الباحث القرآني
بابُ الوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ المالِ إذا لَمْ يَكُنْ وارِثٌ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: " إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ وارِثٌ فَأوْصى بِجَمِيعِ مالِهِ جازَ " وهو قَوْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وقالَ مالِكٌ والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لا تَجُوزُ وصِيَّتُهُ إلّا مِنَ الثُّلُثِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنّا دَلالَةَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ وأنَّهم كانُوا يَتَوارَثُونَ بِالحِلْفِ، وهو أنْ يُحالِفَهُ عَلى أنَّهُ إنْ ماتَ ورِثَهُ ما يُسَمِّي لَهُ مِن مِيراثِهِ مِن ثُلُثٍ أوْ أكْثَرَ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثابِتًا في صَدْرِ الإسْلامِ وفَرَضَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧] وقَوْلَهُ تَعالى: (p-٣٤)﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦] فَجَعَلَ ذَوِي الأرْحامِ أوْلى مِنَ الحُلَفاءِ، ولَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ مِيراثَ الحُلَفاءِ أصْلًا بَلْ جَعَلَ ذَوِي الأنْسابِ أوْلى مِنهم كَما جَعَلَ الِابْنَ أوْلى مِنَ الأخِ.
فَإذا لَمْ يَكُنْ ذَوُو الأنْسابِ جازَ لَهُ أنْ يَجْعَلَ مالَهُ عَلى أصْلِ ما كانَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّوارُثِ في الحِلْفِ. وأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ سِهامَ المَوارِيثِ بَعْدَ الوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] وقالَ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧] وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] يَقْتَضِي جَوازَ الوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ المالِ، لَوْلا قِيامُ دَلالَةِ الإجْماعِ والسُّنَّةِ عَلى مَنعِ ذَلِكَ ووُجُوبِ الِاقْتِصارِ بِها عَلى الثُّلُثِ وإيجابِ نَصِيبِ الرِّجالِ والنِّساءِ مِنَ الأقْرَبِينَ، فَمَتى عَدِمَ مَن وجَبَ بِهِ تَخْصِيصُ الوَصِيَّةِ في بَعْضِ المالِ وجَبَ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ في جَوازِ الوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ المالِ عَلى ظاهِرِهِ ومُقْتَضاهُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ سَعْدٍ: «إنَّكَ إنْ تَدَعْ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» فَأخْبَرَ أنَّ مَنعَ الوَصِيَّةِ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إنَّما هو لِحَقِّ الوَرَثَةِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ وغَيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قالَ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " لَيْسَ مِن حَيٍّ مِنَ العَرَبِ أحْرى أنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنهم ولا يُعْرَفُ لَهُ وارِثٌ مِنكم مَعْشَرَ هَمْدانَ، فَإذا كانَ ذَلِكَ فَلْيَضَعْ مالَهُ حَيْثُ أحَبَّ "، ولا يُعْلَمُ لَهُ مُخالِفٌ مِنَ الصَّحابَةِ وأيْضًا فَإنَّهُ لا يَخْلُو مَن لا وارِثَ لَهُ إذا ماتَ مِن أنْ يَسْتَحِقَّ المُسْلِمُونَ مالَهُ مِن جِهَةِ المِيراثِ أوْ مِن جِهَةِ أنَّهُ مالٌ لا مالِكَ لَهُ فَيَضَعُهُ الإمامُ حَيْثُ يَرى، فَلَمّا جازَ أنْ يَسْتَحِقَّهُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنِهِ ومَعَ أبِيهِ والبَعِيدُ عَنِ القَرِيبِ عَلِمْنا أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهم عَلى وجْهِ المِيراثِ؛ لِأنَّ الأبَ والجَدَّ لا يَجْتَمِعانِ في اسْتِحْقاقِ مِيراثِ واحِدٍ مِن جِهَةِ الأُبُوَّةِ. وأيْضًا لَوْ كانَ مِيراثًا لَمْ يَجُزْ حِرْمانُ واحِدٍ مِنهم؛ لِأنَّ سَبِيلَ المِيراثِ أنْ لا يُخَصَّ بِهِ بَعْضُ الوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ وأيْضًا لَوْ كانَ مِيراثًا لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لَوْ كانَ المَيِّتُ رَجُلًا مِن هَمْدانَ ولا يُعْرَفُ لَهُ وارِثٌ أنْ يَسْتَحِقَّ مِيراثَهُ أهْلُ قَبِيلَتِهِ؛ لِأنَّهم أقْرَبُ إلَيْهِ مِن غَيْرِهِمْ، فَلَمّا كانَ إنَّما يَسْتَحِقُّهُ بَيْتُ المالِ لِلْمُسْلِمِينَ ولِلْإمامِ أنْ يَصْرِفَهُ إلى مَن شاءَ مِنَ النّاسِ مِمَّنْ يَراهُ أهْلًا لَهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُسْلِمِينَ لا يَأْخُذُونَهُ مِيراثًا، وإذا لَمْ يَأْخُذُوهُ مِيراثًا وإنَّما كانَ لِلْإمامِ صَرْفُهُ إلى حَيْثُ يَرى؛ لِأنَّهُ لا مالِكَ لَهُ، فَمالِكُهُ أوْلى بِصَرْفِهِ إلى مِن يَرى.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهم إذا لَمْ يَأْخُذُوهُ مِيراثًا أشْبَهَ الثُّلُثَ الَّذِي يُوصِي بِهِ المَيِّتُ (p-٣٥)ولا مِيراثَ فِيهِ، فَلَهُ أنْ يَصْرِفَهُ إلى مَن شاءَ، فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ المالِ إذا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الوارِثُ كانَ لَهُ صَرْفُهُ إلى مَن شاءَ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ قالَ: حَدَّثَنا أيُّوبُ قالَ: سَمِعْتُ نافِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ اللَّيْلَتانِ إلّا ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الوَصِيَّةِ بِبَعْضِ المالِ أوْ بِجَمِيعِهِ، وظاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوازَ الوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ المالِ؛ وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى وُجُوبِ الِاقْتِصارِ عَلى بَعْضِهِ إذا كانَ لَهُ وارِثٌ، فَإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ وارِثٌ فَهو عَلى ظاهِرِ مُقْتَضاهُ في جَوازِها بِالجَمِيعِ؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ العَصَبَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ: " المَوالِي هَهُنا العَصَبَةُ " . وقالَ السُّدِّيُّ: " المَوالِي الوَرَثَةُ " . وقِيلَ: إنَّ أصْلَ المَوْلى مِن ولِيَ الشَّيْءَ يَلِيهِ، وهو اتِّصالُ الوِلايَةِ في التَّصَرُّفِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: المَوْلى لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْصَرِفُ عَلى وُجُوهٍ:
فالمَوْلى المُعْتِقُ؛ لِأنَّهُ ولِيُّ نِعْمَةٍ في عِتْقِهِ؛ ولِذَلِكَ سُمِّيَ مَوْلى النِّعْمَةِ. والمَوْلى العَبْدُ المُعْتَقُ لِاتِّصالِ وِلايَةِ مَوْلاهُ بِهِ في إنْعامِهِ عَلَيْهِ، وهَذا كَما يُسَمّى الطّالِبُ غَرِيمًا؛ لِأنَّ لَهُ اللُّزُومَ والمُطالَبَةَ بِحَقِّهِ ويُسَمّى المَطْلُوبُ غَرِيمًا لِتَوَجُّهِ المُطالَبَةِ عَلَيْهِ ولِلُزُومِ الدَّيْنِ إيّاهُ.
والمَوْلى العَصَبَةُ، والمَوْلى الحَلِيفُ؛ لِأنَّ المُحالِفَ يَلِي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمِينِ. والمَوْلى ابْنُ العَمِّ؛ لِأنَّهُ يَلِيهِ بِالنُّصْرَةِ لِلْقَرابَةِ الَّتِي بَيْنَهُما. والمَوْلى الوَلِيُّ؛ لِأنَّهُ يَلِي بِالنُّصْرَةِ. وقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ مَوْلى الَّذِينَ آمَنُوا وأنَّ الكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١] أيْ يَلِيهِمْ بِالنُّصْرَةِ ولا ناصِرَ لِلْكافِرِينَ يُعْتَدُّ بِنُصْرَتِهِ.
ويُرْوى لِلْفَضْلِ بْنِ العَبّاسِ:
؎مَهْلًا بَنِي عَمِّنا مَهْلًا مَوالِينا لا تُظْهِرُنَّ لَنا ما كانَ مَدْفُونا
فَسَمّى بَنِي العَمِّ مَوالِيَ. والمَوْلى مالِكُ العَبْدِ؛ لِأنَّهُ يَلِيهِ بِالمِلْكِ والتَّصَرُّفِ والوِلايَةِ والنُّصْرَةِ والحِمايَةِ. فاسْمُ المَوْلى يَنْصَرِفُ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ، وهو اسْمٌ مُشْتَرَكٌ لا يَصِحُّ اعْتِبارُ عُمُومِهِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن أوْصى لِمَوالِيهِ ولَهُ مَوالٍ أعْلى ومَوالٍ أسْفَلُ: إنَّ الوَصِيَّةَ باطِلَةٌ لِامْتِناعِ دُخُولِهِما تَحْتَ اللَّفْظِ في حالٍ واحِدَةٍ، ولَيْسَ أحَدُهُما بِأوْلى مِنَ الآخَرِ، فَبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ.
وأوْلى الأشْياءِ بِمَعْنى المَوْلى هَهُنا العَصَبَةُ لِما رَوى إسْرائِيلُ عَنْ أبِي حُصَيْنٍ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أنا أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ، مَن ماتَ وتَرَكَ مالًا فَمالُهُ لِلْمَوالِي العَصَبَةِ، ومَن تَرَكَ كَلًّا أوْ ضَياعًا فَأنا ولِيُّهُ» .
ورَوى مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْسِمُوا المالَ بَيْنَ أهْلِ الفَرائِضِ، فَما أبَقْتِ السِّهامُ فَلِأوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ» .
ورُوِيَ: «فَلِأوْلى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ»؛ وفِيما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في تَسْمِيَةِ المَوالِي عَصَبَةً. وقَوْلُهُ: «فَلِأوْلى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ (p-١٤٤)هُمُ العَصَباتُ، ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّ ما فَضَلَ عَنْ سِهامِ ذَوِي السِّهامِ فَهو لِأقْرَبِ العَصَباتِ إلى المَيِّتِ. والعَصَباتُ هُمُ الرِّجالُ الَّذِينَ تَتَّصِلُ قَرابَتُهم إلى المَيِّتِ بِالبَنِينَ والآباءِ، مِثْلُ الجَدِّ والإخْوَةِ مِنَ الأبِ والأعْمامِ وأبْنائِهِمْ، وكَذَلِكَ مَن بَعُدَ مِنهم بَعْدَ أنْ يَكُونَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمُ البَنُونَ والآباءُ، إلّا الأخَواتُ فَإنَّهُنَّ عَصَبَةٌ مَعَ البَناتِ خاصَّةً: . وإنَّما يَرِثُ مِنَ العَصَباتِ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ ولا مِيراثَ لِلْأبْعَدِ مَعَ الأقْرَبِ؛ ولا خِلافَ أنَّ مَن لا يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِالمَيِّتِ إلّا مِن قِبَلِ النِّساءِ أنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ. ومَوْلى العَتاقَةِ عَصَبَةٌ لِلْعَبْدِ المُعْتَقِ ولِأوْلادِهِ، وكَذَلِكَ أوْلادُ المُعْتَقِ الذُّكُورُ مِنهم يَكُونُونَ عَصَبَةً لِلْعَبْدِ المُعْتَقِ إذا ماتَ أبُوهم، ويَصِيرُ ولاؤُهُ لَهم دُونَ الإناثِ مِن ولَدِهِ.
ولا يَكُونُ أحَدٌ مِنَ النِّساءِ عَصَبَةً بِالوَلاءِ إلّا ما أُعْتِقَتْ أوْ أعْتَقَ مَن أُعْتِقَتْ. وإنَّما صارَ مَوْلى العَتاقَةِ عَصَبَةً بِالسُّنَّةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ إذْ كانَ عَصَبَةً ويَعْقِلُ عَنْهُ كَما يَعْقِلُ عَنْهُ بَنُو أعْمامِهِ.
فَإنْ قِيلَ: المَيِّتُ لَيْسَ هو مِن أقْرِباءِ مَوْلى العَتاقَةِ ولا مِن والِدَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إذا كانَ مَعَهُ وارِثٌ مِن ذَوِي نِسْبَةٍ مِنَ المَيِّتِ نَحْوُ البِنْتِ والأُخْتِ، جازَ دُخُولُهُ مَعَهم في هَذِهِ الفَرِيضَةِ، فَيَسْتَحِقُّ بِأصْلِ السِّهامِ لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هو مِن أقْرِباءِ المَيِّتِ؛ إذْ كانَ في الوَرَثَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ أنْ يُقالَ فِيهِ إنَّهُ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ، فَيَكُونُ بَعْضُ الوَرَثَةِ قَدْ ورِثَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في مِيراثِ المَوْلى الأسْفَلِ مِنَ الأعْلى، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ وسائِرُ أهْلِ العِلْمِ: " لا يَرِثُ المَوْلى الأسْفَلُ مِنَ المَوْلى الأعْلى " . وحَكى أبُو جَعْفَرٍ الطَّحاوِيُّ عَنِ الحَسَنِ بْنِ زِيادٍ قالَ: " يَرِثُ المَوْلى الأسْفَلُ مِنَ الأعْلى " وذَهَبَ فِيهِ إلى حَدِيثٍ رَواهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ وحَمّادُ بْنُ زَيْدٍ ووَهْبُ بْنُ خالِدٍ ومُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ عَوْسَجَةَ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَجُلًا أعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، فَماتَ المُعْتِقُ ولَمْ يَتْرُكْ إلّا المُعْتَقَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِيراثَهُ لِلْغُلامِ المُعْتَقِ» . قالَ أبُو جَعْفَرٍ: ولَيْسَ لِهَذا الحَدِيثِ مُعارِضٌ فَوَجَبَ إثْباتُ حُكْمِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ دَفَعَهُ إلَيْهِ لا عَلى وجْهِ المِيراثِ لَكِنَّهُ لِحاجَتِهِ وفَقْرِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ مالًا لا وارِثَ لَهُ فَسَبِيلُهُ أنْ يُصْرَفَ إلى ذَوِي الحاجَةِ والفُقَراءِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَتِ الأسْبابُ الَّتِي يَجِبُ بِها المِيراثُ هي الوَلاءُ والنَّسَبُ والنِّكاحُ، وكانَ ذَوُو الأنْسابِ يَتَوارَثُونَ وكَذَلِكَ الزَّوْجانِ وجَبَ أنْ يَكُونَ (p-١٤٥)الوَلاءُ مِن حَيْثُ أوْجَبَ المِيراثَ لِلْأعْلى مِنَ الأسْفَلِ أنْ يُوجِبَهُ لِلْأسْفَلِ مِنَ الأعْلى.
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا غَيْرُ واجِبٍ؛ لِأنّا قَدْ وجَدْنا في ذَوِي الأنْسابِ مَن يَرِثُ غَيْرَهُ ولا يَرِثُهُ هو إذا ماتَ؛ لِأنَّ امْرَأةً لَوْ تَرَكَتْ أُخْتًا أوِ ابْنَةً وابْنَ أخِيها كانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ والباقِي لِابْنِ الأخِ، ولَوْ كانَ مَكانَها ماتَ ابْنُ الأخِ وخَلَّفَ بِنْتًا أوْ أُخْتًا وعَمَّتَهُ لَمْ تَرِثِ العَمَّةُ شَيْئًا، فَقَدْ ورِثَها ابْنُ الأخِ في الحالِ الَّتِي لا تَرِثُهُ هي، واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ ولاءِ المُوالاةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ رَوى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ قالَ: كانَ المُهاجِرُ يَرِثُ الأنْصارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ بِالأُخُوَّةِ الَّتِي آخى اللَّهُ بَيْنَهم، فَلَمّا نَزَلَتْ ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ نُسِخَتْ؛ ثُمَّ قَرَأ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ قالَ: مِنَ النَّصْرِ والرِّفادَةِ، ويُوصِي لَهُ، وقَدْ ذَهَبَ المِيراثُ.
ورَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يُعاقِدُ الرَّجُلَ أيُّهُما ماتَ ورِثَهُ الآخَرُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكم مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٦] يَقُولُ: إلّا أنْ يُوصُوا لِأوْلِيائِهِمُ الَّذِينَ عاقَدُوا لَهم وصِيَّةً، فَهو لَهم جائِزٌ مِن ثُلُثِ مالِ المَيِّتِ، فَذَلِكَ المَعْرُوفُ.
ورَوى أبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يُعاقِدُ الرَّجُلَ في الجاهِلِيَّةِ فَيَمُوتُ فَيَرِثُهُ، فَعاقَدَ أبُو بَكْرٍ رَجُلًا فَماتَ فَوَرِثَهُ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: هَذا في الَّذِينَ كانُوا يَتَبَنَّوْنَ رِجالًا ويُوَرِّثُونَهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أنْ يُجْعَلَ لَهم مِنَ الوَصِيَّةِ، ورَدَّ المِيراثَ إلى المَوالِي مِن ذَوِي الرَّحِمِ والعَصَبَةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا مِن قَوْلِ السَّلَفِ أنَّ ذَلِكَ كانَ حُكْمًا ثابِتًا في الإسْلامِ، وهو المِيراثُ بِالمُعاقَدَةِ والمُوالاةِ؛ ثُمَّ قالَ قائِلُونَ: إنَّهُ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦]
وقالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِمَنسُوخٍ مِنَ الأصْلِ، ولَكِنَّهُ جَعَلَ ذَوِي الأرْحامِ أوْلى مِن مَوالِي المُعاقَدَةِ، فَنَسَخَ مِيراثَهم في حالِ وُجُودِ القَراباتِ وهو باقٍ لَهم إذا فَقَدَ الأقْرِباءَ عَلى الأصْلِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ. واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مِيراثِ مَوالِي المُوالاةِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " مَن أسْلَمَ عَلى يَدَيْ رَجُلٍ ووالاهُ وعاقَدَهُ ثُمَّ ماتَ ولا وارِثَ لَهُ (p-١٤٦)غَيْرُهُ فَمِيراثُهُ لَهُ " .
وقالَ مالِكٌ وابْنُ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " مِيراثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ " . وقالَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ: " إذا جاءَ مِن أرْضِ العَدُوِّ فَأسْلَمَ عَلى يَدِهِ فَإنَّ ولاءَهُ لِمَن والاهُ، ومَن أسْلَمَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ عَلى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَوَلاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عامَّةً " .
وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " مَن أسْلَمَ عَلى يَدَيْ رَجُلٍ فَقَدْ والاهُ ومِيراثُهُ لِلَّذِي أسْلَمَ عَلى يَدِهِ إذا لَمْ يَدَعْ وارِثًا غَيْرَهُ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: الآيَةُ تُوجِبُ المِيراثَ لِلَّذِي والاهُ وعاقَدَهُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُنا؛ لِأنَّهُ كانَ حُكْمًا ثابِتًا في أوَّلِ الإسْلامِ، وحَكَمَ اللَّهُ بِهِ في نَصِّ التَّنْزِيلِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ﴾ [الأحزاب: ٦] فَجَعَلَ ذَوِي الأرْحامِ أوْلى مِنَ المُعاقِدِينَ المَوالِي، فَمَتى فُقِدَ ذَوُو الأرْحامِ وجَبَ مِيراثُهم بِقَضِيَّةِ الآيَةِ؛ إذْ كانَتْ إنَّما نَقَلَتْ ما كانَ لَهم إلى ذَوِي الأرْحامِ إذا وُجِدُوا، فَإذا لَمْ يُوجَدُوا فَلَيْسَ في القُرْآنِ ولا في السُّنَّةِ ما يُوجِبُ نَسْخَها، فَهي ثابِتَةُ الحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلى ما تَقْتَضِيهِ مِن إثْباتِ المِيراثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الأرْحامِ.
وقَدْ ورَدَ الأثَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِثُبُوتِ هَذا الحُكْمِ وبَقائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الأرْحامِ، وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ خالِدٍ الرَّمْلِيُّ وهِشامُ بْنُ عَمّارٍ الدِّمَشْقِيُّ قالا: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عُمَرَ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَوْهَبٍ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ تَمِيمٍ الدّارِيِّ أنَّهُ «قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما السُّنَّةُ في الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلى يَدَيِ الرَّجُلِ مِنَ المُسْلِمِينَ ؟ قالَ: هو أوْلى النّاسِ بِمَحْياهُ ومَماتِهِ»، فَقَوْلُهُ: «هُوَ أوْلى النّاسِ بِمَماتِهِ» يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أوْلاهم بِمِيراثِهِ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَ المَوْتِ بَيْنَهُما وِلايَةٌ إلّا في المِيراثِ، وهو في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ﴾ يَعْنِي ورَثَةً. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أصْحابِنا في ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ والحَسَنِ وإبْراهِيمَ.
ورَوى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أسْلَمَ فَوالى رَجُلًا هَلْ بِذَلِكَ بَأْسٌ ؟ قالَ: لا بَأْسَ بِهِ، قَدْ أجازَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ.
ورَوى قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: " مَن أسْلَمَ عَلى يَدَيْ قَوْمٍ ضَمِنُوا جَرائِرَهُ وحَلَّ لَهم مِيراثُهُ " . وقالَ رَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: " إذا أسْلَمَ الكافِرُ عَلى يَدَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِأرْضِ العَدُوِّ أوْ بِأرْضِ المُسْلِمِينَ فَمِيراثُهُ لِلَّذِي أسْلَمَ عَلى يَدَيْهِ " .
وقَدْ رَوى أبُو عاصِمٍ النَّبِيلُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ قالَ: «كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ: عَلى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ» وقالَ: «لا يَتَوَلّى مَوْلى قَوْمٍ إلّا بِإذْنِهِمْ»، وقَدْ حَوى هَذا الخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: جَوازُ المُوالاةِ؛ لِأنَّهُ قالَ: «إلّا بِإذْنِهِمْ» فَأجازَ المُوالاةَ بِإذْنِهِمْ.
(p-١٤٧)والثّانِي: أنَّ لَهُ أنْ يَتَحَوَّلَ بِوِلايَةٍ إلى غَيْرِهِ، إلّا أنَّهُ كَرِهَهُ إلّا بِإذْنِ الأوَّلِينَ؛ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ إلّا في ولاءِ المُوالاةِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ ولاءَ العَتاقَةِ لا يَصِحُّ النَّقْلُ عَنْهُ؛ وقالَ ﷺ: «الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ نُمَيْرٍ وأبُو أُسامَةَ عَنْ زَكَرِيّا عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْراهِيمَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيُّما حِلْفٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً» قالَ: فَهَذا يُوجِبُ بُطْلانَ حِلْفِ الإسْلامِ ومَنعَ التَّوارُثِ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيِ الحِلْفِ في الإسْلامِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي كانُوا يَتَحالَفُونَ عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ حِلْفَ الجاهِلِيَّةِ كانَ عَلى أنْ يُعاقِدَهُ فَيَقُولُ: " هَدْمِي هَدْمُكَ ودَمِي دَمُكَ وتَرِثُنِي وأرِثُكَ " وكانَ في هَذا الحِلْفِ أشْياءُ قَدْ حَظَرَها الإسْلامُ، وهو أنَّهُ كانَ يَشْرِطُ أنْ يُحامِيَ عَلَيْهِ ويَبْذُلَ دَمَهُ دُونَهُ ويَهْدِمَ ما يَهْدِمُهُ فَيَنْصُرَهُ عَلى الحَقِّ والباطِلِ؛ وقَدْ أبْطَلَتِ الشَّرِيعَةُ هَذا الحِلْفَ وأوْجَبَتْ مَعُونَةَ المَظْلُومِ عَلى الظّالِمِ حَتّى يُتَنَصَّفَ مِنهُ وأنْ لا يُلْتَفَتَ إلى قَرابَةٍ ولا غَيْرِها.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٣٥] فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالعَدْلِ والقِسْطِ في الأجانِبِ والأقارِبِ وأمَرَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الجَمِيعِ في حُكْمِ اللَّهِ تَعالى، فَأبْطَلَ ما كانَ عَلَيْهِ أمْرُ الجاهِلِيَّةِ مِن مَعُونَةِ القَرِيبِ والحَلِيفِ عَلى غَيْرِهِ ظالِمًا كانَ أوْ مَظْلُومًا.
وكَذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اُنْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذا يُعِينُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ يُعِينُهُ ظالِمًا ؟ قالَ: أنْ تَرُدَّهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَلِكَ مَعُونَةٌ مِنكَ لَهُ» . وكانَ في حِلْفِ الجاهِلِيَّةِ أنْ يَرِثَهُ الحَلِيفُ دُونَ أقْرِبائِهِ فَنَفى النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ» التَّحالُفَ عَلى النُّصْرَةِ والمُحاماةِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ في دِينٍ أوْ حُكْمٍ وأمَرَ بِاتِّباعِ أحْكامِ الشَّرِيعَةِ دُونَ ما يَعْقِدُهُ الحَلِيفُ عَلى نَفْسِهِ، ونَفى أيْضًا أنْ يَكُونَ الحَلِيفُ أوْلى بِالمِيراثِ مِنَ الأقارِبِ؛ فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ» .
وأمّا قَوْلُهُ: «وأيُّما حِلْفٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً» فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّ الإسْلامَ قَدْ زادَهُ شِدَّةً وتَغْلِيظًا في المَنعِ مِنهُ وإبْطالِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: إذا لَمْ يَجُزِ الحِلْفُ في الإسْلامِ مَعَ ما فِيهِ مِن تَناصُرِ المُسْلِمِينَ وتَعاوُنِهِمْ فَحِلْفُ الجاهِلِيَّةِ أبْعَدُ مِن ذَلِكَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وعَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا مِنَ التَّوارُثِ بِالمُوالاةِ قالَ أصْحابُنا (p-١٤٨)فِيمَن أوْصى بِجَمِيعِ مالِهِ ولا وارِثَ لَهُ إنَّهُ جائِزٌ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ فِيما سَلَفَ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَمّا جازَ لَهُ أنْ يَجْعَلَ مِيراثَهُ لِغَيْرِهِ بِعَقْدِ المُوالاةِ ويَزْوِيَهُ عَنْ بَيْتِ المالِ، جازَ لَهُ أنْ يَجْعَلَهُ لِمَن شاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالوَصِيَّةِ؛ إذْ كانَتِ المُوالاةُ إنَّما تَثْبُتُ بَيْنَهُما بِعَقْدِهِ وإيجابِهِ ولَهُ أنْ يَنْتَقِلَ بِوَلائِهِ ما لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَأشْبَهَتِ الوَصِيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ وإيجابِهِ ومَتى شاءَ رَجَعَ فِيها؛ إلّا أنَّها تُخالِفُ الوَصِيَّةَ مِن وجْهٍ، وهو أنَّهُ وإنْ كانَ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِ فَإنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلى وجْهِ المِيراثِ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ تَرَكَ المَيِّتُ ذا رَحِمٍ كانَ أوْلى بِالمِيراثِ مِن مَوْلى المُوالاةِ ؟ ولَمْ يَكُنْ في الثُّلُثِ بِمَنزِلَةِ مَن أوْصى لِرَجُلٍ بِمالِهِ فَيَجُوزُ لَهُ مِنهُ الثُّلُثُ بَلْ لا يُعْطى شَيْئًا إذا كانَ لَهُ وارِثٌ مِن قَرابَةٍ أوْ ولاءِ عَتاقَةٍ، فَوَلاءُ المُوالاةِ يُشْبِهُ الوَصِيَّةَ بِالمالِ مِن وجْهٍ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ وارِثٌ، ويُفارِقُها مِن وجْهٍ عَلى نَحْوِ ما بَيَّنّا واَللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَلِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مَوَ ٰلِیَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِینَ عَقَدَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِیبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق