الباحث القرآني

قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾؛ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ التَّقْلِيدِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) حَكَمَ بِبُطْلانِ قَوْلِهِمْ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهم بُرْهانٌ عَلَيْهِ؛ والسُّلْطانُ هَهُنا هو البُرْهانُ؛ ويُقالُ: إنَّ أصْلَ السُّلْطانِ القُوَّةُ؛ فَسُلْطانُ المَلِكِ قُوَّتُهُ؛ والسُّلْطانُ الحُجَّةُ؛ لِقُوَّتِها عَلى قَمْعِ الباطِلِ؛ وقَهْرِ المُبْطِلِ بِها؛ والتَّسْلِيطُ عَلى الشَّيْءِ: اَلتَّقْوِيَةُ عَلَيْهِ؛ مَعَ الإغْراءِ بِهِ؛ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ لِما أخْبَرَ بِهِ مِن إلْقاءِ الرُّعْبِ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ؛ فَكانَ كَما أخْبَرَ بِهِ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ؛ حَتّى إنَّ العَدُوَّ لَيُرْعَبُ مِنِّي وهو عَلى مَسِيرَةِ شَهْرٍ"؛» قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ﴾؛ فِيهِ إخْبارٌ بِتَقَدُّمِ وعْدِ اللَّهِ (تَعالى) لَهم بِالنَّصْرِ عَلى عَدُوِّهِمْ؛ ما لَمْ يَتَنازَعُوا ويَخْتَلِفُوا؛ فَكانَ كَما أخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ؛ ظَهَرُوا عَلى عَدُوِّهِمْ؛ وهَزَمُوهُمْ؛ وقَتَلُوا مِنهُمْ؛ وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ أمَرَ الرُّماةَ بِالمُقامِ في مَوْضِعٍ؛ (p-٣٢٧)وألّا يَبْرَحُوا؛ فَعَصَوْا؛ وخَلَّوْا مَواضِعَهُمْ؛ حِينَ رَأوْا هَزِيمَةَ المُشْرِكِينَ؛ وظَنُّوا أنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهم باقِيَةٌ؛ واخْتَلَفُوا؛ وتَنازَعُوا؛ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِن ورائِهِمْ؛ فَقَتَلُوا مِنَ المُسْلِمِينَ مَن قَتَلُوا؛ بِتَرْكِهِمْ أمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وعِصْيانِهِمْ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهم وجَدُوا مَوْعُودَ اللَّهِ (تَعالى) كَما وعَدَ قَبْلَ العِصْيانِ؛ فَلَمّا عَصَوْا وُكِلُوا إلى أنْفُسِهِمْ؛ وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ (تَعالى) في جِهادِ العَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّباعِ أمْرِهِ؛ والِاجْتِهادِ في طاعَتِهِ؛ وعَلى هَذا جَرَتْ عادَةُ اللَّهِ (تَعالى) لِلْمُسْلِمِينَ في نَصْرِهِمْ عَلى أعْدائِهِمْ؛ وقَدْ كانَ المُسْلِمُونَ مِنَ الصَّدْرِ الأوَّلِ إنَّما يُقاتِلُونَ المُشْرِكِينَ بِالدِّينِ؛ ويَرْجُونَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ؛ وغَلَبَتَهم بِهِ؛ لا بِكَثْرَةِ العَدَدِ؛ ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا﴾ [آل عمران: ١٥٥]؛ فَأخْبَرَ أنَّ هَزِيمَتَهم إنَّما كانَتْ لِتَرْكِهِمْ أمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الإخْلالِ بِمَراكِزِهِمُ الَّتِي رُتِّبُوا فِيها؛ وقالَ (تَعالى): ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾؛ وإنَّما أُتُوا مِن قِبَلِ مَن كانَ يُرِيدُ الدُّنْيا مِنهُمْ؛ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ما ظَنَنْتُ أنَّ أحَدًا مِمَّنْ قاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يُرِيدُ الدُّنْيا؛ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا﴾؛ وعَلى هَذا المَعْنى كانَ اللَّهُ (تَعالى) قَدْ فَرَضَ عَلى العِشْرِينَ ألّا يَفِرُّوا مِن مِائَتَيْنِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥]؛ لِأنَّهُ في ابْتِداءِ الإسْلامِ كانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مُخْلِصِينَ لِنِيَّةِ الجِهادِ لِلَّهِ (تَعالى)؛ ولَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَن يُرِيدُ الدُّنْيا؛ وكانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلاثَمِائَةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ رَجّالَةً؛ قَلِيلِي العُدَّةِ والسِّلاحِ؛ وعَدُوُّهم ألْفٌ؛ فُرْسانٌ؛ ورَجّالَةٌ بِالسِّلاحِ الشّاكِّ؛ فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أكْتافَهُمْ؛ ونَصَرَهم عَلَيْهِمْ؛ حَتّى قَتَلُوا كَيْفَ شاؤُوا؛ وأسَرُوا كَيْفَ شاؤُوا؛ ثُمَّ لَمّا خالَطَهم بَعْدَ ذَلِكَ مَن لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ بَصائِرِهِمْ؛ وخُلُوصِ ضَمائِرِهِمْ؛ خَفَّفَ اللَّهُ (تَعالى) عَنِ الجَمِيعِ؛ فَقالَ: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإنْ يَكُنْ مِنكم ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٦]؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ ضَعْفَ قُوى الأبْدانِ؛ ولا عَدَمَ السِّلاحِ؛ لِأنَّ قُوى أبْدانِهِمْ كانَتْ باقِيَةً؛ وعَدَدُهم أكْثَرَ؛ وسِلاحُهم أوْفَرَ؛ وإنَّما أرادَ بِهِ أنَّهُ خالَطَهم مَن لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ البَصِيرَةِ مِثْلَ ما لِلْأوَّلِينَ؛ فالمُرادُ بِالضَّعْفِ هَهُنا ضَعْفُ النِّيَّةِ؛ وأجْرى الجَمِيعَ مُجْرًى واحِدًا في التَّخْفِيفِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مِنَ المَصْلَحَةِ تَمْيِيزُ ذَوِي البَصائِرِ مِنهم بِأعْيانِهِمْ؛ وأسْمائِهِمْ؛ مِن أهْلِ ضَعْفِ اليَقِينِ؛ وقِلَّةِ البَصِيرَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ في يَوْمِ اليَمامَةِ؛ حِينَ انْهَزَمَ النّاسُ -: "أخْلِصُونا أخْلِصُونا"؛ يَعْنُونَ المُهاجِرِينَ والأنْصارَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب