الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكم ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: " نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن أهْلِ مَكَّةَ كانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ فَيُسْلِمُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ في الأوْثانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أنْ يَأْمَنُوا هَهُنا وهَهُنا، فَأمَرَ بِقِتالِهِمْ إنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا ويُصْلِحُوا " . وذَكَرَ أسْباطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: " نَزَلَتْ في نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الأشْجَعِيِّ، وكانَ يَأْمَنُ في المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ فَيَنْقُلُ الحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ والمُشْرِكِينَ، فَقالَ: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكم ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ . وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا يُظْهِرُونَ (p-١٩١)الإيمانَ إذا جاءُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ وأنَّهم إذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ أظْهَرُوا الكُفْرَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّ ما رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها﴾ والفِتْنَةُ هَهُنا الشِّرْكُ؛ وقَوْلُهُ: ﴿أُرْكِسُوا فِيها﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم قَبْلَ ذَلِكَ كانُوا مُظْهِرِينَ لِلْإسْلامِ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ بِالكَفِّ عَنْ هَؤُلاءِ أيْضًا إذا اعْتَزَلُونا وألْقَوْا إلَيْنا السَّلَمَ، وهو الصُّلْحُ، كَما أمَرَنا بِالكَفِّ عَنِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَنا وبَيْنَهم مِيثاقٌ وعَنِ الَّذِينَ جاءُونا وقَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهم؛ وكَما قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكم في الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكم مِن دِيارِكم أنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: ٨] وكَما قالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠] فَخَصَّ الأمْرَ بِالقِتالِ لِمَن يُقاتِلُنا دُونَ مَن لَمْ يُقاتِلْنا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] عَلى ما قَدَّمْنا مِنَ الرِّوايَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الآياتِ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ وجائِزٌ لِلْمُسْلِمِينَ تَرْكُ قِتالِ مَن لا يُقاتِلُهم مِنَ الكُفّارِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآياتِ في النَّهْيِ عَنْ قِتالِ مَنِ اعْتَزَلَنا وكَفَّ عَنْ قِتالِنا مَنسُوخٌ. ومِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ أنَّ فَرْضَ الجِهادِ غَيْرُ ثابِتٍ ابْنُ شُبْرُمَةَ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، وسَنَذْكُرُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. إلّا أنَّ هَذِهِ الآياتِ فِيها حَظْرُ قِتالِ مَن كَفَّ عَنْ قِتالِنا مِنَ الكُفّارِ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ الفُقَهاءِ يَحْظُرُ قِتالَ مَنِ اعْتَزَلَ قِتالَنا مِنَ المُشْرِكِينَ وإنَّما الخِلافُ في جَوازِ تَرْكِ قِتالِهِمْ لا في حَظْرِهِ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفاقُ مِنَ الجَمِيعِ عَلى نَسْخِ حَظْرِ القِتالِ لِمَن كانَ وصْفُهُ ما ذَكَرْنا واَللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب