الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ يَعْنِي الآيَةَ سَألُوها الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَأعْطاهُمُ اللَّهُ إيّاها. وهَذا تَصْدِيقُ تَأْوِيلِ مِقْسَمٍ. فَأمّا السُّؤالُ عَنْ أحْكامٍ غَيْرِ مَنصُوصَةٍ فَلَمْ يَدْخُلْ في حَظْرِ الآيَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ ناجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ لَمّا بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَهُ البُدْنَ لِيَنْحَرَها بِمَكَّةَ قالَ: كَيْفَ أصْنَعُ بِما عَطِبَ مِنها ؟ فَقالَ: «انْحَرْها واصْبُغْ نَعْلَها بِدَمِها واضْرِبْ بِها صَفْحَتَها وخَلِّ بَيْنَها وبَيْنَ النّاسِ ولا تَأْكُلْ أنْتَ ولا أحَدٌ مِن أهْلِ رُفْقَتِكَ شَيْئًا» ولَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ ﷺ سُؤالَهُ. وفي حَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أنَّهم سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ: إنّا لاقُو العَدُوِّ غَدًا ولَيْسَ مَعَنا مُدًى، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وحَدِيثُ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ في الرَّجُلِ الَّذِي سَألَهُ عَمّا يَصْنَعُ في عُمْرَتِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وأحادِيثُ كَثِيرَةٌ في سُؤالِ قَوْمٍ سَألُوهُ عَنْ أحْكامِ شَرائِعِ الدِّينِ فِيما لَيْسَ بِمَنصُوصٍ عَلَيْهِ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلى أحَدٍ. ورَوى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ «إنِّي أُرِيدُ أنْ أسْألَكَ عَنْ أمْرٍ ويَمْنَعُنِي مَكانُ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١] فَقالَ: ما هو ؟ قُلْتُ: العَمَلُ الَّذِي يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ ؟ قالَ: قَدْ سَألْتَ عَظِيمًا وإنَّهُ لَيَسِيرٌ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنِّي رَسُولُ اللَّهِ وإقامُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وحَجُّ البَيْتِ وصَوْمُ رَمَضانَ» فَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّؤالَ ولَمْ يُنْكِرْهُ. وذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ الأحْنَفِ عَنْ عُمَرَ قالَ: ( تَفَقَّهُوا قَبْلَ أنْ تَسَوَّدُوا)، وكانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَجْتَمِعُونَ في المَسْجِدِ يَتَذاكَرُونَ حَوادِثَ المَسائِلِ (p-١٥٣)فِي الأحْكامِ، وعَلى هَذا المِنهاجِ جَرى أمْرُ التّابِعِينَ ومَن بَعْدَهم مِنَ الفُقَهاءِ إلى يَوْمِنا هَذا. وإنَّما أنْكَرَ هَذا قَوْمٌ حَشْوٌ جُهّالٌ قَدْ حَمَلُوا أشْياءَ مِنَ الأخْبارِ لا عِلْمَ لَهم بِمَعانِيها وأحْكامِها فَعَجَزُوا عَنِ الكَلامِ فِيها واسْتِنْباطِ فِقْهِها، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رُبَّ حامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ورُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَن هو أفْقَهُ مِنهُ» وهَذِهِ الطّائِفَةُ المُنْكِرَةُ لِذَلِكَ كَمَن قالَ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ [الجمعة: ٥] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١] مَعْناهُ: إنْ تَظْهَرْ لَكم، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُرادَهُ فِيمَن سَألَ مِثْلَ سُؤالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذافَةَ والرَّجُلِ الَّذِي قالَ أيْنَ أنا؛ لِأنَّ إظْهارَ أحْكامِ الحَوادِثِ لا يَسُوءُ السّائِلِينَ؛ لِأنَّهم إنَّما يَسْألُونَ عَنْها لِيَعْلَمُوا أحْكامَ اللَّهِ تَعالى فِيها. ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ تَسْألُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١] يَعْنِي: في حالِ نُزُولِ المَلَكِ وتِلاوَتِهِ القُرْآنَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ أنَّ اللَّهَ يُظْهِرُها لَكم وذَلِكَ مِمّا يَسُوءُكم ويَضُرُّكم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ [المائدة: ١٠١] يَعْنِي هَذا الضَّرْبَ مِنَ المَسائِلِ لَمْ يُؤاخِذْكُمُ اللَّهُ بِها بِالبَحْثِ عَنْها والكَشْفِ عَنْ حَقائِقِها. والعَفْوُ في هَذا المَوْضِعِ التَّسْهِيلُ والتَّوْسِعَةُ في إباحَةِ تَرْكِ السُّؤالِ عَنْها، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] ومَعْناهُ: سَهَّلَ عَلَيْكم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ( الحَلالُ ما أحَلَّ اللَّهُ، والحَرامُ ما حَرَّمَ اللَّهُ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَهو عَفْوٌ ) يَعْنِي تَسْهِيلٌ وتَوْسِعَةٌ؛ ومِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «عَفَوْتُ لَكم عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ» . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ( قَوْمُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَألُوا المائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِها ) . وقالَ غَيْرُهُ: ( قَوْمُ صالِحٍ سَألُوا النّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوها وكَفَرُوا بِها ) . وقالَ السُّدِّيُّ: ( هَذا حِينَ سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ أنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفا ذَهَبًا ) . وقِيلَ إنَّ قَوْمًا سَألُوا نَبِيَّهم عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي سَألَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذافَةَ ومَن قالَ أيْنَ أنا فَلَمّا أخْبَرَهم بِهِ نَبِيُّهم ساءَهم فَكَذَّبُوا بِهِ وكَفَرُوا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وصِيلَةٍ ولا حامٍ﴾ رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: ( البُحَيْرَةُ مِنَ الإبِلِ يُمْنَعُ دَرُّها لِلطَّواغِيتِ، والسّائِبَةُ مِنَ الإبِلِ كانُوا يُسَيِّبُونَها لَطَواغِيتِهِمْ، والوَصِيلَةُ كانَتِ النّاقَةُ تُبَكِّرُ بِالأُنْثى ثُمَّ تُثْنِي بِالأُنْثى فَيُسَمُّونَها الوَصِيلَةَ يَقُولُونَ وصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُما ذَكَرٌ، فَكانُوا يَذْبَحُونَها لَطَواغِيتِهِمْ، والحامِي الفَحْلُ مِنَ الإبِلِ كانَ يَضْرِبُ الضِّرابَ المَعْدُودَ فَإذا بَلَغَ ذَلِكَ يُقالُ حَمى ظَهْرَهُ فَيُتْرَكُ فَيُسَمُّونَهُ الحامِيَ ) . وقالَ أهْلُ اللُّغَةِ: البُحَيْرَةُ النّاقَةُ الَّتِي تُشَقُّ أُذُنُها، يُقالُ: بَحَرْتُ أُذُنَ النّاقَةِ أبَحَرُها بَحْرًا، والنّاقَةُ مَبْحُورَةٌ وبُحَيْرَةٌ، إذا شَقَقْتَها واسِعًا؛ ومِنهُ البَحْرُ لَسَعَتِهِ؛ قالَ: وكانَ (p-١٥٤)أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ البَحِيرَةَ، وهي أنْ تُنْتَجَ خَمْسَةَ أبْطُنٍ يَكُونُ آخِرُها ذَكَرًا بَحَرُوا أُذُنَها وحَرَّمُوها وامْتَنَعُوا مِن رُكُوبِها ونَحْرِها ولَمْ تُطْرَدْ عَنْ ماءٍ ولَمْ تُمْنَعْ عَنْ مَرْعًى، وإذا لَقِيَها المَعْيِيُّ لَمْ يَرْكَبْها؛ قالَ: والسّائِبَةُ المِخْلاةُ وهي المُسَيِّبَةُ، وكانُوا في الجاهِلِيَّةِ إذا نَذَرَ الرَّجُلُ لِقُدُومٍ مِن سَفَرٍ أوْ بُرْءٍ مِن مَرَضٍ أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ قالَ: ( ناقَتِي سائِبَةٌ ) فَكانَتْ كالبُحَيْرَةِ في التَّحْرِيمِ والتَّخْلِيَةِ، وكانَ الرَّجُلُ إذا أعْتَقَ عَبْدًا فَقالَ: ( هو سائِبَةٌ ) لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما عَقْلٌ ولا ولاءٌ ولا مِيراثٌ. فَأمّا الوَصِيلَةُ فَإنَّ بَعْضَ أهْلِ اللُّغَةِ ذَكَرَ أنَّها الأُنْثى مِنَ الغَنَمِ إذا ولَدَتْ مَعَ ذَكَرٍ قالُوا: ( وصَلَتْ أخاها ) فَلَمْ يَذْبَحُوهُ. وقالَ بَعْضُهم: كانَتِ الشّاةُ إذا ولَدَتْ أُنْثى فَهي لَهم، وإذا ولَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ لَآلِهَتِهِمْ في زَعْمِهِمْ، وإذا ولَدَتْ ذَكَرًا وأُنْثى قالُوا: ( وصَلَتْ أخاها ) فَلَمْ يَذْبَحُوهُ لَآلِهَتِهِمْ؛ وقالُوا: الحامِي الفَحْلُ مِنَ الإبِلِ إذا نَتَجَتْ مِن صُلْبِهِ عَشْرَةَ أبْطُنٍ قالُوا: " حَمى ظَهْرَهُ " فَلا يُحْتَمَلُ عَلَيْهِ ولا يُمْنَعُ مِن ماءٍ ولا مَرْعًى. وإخْبارُ اللَّهِ تَعالى بِأنَّ ما اعْتَقَدَهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ في البُحَيْرَةِ والسّائِبَةِ وما ذُكِرَ في الآيَةِ يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ عِتْقِ السّائِبَةِ عَلى ما يَذْهَبُ إلَيْهِ القائِلُونَ بِأنَّ مَن أعْتَقَ عَبْدَهُ سائِبَةٌ فَلا ولاءَ لَهُ مِنهُ ووَلاؤُهُ لِجَماعَةِ المُسْلِمِينَ؛ أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ قَدْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فَأبْطَلَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولا سائِبَةٍ﴾ وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ» يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أيْضًا ويُبَيِّنُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب