الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ قِيلَ في مَعْنى البُخْلِ في اللُّغَةِ: إنَّهُ مَشَقَّةُ الإعْطاءِ، وقِيلَ: البُخْلُ مَنعُ ما لا يَنْفَعُ مَنعُهُ ولا يَضُرُّ بَذْلُهُ. وقِيلَ: البُخْلُ مَنعُ الواجِبِ، ونَظِيرُهُ الشُّحُّ، ونَقِيضُهُ الجُودُ. وقَدْ عُقِلَ مِن مَعْناهُ في أسْماءِ الدِّينِ أنَّهُ مَنعُ الواجِبِ. ويُقالُ: إنَّهُ لا يَصِحُّ إطْلاقُهُ في الدِّينِ إلّا عَلى جِهَةِ أنَّ فاعِلَهُ قَدْ أتى كَبِيرَةً بِالمَنعِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهم بَلْ هو شَرٌّ لَهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [آل عمران: ١٨٠] فَأطْلَقَ الوَعِيدَ عَلى مَن بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أوْجَبَهُ في مالِهِ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فَإنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ أنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ إذْ بَخِلُوا بِما أُعْطُوا مِنَ الرِّزْقِ. وكَتَمُوا ما أُوتُوا مِنَ العِلْمِ بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقِيلَ: هو فِيمَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وفِيمَن كَتَمَ نِعَمَ اللَّهِ وأنْكَرَها، وذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَعالى. قالَ أبُو بَكْرٍ: الِاعْتِرافُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى واجِبٌ وجاحِدُها كافِرٌ، وأصْلُ الكُفْرِ إنَّما هو مِن تَغْطِيَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى وكِتْمانِها وجُحُودِها. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جائِزٌ لِلْإنْسانِ أنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ، لا عَلى جِهَةِ الفَخْرِ بَلْ عَلى جِهَةِ الِاعْتِرافِ بِالنِّعْمَةِ والشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿وأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: ١١] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخَرَ، وأنا أفْصَحُ العَرَبِ ولا فَخْرَ» فَأخْبَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ وأبانَ أنَّهُ لَيْسَ إخْبارُهُ بِها عَلى وجْهِ الِافْتِخارِ. وقالَ ﷺ: «لا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أنْ يَقُولَ أنا خَيْرٌ مِن يُونُسَ بْنِ مَتى» وقَدْ كانَ ﷺ خَيْرًا مِنهُ، ولَكِنَّهُ نَهى أنْ يُقالَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الِافْتِخارِ. وقالَ تَعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكم هو أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى﴾ [النجم: ٣٢] وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَمْدَحُ رَجُلًا فَقالَ: لَوْ سَمِعَكَ لَقَطَعْتَ ظَهْرَهُ» . ورَأى المِقْدادُ رَجُلًا يَمْدَحُ عُثْمانَ في وجْهِهِ فَحَثا في وجْهِهِ التُّرابَ وقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إذا رَأيْتُمُ المَدّاحِينَ فاحْثُوا في وُجُوهِهِمُ التُّرابَ» . وقَدْ رُوِيَ: «إيّاكم والتَّمادُحَ فَإنَّهُ الذَّبْحُ» . فَهَذا إذا كانَ عَلى وجْهِ الفَخْرِ فَقَدْ كُرِهَ، وأمّا أنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ أوْ يَذْكُرَها غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ فَهَذا نَرْجُو أنْ لا يَضُرَّ؛ إلّا أنَّ أصْلَحَ الأشْياءِ لِقَلْبِ الإنْسانِ أنْ لا يَغْتَرَّ بِمَدْحِ النّاسِ لَهُ ولا يَعْتَدَّ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب