الباحث القرآني
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلا ما حَرَّمَ إسْرائِيلَ عَلى نَفْسِهِ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ المَأْكُولاتِ قَدْ كانَ مُباحًا لِبَنِي إسْرائِيلَ؛ إلى أنْ حَرَّمَ إسْرائِيلُ ما حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ والحَسَنِ: "إنَّهُ أخَذَهُ وجَعُ عِرْقِ النَّسا؛ فَحَرَّمَ أحَبَّ الطَّعامِ إلَيْهِ إنْ شَفاهُ اللَّهُ؛ عَلى وجْهِ النَّذْرِ؛ وهو لُحُومُ الإبِلِ"؛ وقالَ قَتادَةُ: "حَرَّمَ العُرُوقَ"؛ ورُوِيَ أنَّ إسْرائِيلَ؛ وهو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - نَذَرَ إنْ بَرِئَ مِن عِرْقِ النَّسا أنْ يُحَرِّمَ أحَبَّ الطَّعامِ والشَّرابِ إلَيْهِ؛ وهو لُحُومُ الإبِلِ؛ وألْبانُها؛ وكانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اليَهُودَ أنْكَرُوا تَحْلِيلَ النَّبِيِّ ﷺ لُحُومَ الإبِلِ؛ لِأنَّهم لا يَرَوْنَ النَّسْخَ جائِزًا؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ وبَيَّنَ أنَّها كانَتْ مُباحَةً لِإبْراهِيمَ؛ ووَلَدِهِ؛ إلى أنْ حَرَّمَها إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ؛ وحاجَّهم بِالتَّوْراةِ؛ فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلى إحْضارِها لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِ ما أخْبَرَ أنَّهُ فِيها؛ وبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلانَ قَوْلِهِمْ في إباءِ النَّسْخِ؛ إذْ ما جازَ أنْ يَكُونَ مُباحًا في وقْتٍ؛ ثُمَّ حُظِرَ؛ جازَتْ إباحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ؛ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهُ ﷺ كانَ أُمِّيًّا لا يَقْرَأُ الكِتابَ؛ ولَمْ يُجالِسْ أهْلَ الكِتابِ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ سَرائِرَ كُتُبِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ؛ إلّا بِإعْلامِ اللَّهِ إيّاهُ؛ وهَذا الطَّعامُ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ صارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وعَلى بَنِي إسْرائِيلَ؛ يَدُلُّ (p-٣٠٢)عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلا ما حَرَّمَ إسْرائِيلَ عَلى نَفْسِهِ﴾؛ فاسْتُثْنِي ذَلِكَ مِمّا أحَلَّهُ (تَعالى) لِبَنِي إسْرائِيلَ؛ ثُمَّ حَظَرَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ صارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ؛ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلْإنْسانِ أنْ يُحَرِّمَ عَلى نَفْسِهِ شَيْئًا وهو لا يَعْلَمُ مَوْقِعَ المَصْلَحَةِ في الحَظْرِ؛ والإباحَةِ؛ إذْ كانَ عِلْمُ المَصالِحِ في العِباداتِ لِلَّهِ (تَعالى) وحْدَهُ؟ قِيلَ: هَذا جائِزٌ بِأنْ يَأْذَنَ اللَّهُ (تَعالى) لَهُ فِيهِ؛ كَما يَجُوزُ الِاجْتِهادُ في الأحْكامِ بِإذْنِ اللَّهِ (تَعالى ) فَيَكُونُ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهادُ حُكْمًا لِلَّهِ (تَعالى)؛ وأيْضًا فَجائِزٌ لِلْإنْسانِ أنْ يُحَرِّمَ امْرَأتَهُ عَلى نَفْسِهِ بِالطَّلاقِ؛ ويُحَرِّمَ جارِيَتَهُ بِالعِتْقِ؛ فَكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ (تَعالى) لَهُ في تَحْرِيمِ الطَّعامِ؛ إمّا مِن جِهَةِ النَّصِّ؛ أوْ الِاجْتِهادِ؛ وما حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ صَدَرَ عَنِ اجْتِهادٍ مِنهُ في ذَلِكَ؛ أوْ تَوْقِيفًا مِنَ اللَّهِ (تَعالى) لَهُ في إباحَةِ التَّحْرِيمِ لَهُ؛ إنْ شاءَ؛ وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَحْرِيمَهُ صَدَرَ عَنِ اجْتِهادٍ مِنهُ في ذَلِكَ؛ لِإضافَةِ اللَّهِ (تَعالى) التَّحْرِيمَ إلَيْهِ؛ ولَوْ كانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَقالَ: "إلّا ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ"؛ فَلَمّا أضافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ كانَ جَعَلَ إلَيْهِ إيجابَ التَّحْرِيمِ مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جائِزٌ أنْ يُجْعَلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ الِاجْتِهادُ في الأحْكامِ؛ كَما جازَ لِغَيْرِهِ؛ والنَّبِيُّ ﷺ أوْلى بِذَلِكَ؛ لِفَضْلِ رَأْيِهِ وعِلْمِهِ بِوُجُوهِ المَقايِيسِ؛ واجْتِهادِ الرَّأْيِ؛ وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في أُصُولِ الفِقْهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ تَحْرِيمَ إسْرائِيلَ لِما حَرَّمَهُ مِنَ الطَّعامِ عَلى نَفْسِهِ قَدْ كانَ واقِعًا؛ ولَمْ يَكُنْ مُوجِبُ لَفْظِهِ شَيْئًا غَيْرَ التَّحْرِيمِ؛ وهَذا المَعْنى هو مَنسُوخٌ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنا ﷺ؛ وذَلِكَ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّمَ مارِيَةَ عَلى نَفْسِهِ؛ وقِيلَ: إنَّهُ حَرَّمَ العَسَلَ؛ فَلَمْ يُحَرِّمْهُما اللَّهُ (تَعالى) عَلَيْهِ؛ وجَعَلَ مُوجِبَ لَفْظِهِ كَفّارَةَ يَمِينٍ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أزْواجِكَ﴾ [التحريم: ١]؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]؛ فَجَعَلَ في التَّحْرِيمِ كَفّارَةَ يَمِينٍ إذا اسْتَباحَ ما حَرَّمَ؛ بِمَنزِلَةِ الحَلِفِ ألّا يَسْتَبِيحَهُ؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا - فِيمَن حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ جارِيَةً؛ أوْ شَيْئًا مِن مِلْكِهِ -: "إنَّهُ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ ولَهُ أنْ يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ وتَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ؛ بِمَنزِلَةِ مَن حَلَفَ ألّا يَأْكُلَ هَذا الطَّعامَ"؛ إلّا أنَّهم خالَفُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ اليَمِينِ مِن وجْهٍ؛ وهو أنَّ القائِلَ: "واللَّهِ لا أكَلْتُ هَذا الطَّعامَ"؛ لا يَحْنَثُ إلّا بِأكْلِ جَمِيعِهِ؛ ولَوْ قالَ: "قَدْ حَرَّمْتُ هَذا الطَّعامَ عَلى نَفْسِي"؛ حَنِثَ بِأكْلِ جُزْءٍ مِنهُ؛ لِأنَّ الحالِفَ لَمّا حَلَفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَقَدْ قَصَدَ إلى الحِنْثِ بِأكْلِ الجُزْءِ مِنهُ؛ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: "واللَّهِ لا آكُلُ شَيْئًا مِنهُ"؛ لِأنَّ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ (تَعالى) مِنَ الأشْياءِ (p-٣٠٣)فَتَحْرِيمُهُ شامِلٌ لِقَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ؛ وكَذَلِكَ المُحَرِّمُ لَهُ عَلى نَفْسِهِ؛ عاقِدٌ لِلْيَمِينِ عَلى كُلِّ جُزْءٍ مِنهُ ألّا يَأْكُلَ.
{"ayah":"۞ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلࣰّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَ ٰۤءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق