الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدٍ: يَصِلُونَ بِمَعْنى يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ، كَما قالَ الأعْشى: ؎إذا اتَّصَلَتْ قالَتْ أبَكْرُ بْنُ وائِلٍ وبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَواغِمُ وقالَ زَيْدُ الخَيْرِ: ؎إذا اتَّصَلَتْ تُنادِي يا قَيْسُ ∗∗∗ وخَصَّتْ بِالدُّعاءِ بَنِي كِلابِ قالَ أبُو بَكْرٍ: الِانْتِسابُ يَكُونُ بِالرَّحِمِ ويَكُونُ بِالحِلْفِ وبِالوَلاءِ، وجائِزٌ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ أيْضًا رَجُلٌ في عَهْدِهِمْ عَلى حَسَبِ ما كانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ قُرَيْشٍ مِنَ المُوادَعَةِ فَدَخَلَتْ خُزاعَةُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ودَخَلَتْ بَنُو كِنانَةَ في عَهْدِ قُرَيْشٍ. وقِيلَ إنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ؛ حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وعُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ الخُراسانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكم عَلَيْهِمْ سَبِيلا﴾ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكم في الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكم مِن دِيارِكم أنْ تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: ٨] قالَ: ثُمَّ نَسَخَتْ هَذِهِ الآياتِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ١١] . (p-١٨٩)وقالَ السُّدِّيُّ في قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ إلّا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ في قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم أمانٌ فَلَهم مِنهُ مِثْلُ ما لَهم " . وقالَ الحَسَنُ: " هَؤُلاءِ بَنُو مُدْلِجٍ، كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعالى مِن بَنِي مُدْلِجٍ ما حَرَّمَ مِن قُرَيْشٍ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا عَقَدَ الإمامُ عَهْدًا بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الكُفّارِ فَلا مَحالَةَ يَدْخُلُ فِيهِ مَن كانَ في حَيِّزِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ بِالرَّحِمِ أوِ الحِلْفِ أوِ الوَلاءِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ في حَيِّزِهِمْ ومِن أهْلِ نُصْرَتِهِمْ، وأمّا مَن كانَ مِن قَوْمٍ آخَرِينَ فَإنَّهُ لا يَدْخُلُ في العَهْدِ ما لَمْ يَشْرِطْ، ومَن شَرَطَ مِن أهْلِ قَبِيلَةٍ أُخْرى دُخُولَهُ في عَهْدِ المُعاهَدِينَ فَهو داخِلٌ فِيهِمْ إذا عَقَدَ العَهْدَ عَلى ذَلِكَ كَما دَخَلَتْ بَنُو كِنانَةَ في عَهْدِ قُرَيْشٍ. وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: " إنَّ ذَلِكَ مَنسُوخٌ " فَإنَّما أرادَ أنَّ مُعاهَدَةَ المُشْرِكِينَ ومُوادَعَتَهم مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَهو كَما قالَ؛ لِأنَّ اللَّهَ أعَزَّ الإسْلامَ وأهْلَهُ، فَأُمِرُوا أنْ لا يَقْبَلُوا مِن مُشْرِكِي العَرَبِ إلّا الإسْلامَ أوِ السَّيْفَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهم وخُذُوهم واحْصُرُوهم واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصَدٍ فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَهَذا حُكْمٌ ثابِتٌ في مُشْرِكِي العَرَبِ، فَنَسَخَ بِهِ الهُدْنَةَ والصُّلْحَ وأقَرَّهم عَلى الكُفْرِ وأمَرَنا في أهْلِ الكِتابِ بِقِتالِهِمْ حَتّى يُسْلِمُوا أوْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] فَغَيْرُ جائِزٍ لِلْإمامِ أنْ يُقِرَّ أحَدًا مِن أهْلِ سائِرِ الأدْيانِ عَلى الكُفْرِ مِن غَيْرِ جِزْيَةٍ. وأمّا مُشْرِكُو العَرَبِ فَقَدْ كانُوا أسْلَمُوا في زَمَنِ الصَّحابَةِ ورَجَعَ مَنِ ارْتَدَّ مِنهم إلى الإسْلامِ بَعْدَما قُتِلَ مَن قُتِلَ مِنهم، فَهَذا وجْهٌ صَحِيحٌ في نَسْخِ مُعاهَدَةِ أهْلِ الكُفْرِ عَلى غَيْرِ جِزْيَةٍ والدُّخُولِ في الذِّمَّةِ عَلى أنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أحْكامُنا فَكانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثابِتًا بَعْدَما أعَزَّ اللَّهُ الإسْلامَ وأظْهَرَ أهْلَهُ عَلى سائِرِ المُشْرِكِينَ، فاسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنِ العَهْدِ والصُّلْحِ. إلّا أنَّهُ إنِ احْتِيجَ إلى ذَلِكَ في وقْتٍ لِعَجْزِ المُسْلِمِينَ عَنْ مُقاوَمَتِهِمْ أوْ خَوْفٍ مِنهم عَلى أنْفُسِهِمْ أوْ ذَرارِيِهِمْ، جازَ لَهم مُهادَنَةُ العَدُوِّ ومُصالَحَتُهُ مِن غَيْرِ جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَها إلَيْهِمْ؛ لِأنَّ حَظْرَ المُعاهَدَةِ والصُّلْحِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ قُوَّتِهِمْ عَلى العَدُوِّ واسْتِعْلائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وقَدْ كانَتِ الهُدْنَةُ جائِزَةً مُباحَةً في أوَّلِ الإسْلامِ، إنَّما حُظِرَتْ لِحُدُوثِ هَذا السَّبَبِ، فَمَتى زالَ السَّبَبُ وعادَ الأمْرُ إلى الحالِ الَّتِي كانَ المُسْلِمُونَ عَلَيْها مِن خَوْفِهِمُ العَدُوَّ عَلى أنْفُسِهِمْ عادَ الحُكْمُ الَّذِي كانَ مِن جَوازِ الهُدْنَةِ؛ وهَذا نَظِيرُ ما ذَكَرْنا مِن نَسْخِ (p-١٩٠)التَّوارُثِ بِالحِلْفِ والمُعاقَدَةِ بِذَوِي الأرْحامِ، فَمَتى لَمْ يَتْرُكْ وارِثًا عادَ حُكْمُ التَّوارُثِ بِالمُعاقَدَةِ. * * * قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أوْ جاءُوكم حَصِرَتْ صُدُورُهم أنْ يُقاتِلُوكم أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ قالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: " ضاقَتْ صُدُورُهم عَلى أنْ يُقاتِلُوكم " والحَصْرُ الضِّيقُ، ومِنهُ الحَصْرُ في القِراءَةِ لِأنَّهُ ضاقَتْ عَلَيْهِ المَذاهِبُ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ لَقِراءَتِهِ، ومِنهُ المَحْصُورُ في حَبْسٍ أوْ نَحْوِهِ. ورَوى ابْنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ: قالَ هِلالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الأسْلَمِيُّ: " هو الَّذِي حَصِرَ صَدْرُهُ أنْ يُقاتِلَ المُسْلِمِينَ أوْ يُقاتِلَ قَوْمَهُ وبَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِلْفٌ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهم كانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ مُحالِفِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ضاقَتْ صُدُورُهم أنْ يَكُونُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَلى المُسْلِمِينَ لِما بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ العَهْدِ وأنْ يُقاتِلُوا مَعَ المُسْلِمِينَ ذَوِي أرْحامِهِمْ وأنْسابِهِمْ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى المُسْلِمِينَ بِالكَفِّ عَنْ هَؤُلاءِ إذا اعْتَزَلُوهم فَلَمْ يُقاتِلُوا المُسْلِمِينَ وإنْ لَمْ يُقاتِلُوا المُشْرِكِينَ مَعَ المُسْلِمِينَ. ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ إنَّ هَؤُلاءِ كانُوا قَوْمًا مُسْلِمِينَ كَرِهُوا قِتالَ قَوْمِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ لِما بَيْنَهم وبَيْنَهم مِنَ الرَّحِمِ، وظاهِرُ الآيَةِ وما رُوِيَ في تَفْسِيرِها يَدُلُّ عَلى خِلافِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ المُسْلِمِينَ لَمْ يُقاتِلُوا المُسْلِمِينَ قَطُّ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ وإنْ قَعَدُوا عَنِ القِتالِ مَعَهم ولا كانُوا قَطُّ مَأْمُورِينَ بِقِتالِ أمْثالِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهم عَلَيْكم فَلَقاتَلُوكُمْ﴾ يَعْنِي إنْ قاتَلْتُمُوهم ظالِمِينَ لَهم؛ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنِ اعْتَزَلُوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكم وألْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكم عَلَيْهِمْ سَبِيلا﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِن صِفاتِ أهْلِ الإسْلامِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ كانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ حِلْفٌ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يَكُفَّ عَنْهم إذا اعْتَزَلُوا قِتالَ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ وأنْ لا يُكَلِّفَهم قِتالَ قَوْمِهِمْ مِن أهْلِ الشِّرْكِ أيْضًا. والتَّسْلِيطُ المَذْكُورُ في الآيَةِ لَهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: تَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ لِيُقاتِلُوكم، والثّانِي إباحَةُ القِتالِ لَهم في الدَّفْعِ عَنْ أنْفُسِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب