الباحث القرآني
* بابُ تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ والطَّيِّباتُ اسْمٌ يَقَعُ عَلى ما يُسْتَلَذُّ ويُشْتَهى ويَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ، ويَقَعُ عَلى الحَلالِ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادُ الآيَةِ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِما، فَيَكُونَ تَحْرِيمُ الحَلالِ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَقُولَ: " قَدْ حَرَّمْتُ هَذا الطَّعامَ عَلى نَفْسِي " فَلا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِ الكَفّارَةُ إنْ أكَلَ مِنهُ.
والثّانِي: أنْ يَغْصِبَ طَعامَ غَيْرِهِ فَيَخْلِطَهُ بِطَعامِهِ فَيُحَرِّمَهُ عَلى نَفْسِهِ حَتّى يَغْرَمَ لِصاحِبِهِ مِثْلَهُ.
رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي إذا أكَلْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ فَحَرَّمْتُهُ عَلى نَفْسِي فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾» الآيَةَ.
ورَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كانَ ناسٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَمُّوا بِتَرْكِ اللَّحْمِ والنِّساءِ والِاخْتِصاءِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الآيَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: «لَيْسَ في دِينِي تَرْكُ (p-١١٠)النِّساءِ ولا اللَّحْمِ ولا اتِّخاذُ الصَّوامِعِ» .
ورَوى مَسْرُوقٌ قالَ: كُنّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَأُتِيَ بِضَرْعٍ، فَتَنَحّى رَجُلٌ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُهْ فَكُلْ فَقالَ: إنِّي كُنْتُ حَرَّمْتُ الضَّرْعَ؛ فَتَلا عَبْدُ اللَّهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كُلْ وكَفِّرْ وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّمَ مارِيَةَ؛ ورُوِيَ أنَّهُ حَرَّمَ العَسَلَ عَلى نَفْسِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ وأمَرَهُ بِالكَفّارَةِ. وكَذَلِكَ قالَ أكْثَرُ أهْلِ العَلَمِ فِيمَن حَرَّمَ طَعامًا أوْ جارِيَةً عَلى نَفْسِهِ أنَّهُ إنْ أكَلَ مِنَ الطَّعامِ حَنِثَ، وكَذَلِكَ إنْ وطِئَ الجارِيَةَ لَزِمَتْهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ.
وفَرَّقَ أصْحابُنا بَيْنَ مَن قالَ: " واَللَّهِ لا آكُلُ هَذا الطَّعامَ " وبَيْنَ قَوْلِهِ: " حَرَّمْتُهُ عَلى نَفْسِي " فَقالُوا في التَّحْرِيمِ: إنْ أكَلَ الجُزْءَ مِنهُ حَنِثَ، وفي اليَمِينِ لا يَحْنَثُ إلّا بِأكْلِ الجَمِيعِ؛ وجَعَلُوا تَحْرِيمَهُ إيّاهُ عَلى نَفْسِهِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: " واَللَّهِ لا أكَلْتُ مِنهُ شَيْئًا "؛ إذْ كانَ ذَلِكَ مُقْتَضى لَفْظِ التَّحْرِيمِ في سائِرِ ما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: ٣] اقْتَضى اللَّفْظُ تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنهُ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الإنْسانِ طَعامًا يَقْتَضِي إيجابَ اليَمِينِ في أكْلِ الجُزْءِ مِنهُ. وأمّا اليَمِينُ بِاَللَّهِ في نَفْيِ أكْلِ هَذا الطَّعامِ فَإنَّها مَحْمُولَةٌ عَلى الأيْمانِ المُنْتَظِمَةِ لِلشُّرُوطِ والجَوابِ، كَقَوْلِ القائِلِ: " إنْ أكَلْتَ هَذا الطَّعامَ فَعَبْدِي حَرٌّ " فَلا يَحْنَثُ بِأكْلِ البَعْضِ مِنهُ حَتّى يَسْتَوْفِيَ أكْلَ الجَمِيعِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: ٩٣] فَرُوِيَ أنَّ إسْرائِيلَ أخَذَهُ عِرْقُ النَّسا، فَحَرَّمَ أحَبَّ الأشْياءِ إلَيْهِ وهو لُحُومُ الإبِلِ إنْ عافاهُ اللَّهُ، فَكانَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا صَحِيحًا حاظِرًا لِما حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: هو مَنسُوخٌ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ ﷺ .
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُمْتَنِعِينَ مِن أكْلِ اللُّحُومِ والأطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ تَزَهُّدًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ نَهى عَنْ تَحْرِيمِها وأخْبَرَ بِإباحَتِها في قَوْلِهِ: ﴿وكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا﴾ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا فَضِيلَةَ في الِامْتِناعِ مِن أكْلِها. وقَدْ رَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ أنَّهُ «رَأى النَّبِيَّ ﷺ يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجاجِ» . ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ والبِطِّيخَ. ورَوى غالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أرادَ أنْ يَأْكُلَ الدَّجاجَةَ حَبَسَها ثَلاثَةَ أيّامٍ فَعَلَفَها ثُمَّ أكَلَها» .
ورَوى إبْراهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طاوُسٍ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: " كُلْ ما شِئْتَ واكْتَسِ ما أخْطَأْتَ اثْنَتَيْنِ سَرَفًا أوْ مَخِيلَةً " . وقَدْ رُوِيَ أنَّ عُثْمانَ وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ والحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أوْفى وعِمْرانَ بْنَ حُصَيْنٍ وأنَسَ (p-١١١)بْنَ مالِكٍ وأبا هُرَيْرَةَ وشُرَيْحًا كانُوا يَلْبَسُونَ الخَزَّ. ويَدُلُّ عَلى نَحْوِ دَلالَةِ الآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنا في أكْلِ إباحَةِ الطَّيِّباتِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢] وقَوْلُهُ عَقِيبَ ذِكْرِهِ لِما خَلَقَ مِنَ الفَواكِهِ: ﴿مَتاعًا لَكُمْ﴾ [النازعات: ٣٣]
* * *
ويُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ في تَحْرِيمِ إيقاعِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ لِما فِيهِ مِن تَحْرِيمِ المُباحِ مِنَ المَرْأةِ.
{"ayahs_start":87,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحَرِّمُوا۟ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ","وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق