٌ عَلى ما كانَتْ. وإنَّما اسْتَفادَ طَلاقًا غَيْرَها، فَلَيْسَ في الطَّلاقِ تَوْقِيتٌ بِحالٍ، والظِّهارُ مُوَقَّتٌ لا مَحالَةَ بِالتَّكْفِيرِ فَجازَ تَوْقِيتُهُ بِالشَّرْطِ، واخْتَلَفُوا في الظِّهارِ هَلْ يَدْخُلُ (p-٣٠٧)عَلَيْهِ إيلاءٌ ؟ فَقالَ أصْحابُنا والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والثَّوْرِيُّ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ والأوْزاعِيُّ " لا يَدْخُلُ الإيلاءُ عَلى المُظاهِرِ، وإنْ طالَ تَرْكُهُ إيّاها " ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ " لا يَدْخُلُ عَلى حُرٍّ إيلاءٌ في ظِهارٍ إلّا أنْ يَكُونَ مُضارًّا لا يُرِيدُ أنْ يَفِيءَ مِن ظِهارِهِ. وأمّا العَبْدُ فَلا يَدْخُلُ عَلى ظِهارِهِ إيلاءٌ " . وقالَ ابْنِ القاسِمِ عَنْهُ " يَدْخُلُ الإيلاءُ عَلى الظِّهارِ إذا كانَ مُضارًّا ومِمّا يُعْلَمُ بِهِ ضِرارُهُ أنْ يَقْدِرَ عَلى الكَفّارَةِ فَلا يُكَفِّرُ فَإنَّهُ إذا عُلِمَ ذَلِكَ وُقِفَ مِثْلُ المُولِي فَإمّا كَفَّرَ، وإمّا طُلِّقَتْ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ " . ورُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أنَّ الإيلاءَ يَدْخُلُ عَلى الظِّهارِ قالَ أبُو بَكْرٍ لَيْسَ الظِّهارُ كِنايَةً عَنِ الطَّلاقِ ولا صَرِيحًا فَلا يَجُوزُ إثْباتُ الطَّلاقِ بِهِ إلّا بِتَوْقِيفٍ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «مَن أدْخَلَ في أمْرِنا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ» ومَن أدْخَلَ الإيلاءَ عَلى المُظاهِرِ فَقَدْ أدْخَلَ عَلَيْهِ ما لَيْسَ مِنهُ وأيْضًا نَصَّ اللَّهُ عَلى حُكْمِ المُولِي بِالفَيْءِ أوْ عَزِيمَةِ الطَّلاقِ. ونَصَّ عَلى حُكْمِ المُظاهِرِ بِإيجابِ كَفّارَةٍ قَبْلَ المَسِيسِ فَحُكْمُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مَنصُوصٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ جائِزٍ حَمْلُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ؛ إذْ مِن حُكْمِ المَنصُوصاتِ أنْ لا يُقاسَ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ وأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنها مُجْرًى عَلى بابِهِ، ومَحْمُولٌ عَلى مَعْناهُ دُونَ غَيْرِهِ، وأيْضًا فَإنَّ مَعْنى الإيلاءِ وُقُوعُ الحِنْثِ ووُجُوبُ الكَفّارَةِ بِالوَطْءِ في المُدَّةِ ولا تَتَعَلَّقُ كَفّارَةُ الظِّهارِ بِالوَطْءِ فَلَيْسَ هو إذًا في مَعْنى الإيلاءِ ولا في حُكْمِهِ، وأيْضًا فَإنَّ المُولى سَواءٌ قَصَدَ الضِّرارَ أوْ لَمْ يَقْصِدْ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وقَدِ اتَّفَقْنا أنَّهُ مَتى لَمْ يَقْصِدِ الضِّرارَ بِالظِّهارِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الإيلاءِ بِمُضِيِّ المُدَّةِ فَوَجَبَ أنْ لا يَلْزَمَهُ، وإنْ قَصَدَ الضِّرارَ فَإنْ قِيلَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ في الإيلاءِ؛ لِأنَّ نَفْسَ الإيلاءِ يُنْبِئُ عَنْ قَصْدِ الضِّرارِ؛ إذْ هو حَلِفٌ عَلى الِامْتِناعِ مِنَ الوَطْءِ في المُدَّةِ. قِيلَ لَهُ: الظِّهارُ قَصْدٌ إلى الضِّرارِ مِن حَيْثُ حَرَّمَ وطْأها إلّا بِكَفّارَةٍ يُقَدِّمُها عَلَيْهِ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما فِيما يَقْتَضِيانِهِ مِنَ المُضارَّةِ، واخْتَلَفَ السَّلَفُ ومَن بَعْدَهم وفُقَهاءُ الأمْصارِ في الظِّهارِ مِنَ الأمَةِ فَرَوى عَبْدُ الكَرِيمِ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ " مَن شاءَ باهَلْتُهُ أنَّهُ لَيْسَ مِن أمَةٍ ظِهارٌ " وهَذا قَوْلُ إبْراهِيمَ والشَّعْبِيِّ وابْنِ المُسَيِّبِ وهو قَوْلُ أصْحابِنا والشّافِعِيِّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ والنَّخَعِيُّ وعَطاءٍ وطاوُسٍ وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ قالُوا: " هو ظِهارٌ "، وهو قَوْلُ مالِكٍ والثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ واللَّيْثِ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، وقالُوا: " يَكُونُ مُظاهِرًا مِن أمَتِهِ كَما هو مِن زَوْجَتِهِ " . وقالَ الحَسَنُ: " إنْ كانَ يَطَأُها فَهو مُظاهِرٌ، وإنْ كانَ لا يَطَأُها فَلَيْسَ بِظِهارٍ " قالَ أبُو بَكْرٍ: قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [المجادلة: ٣] وهَذا اللَّفْظُ يَنْصَرِفُ مِنَ الظِّهارِ إلى الحَرائِرِ دُونَ الإماءِ، والدَّلِيلُ (p-٣٠٨)عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ نِسائِهِنَّ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُنَّ﴾ [النور: ٣١] فَكانَ المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أوْ نِسائِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] الحَرائِرَ، لَوْلا ذَلِكَ لَما صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُنَّ﴾ [النور: ٣١] عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ لا يُعْطَفُ عَلى نَفْسِهِ، وقالَ - تَعالى -: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] فَكانَ عَلى الزَّوْجاتِ دُونَ مِلْكِ اليَمِينِ فَلَمّا كانَ حُكْمُ الظِّهارِ مَأْخُوذًا مِنَ الآيَةِ، وكانَ مُقْتَضاها مَقْصُورًا عَلى الزَّوْجاتِ دُونَ مِلْكِ اليَمِينِ، لَمْ يَجُزْ إيجابُهُ في مِلْكِ اليَمِينِ، إذْ لا مَدْخَلَ لِلْقِياسِ في إثْباتِ ظِهارٍ في غَيْرِ ما ورَدَ فِيهِ ووَجْهٌ آخَرُ، وهو ما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ أنَّهم قَدْ كانُوا يُطَلِّقُونَ بِلَفْظِ الظِّهارِ، فَأبْدَلَ اللَّهُ - تَعالى - بِهِ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الكَفّارَةُ، فَلَمّا لَمْ يَصِحَّ طَلاقُ الأمَةِ لَمْ يَصِحَّ الظِّهارُ مِنها. ووَجْهٌ آخَرُ، وهو: أنَّ الظِّهارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مِن جِهَةِ القَوْلِ يُوجِبُ الكَفّارَةَ، والأمَةُ لا يَصِحُّ تَحْرِيمُها مِن جِهَةِ القَوْلِ، فَأشْبَهَ سائِرَ المَمْلُوكاتِ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ مَتى حَرَّمَها بِالقَوْلِ لَمْ تَحْرُمْ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ طَعامًا أوْ شَرابًا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وإنَّما يَلْزَمُهُ إذا أكَلَ أوْ شَرِبَ كَفّارَةُ يَمِينٍ ؟ فَكَذَلِكَ مِلْكُ اليَمِينِ وجَبَ أنْ لا يَصِحَّ الظِّهارُ مِنها؛ إذْ لا يَصِحُّ تَحْرِيمُها مِن جِهَةِ القَوْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب