الباحث القرآني

بابٌ القَوْلُ في أنَّ البَسْمَلَةَ مِنَ القُرْآنِ قالَ أبُو بَكْرٍ: لا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ مِنَ القُرْآنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ورُوِيَ «أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أوَّلَ ما أتى النَّبِيَّ ﷺ بِالقُرْآنِ قالَ لَهُ: اقْرَأْ قالَ: ما أنا بِقارِئٍ قالَ لَهُ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]» . ورَوى أبُو قَطَنَ عَنِ المَسْعُودِيِّ عَنِ الحارِثِ العُكْلِيِّ أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ كَتَبَ في أوائِلِ الكُتُبِ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، حَتّى نَزَلَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ [هود: ٤١] فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء: ١١٠] فَكَتَبَ فَوْقَهُ: الرَّحْمَنَ، فَنَزَلَتْ قِصَّةُ سُلَيْمانَ فَكَتَبَها حِينَئِذٍ. ومِمّا سَمِعْنا في سُنَنِ أبِي داوُدَ، قالَ: قالَ الشَّعْبِيُّ ومالِكٌ وقَتادَةُ وثابِتٌ «إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكْتُبْ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] حَتّى (p-٨)نَزَلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ». «وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ أرادَ أنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كِتابَ الهُدْنَةِ بِالحُدَيْبِيَةِ قالَ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اُكْتُبْ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] فَقالَ لَهُ سُهَيْلٌ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَإنّا لا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلى أنْ سُمِحَ بِها بَعْدُ» فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] لَمْ يَكُنْ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ أنْزَلَها اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ النَّمْلِ. * * * القَوْلُ في أنَّ البَسْمَلَةَ مِن فاتِحَةِ الكِتابِ قالَ أبُو بَكْرٍ: ثُمَّ اخْتُلِفَ في أنَّها مِن فاتِحَةِ الكِتابِ أمْ لا؛ فَعَدَّها قُرّاءُ الكُوفِيِّينَ آيَةً مِنها ولَمْ يَعُدَّها قُرّاءُ البَصْرِيِّينَ ولَيْسَ عَنْ أصْحابِنا رِوايَةٌ مَنصُوصَةٌ في أنَّها آيَةٌ مِنها، إلّا أنَّ شَيْخَنا أبا الحَسَنِ الكَرْخِيِّ حَكى مَذْهَبَهم في تَرْكِ الجَهْرِ بِها، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِنها عِنْدَهم لِأنَّها لَوْ كانَتْ آيَةً مِنها عِنْدَهم لَجُهِرَ بِها كَما جُهِرَ بِسائِرِ آيِ السُّوَرِ قالَ الشّافِعِيُّ: هي آيَةٌ مِنها، وإنْ تَرَكَها أعادَ الصَّلاةَ، وتَصْحِيحُ أحَدِ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلى الجَهْلِ والإخْفاءِ، عَلى ما سَنَذْكُرُهُ فِيما بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. * * * * فَصْلٌ وأمّا القَوْلُ في أنَّها آيَةٌ أوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ، فَإنَّهُ لا خِلافَ أنَّها لَيْسَتْ بِآيَةٍ تامَّةٍ في سُورَةِ النَّمْلِ، وأنَّها هُناكَ بَعْضُ آيَةٍ، وأنَّ ابْتِداءَ الآيَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ﴾ ومَعَ ذَلِكَ فَكَوْنُها لَيْسَتْ آيَةً تامَّةً في سُورَةِ النَّمْلِ لا يَمْنَعُ أنْ تَكُونَ آيَةً في غَيْرِها لِوُجُودِنا مِثْلَها في القُرْآنِ ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] في أضْعافِ الفاتِحَةِ هو آيَةٌ تامَّةٌ، ولَيْسَتْ بِآيَةٍ مِن قَوْلِهِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] عِنْدَ الجَمِيعِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] هو آيَةٌ تامَّةٌ في الفاتِحَةِ، وهي بَعْضُ آيَةٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠] وإذا كانَ كَذَلِكَ احْتُمِلَ أنْ تَكُونَ بَعْضَ آيَةٍ في فُصُولِ السُّوَرِ واحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ آيَةً عَلى حَسَبِ ما ذَكَرْنا، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِنَ الفاتِحَةِ، فالأوْلى أنْ تَكُونَ آيَةً تامَّةً مِنَ القُرْآنِ مِن غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ؛ لِأنَّ الَّتِي في سُورَةِ النَّمْلِ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تامَّةٍ. والدَّلِيلُ عَلى أنَّها آيَةٌ تامَّةٌ حَدِيثُ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ في الصَّلاةِ فَعَدَّها آيَةً وفي لَفْظٍ آخَرَ أنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَعُدُّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] آيَةً فاصِلَةً» رَواهُ الهَيْثَمُ بْنُ خالِدٍ عَنْ أبِي عِكْرِمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هارُونَ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ. ورَوى أيْضًا أسْباطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ كانَ يَعُدُّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] آيَةً وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ. ورَوى عَبْدُ الكَرِيمِ عَنْ أبِي أُمَيَّةَ البَصْرِيِّ عَنْ ابْنِ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِيهِ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا أخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ حَتّى أُخْبِرَكَ بِآيَةٍ أوْ سُورَةٍ لَمْ تَنْزِلْ عَلى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمانَ ﷺ غَيْرِي فَمَشى واتَّبَعْتُهُ حَتّى انْتَهى إلى بابِ المَسْجِدِ، وأخْرَجَ إحْدى رِجْلَيْهِ مِن أُسْكُفَّةِ البابِ وبَقِيَتِ الرِّجْلُ الأُخْرى، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ، فَقالَ: بِأيِّ شَيْءٍ تَفْتَتِحُ القُرْآنَ (p-١٣)إذا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ ؟ فَقُلْتُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] قالَ: ثُمَّ خَرَجَ» قالَ أبُو بَكْرٍ: فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّها آيَةٌ؛ إذْ لَمْ تُعارِضْ هَذِهِ الأخْبارَ أخْبارٌ غَيْرُها في نَفْيِ كَوْنِها آيَةً، فَإنْ قالَ قائِلٌ: يَلْزَمُكَ عَلى ما أصَّلْتَ أنْ لا تُثْبِتَها آيَةً بِأخْبارِ الآحادِ حَسَبَ ما قُلْتَهُ في نَفْيِ كَوْنِها آيَةً مِن أوائِلِ السُّوَرِ، قِيلَ لَهُ: لا يَجِبُ ذَلِكَ مِن قِبَلِ أنَّهُ لَيْسَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ تَوْقِيفُ الأُمَّةِ عَلى مَقاطِعِ الآيِ ومَقادِيرِها، ولَمْ يُتَعَبَّدْ بِمَعْرِفَتِها فَجائِزٌ إثْباتُها آيَةً بِخَبَرِ الواحِدِ. وأمّا مَوْضِعُها مِنَ السُّوَرِ فَهو كَإثْباتِها مِنَ القُرْآنِ، سَبِيلُهُ النَّقْلُ المُتَواتِرُ، ولا يَجُوزُ إثْباتُها بِأخْبارِ الآحادِ ولا بِالنَّظَرِ والمَقايِيسِ كَسائِرِ السُّوَرِ وكَمَوْضِعِها مِن سُورَةِ النَّمْلِ ألا تَرى أنَّهُ قَدْ كانَ يَكُونُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ تَوْقِيفٌ عَلى مَوْضِعِ الآيِ عَلى ما رَوى ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ عُثْمانَ، وقَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، ولَمْ يُوجَدْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ تَوْقِيفٌ في سائِرِ الآيِ عَلى مَبادِئِها ومَقاطِعِها فَثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْنا مَقادِيرُ الآيِ، فَإذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّها آيَةٌ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِن أنْ تَكُونَ آيَةً في كُلِّ مَوْضِعٍ هي مَكْتُوبَةٌ فِيهِ مِنَ القُرْآنِ. وإنْ لَمْ تَكُنْ مِن أوائِلِ السُّوَرِ، أوْ أنْ تَكُونَ آيَةً مُنْفَرِدَةً كُرِّرَتْ في هَذِهِ المَواضِعِ عَلى حَسَبِ ما يُكْتَبُ في أوائِلِ الكُتُبِ عَلى جِهَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى فالأوْلى أنْ تَكُونَ آيَةً في كُلِّ مَوْضِعٍ هي مَكْتُوبَةٌ فِيهِ، لِنَقْلِ الأُمَّةِ أنَّ جَمِيعَ ما في المُصْحَفِ مِنَ القُرْآنِ، ولَمْ يَخُصُّوا شَيْئًا مِنهُ مِن غَيْرِهِ. ولَيْسَ وُجُودُها مُكَرَّرَةً في هَذِهِ المَواضِعِ مُخْرِجَها مِن أنْ تَكُونَ مِنَ القُرْآنِ لِوُجُودِنا كَثِيرًا مِنهُ مَذْكُورًا عَلى وجْهِ التَّكْرارِ، ولا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِن أنْ تَكُونَ كُلُّ آيَةٍ مِنها، وكُلُّ لَفْظَةٍ مِنَ القُرْآنِ في المَوْضِعِ المَذْكُورِ فِيهِ نَحْوُ قَوْلِهِ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ومِثْلُهُ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، ونَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ١٣] كُلُّ آيَةٍ مِنها مُفْرَدَةٌ في مَوْضِعِها مِنَ القُرْآنِ لا عَلى مَعْنى تَكْرارِ آيَةٍ واحِدَةٍ وكَذَلِكَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] وقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّها آيَةٌ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ آيَةً في كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب