الباحث القرآني
بابُ اللِّعانِ
قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهم ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ﴾ إلى آخِرِ القِصَّةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: كانَ حَدُّ قاذِفِ الأجْنَبِيّاتِ والزَّوْجاتِ الجَلْدَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ: «ائْتِنِي بِأرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ»، وقالَ الأنْصارُ: أيُجْلَدُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ وتَبْطُلُ شَهادَتُهُ في المُسْلِمِينَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ حَدَّ قاذِفِ الزَّوْجاتِ كانَ كَحَدِّ قاذِفِ الأجْنَبِيّاتِ وأنَّهُ نُسِخَ عَنِ الأزْواجِ الجَلْدُ بِاللِّعانِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعانِ: «ائْتِنِي بِصاحِبَتِكَ فَقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وفِيها قُرْآنًا» ولاعَنَ بَيْنَهُما، ورُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ في الرَّجُلِ الَّذِي قالَ: أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ رَجُلًا وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا فَإنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وإنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الأخْبارُ عَلى أنَّ حَدَّ قاذِفِ الزَّوْجَةِ كانَ الجَلْدَ وأنَّ اللَّهَ تَعالى نَسَخَهُ بِاللِّعانِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّ الزَّوْجَ (p-١٣٤)إذا كانَ عَبْدًا أوْ مَحْدُودًا في قَذْفٍ فَلَمْ يَجِبِ اللِّعانُ بَيْنَهُما أنَّ عَلَيْهِ الحَدَّ، كَما أنَّهُ إذا أكْذَبَ نَفْسَهُ فَسَقَطَ اللِّعانُ مِن قِبَلِهِ كانَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وقالُوا: لَوْ كانَتِ المَرْأةُ هي المَحْدُودَةُ في القَذْفِ أوْ كانَتْ أمَةً أوْ ذِمِّيَّةً أنَّهُ لا حَدَّ عَلى الزَّوْجِ؛ لِأنَّهُ قَدْ سَقَطَ اللِّعانُ مِن قِبَلِها فَكانَ بِمَنزِلَةِ تَصْدِيقِها الزَّوْجَ بِالقَذْفِ لَمّا سَقَطَ اللِّعانُ مِن جِهَتِها لَمْ يَجِبْ عَلى الزَّوْجِ الحَدُّ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيمَن يَجِبُ بَيْنَهُما اللِّعانُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا أبُو حَنِيفَةَ وزُفَرُ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: ( يَسْقُطُ اللِّعانُ بِأحَدِ مَعْنَيَيْنِ أيُّهُما وُجِدَ لَمْ يَجِبْ مَعَهُ اللِّعانُ، وهو أنْ يَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لا يَجِبُ عَلى قاذِفِها الحَدُّ إذا كانَ أجْنَبِيًّا نَحْوُ أنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أوْ ذِمِّيَّةً أوْ قَدْ وُطِئَتْ وطْئًا حَرامًا في غَيْرِ مِلْكٍ، والثّانِي أنْ يَكُونَ أحَدُهُما مِن غَيْرِ أهْلِ الشَّهادَةِ بِأنْ يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ أوْ كافِرًا أوْ عَبْدًا، فَأمّا إذا كانَ أحَدُهُما أعْمى أوْ فاسِقًا فَإنَّهُ يَجِبُ اللِّعانُ ) . وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: ( يُلاعِنُ المُسْلِمُ زَوْجَتَهُ اليَهُودِيَّةَ إذا قَذَفَها ) .
وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: ( الأمَةُ المُسْلِمَةُ والحُرَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ واليَهُودِيَّةُ تُلاعِنُ الحُرَّ المُسْلِمَ، وكَذَلِكَ العَبْدُ يُلاعِنُ زَوْجَتَهُ اليَهُودِيَّةَ ) . وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: ( لَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والكافِرِ لِعانٌ إذا قَذَفَها إلّا أنْ يَقُولَ رَأيْتُها تَزْنِي فَتُلاعَنُ سَواءٌ ظَهَرَ الحَمْلُ أوْ لَمْ يَظْهَرْ لِأنَّهُ يَقُولُ أخافُ أنْ أمُوتَ فَيَلْحَقَ نَسَبُ ولَدِها بِي، وإنَّما يُلاعِنُ المُسْلِمُ الكافِرَ في دَفْعِ الحَمْلِ ولا يُلاعِنُها فِيما سِوى ذَلِكَ، وكَذَلِكَ لا يُلاعِنُ زَوْجَتَهُ الأمَةَ إلّا في نَفْيِ الحَمْلِ ) قالَ: ( والمَحْدُودُ في القَذْفِ يُلاعِنُ، وإنْ كانَ الزَّوْجانِ جَمِيعًا كافِرَيْنِ فَلا لِعانَ بَيْنَهُما، والمَمْلُوكانِ المُسْلِمانِ بَيْنَهُما لِعانٌ إذا أرادَ أنْ يَنْفِيَ الوَلَدَ ) .
وقالَ الثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( لا يَجِبُ اللِّعانُ إذا كانَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أوْ كافِرًا ويَجِبُ إذا كانَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ ) . وقالَ الأوْزاعِيُّ: ( لا لِعانَ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ ولا بَيْنَ المَحْدُودِ في القَذْفِ وامْرَأتِهِ ) .
وقالَ اللَّيْثُ في العَبْدِ إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ الحُرَّةَ وادَّعى أنَّهُ رَأى عَلَيْها رَجُلًا: ( يُلاعِنُها؛ لِأنَّهُ يُحَدُّ لَها إذا كانَ أجْنَبِيًّا؛ فَإنْ كانَتْ أمَةً أوْ نَصْرانِيَّةً لاعَنَها في نَفْيِ الوَلَدِ إذا ظَهَرَ بِها حَمْلٌ ولا يُلاعِنُها في الرُّؤْيَةِ لِأنَّهُ لا يُحَدُّ لَها، والمَحْدُودُ في القَذْفِ يُلاعِنُ امْرَأتَهُ ) . وقالَ الشّافِعِيُّ: ( كُلُّ زَوْجٍ جازَ طَلاقُهُ ولَزِمَهُ الفَرْضُ يُلاعِنُ إذا كانَتْ مِمَّنْ يَلْزَمُها الفَرْضُ )
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأمّا الوَجْهُ الأوَّلُ مِنَ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ يُسْقِطانِ اللِّعانَ فَإنَّما وجَبَ ذَلِكَ بِهِ مِن قِبَلِ أنَّ اللِّعانَ في الأزْواجِ أُقِيمَ مَقامَ الحَدِّ في الأجْنَبِيّاتِ، وقَدْ كانَ الواجِبُ عَلى قاذِفِ الزَّوْجَةِ والأجْنَبِيَّةِ جَمِيعًا الجَلْدَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا (p-١٣٥)بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنِ الأزْواجِ وأُقِيمَ اللِّعانُ مَقامَهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ: «ائْتِنِي بِأرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ» وقَوْلُ الرَّجُلِ الَّذِي قالَ: أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ رَجُلًا وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وإنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَنْ غَيْظٍ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ اللِّعانِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ: «قَدْ أنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وفي صاحِبَتِكَ قُرْآنًا فَأْتِنِي بِها» فَلَمّا كانَ اللِّعانُ في الأزْواجِ قائِمًا مَقامَ الحَدِّ في الأجْنَبِيّاتِ لَمْ يَجِبِ اللِّعانُ عَلى قاذِفِ مَن لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ لَوْ قَذَفَها أجْنَبِيٌّ. وأيْضًا فَقَدْ سَمّى النَّبِيُّ ﷺ اللِّعانَ حَدًّا؛ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ نَصْرِ الخُراسانِيِّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا رَوْحُ بْنُ دَرّاجٍ عَنْ ابْنِ أبِي لَيْلى عَنْ الحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا لاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ المَرْأةِ وزَوْجِها فَرَّقَ بَيْنَهُما وقالَ: «إنْ جاءَتْ بِهِ أرَحَّ القَدَمَيْنِ يُشْبِهُ فُلانًا فَهو مِنهُ قالَ: فَجاءَتْ بِهِ يُشْبِهُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْلا ما مَضى مِنَ الحَدِّ لَرَجَمْتُها»، فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ اللِّعانَ حَدٌّ، ولَمّا كانَ حَدًّا لَمْ يَجُزْ إيجابُهُ عَلى الزَّوْجِ إذا كانَتِ المَرْأةُ مَمْلُوكَةً؛ إذْ كانَ حَدًّا مِثْلَ حَدِّ الجَلْدِ، ولَمّا كانَ حَدًّا لَمْ يَجِبْ عَلى قاذِفِ المَمْلُوكِ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ حَدًّا لَما وجَبَ عَلى الزَّوْجِ إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ الحُرَّةَ الجَلْدُ إذا أكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعانِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَجْتَمِعَ حَدّانِ بِقَذْفٍ واحِدٍ، وفي إيجابِ حَدِّ القَذْفِ عَلَيْهِ عِنْدَ إكْذابِهِ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللِّعانَ لَيْسَ بِحَدٍّ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ حَدًّا، وغَيْرُ جائِزٍ اسْتِعْمالُ النَّظَرِ في دَفْعِ الأثَرِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّما يَمْتَنِعُ اجْتِماعُ الحَدَّيْنِ عَلَيْهِ إذا كانَ جَلْدًا فَأمّا إذا كانَ أحَدُهُما جَلْدًا والآخَرُ لِعانًا فَإنّا لَمْ نَجِدْ في الأُصُولِ خِلافَهُ؛ وأيْضًا فَإنَّ اللِّعانَ إنَّما هو حَدٌّ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ، فَمَتى أكْذَبَ نَفْسَهُ وجُلِدَ الحَدَّ خَرَجَ اللِّعانُ مِن أنْ يَكُونَ حَدًّا؛ إذْ كانَ ما يَصِيرُ حَدًّا مِن طَرِيقِ الحُكْمِ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ تارَةً حَدًّا وتارَةً لَيْسَ بِحَدٍّ، فَكَذَلِكَ كُلُّ ما تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ تارَةً عَلى وصْفٍ وأُخْرى عَلى وصْفٍ آخَرَ. وإنَّما قُلْنا إنَّ مِن شَرْطِ اللِّعانِ أنْ يَكُونَ الزَّوْجانِ جَمِيعًا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهم ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ إلى آخِرِ القِصَّةِ؛ فَلَمّا سَمّى اللَّهُ لِعانَهُما شَهادَةً ثُمَّ قالَ في المَحْدُودِ في القَذْفِ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ [النور: ٤] وجَبَ بِمَضْمُونِ الآيَتَيْنِ انْتِفاءُ اللِّعانِ عَنِ المَحْدُودِ في القَذْفِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في المَحْدُودِ ثَبَتَ في سائِرِ (p-١٣٦)مَن خَرَجَ مِن أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ مِثْلُ العَبْدِ والكافِرِ ونَحْوِهِما، ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ إذا ثَبَتَ أنَّ المَحْدُودَ في القَذْفِ لا يُلاعِنُ وجَبَ مِثْلُهُ في سائِرِ مَن لَيْسَ هو مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أحَدٌ بَيْنَهُما لِأنَّ كُلَّ مَن لا يُوجِبُ اللِّعانَ عَلى المَحْدُودِ لا يُوجِبُهُ عَلى مَن ذَكَرْنا.
ووَجْهٌ آخَرُ مِن دَلالَةِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلا أنْفُسُهُمْ﴾ فَلا يَخْلُو المُرادُ بِهِ مِن أنْ يَكُونَ الأيْمانُ فَحَسْبُ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ مَعْنى الشَّهادَةِ فِيهِ أوْ أنْ يَكُونَ أيْمانًا لَيُعْتَبَرَ فِيها مَعْنى الشَّهادَةِ عَلى ما نَقُولُهُ، فَلَمّا قالَ تَعالى: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلا أنْفُسُهُمْ﴾ عَلِمْنا أنَّهُ أرادَ أنْ يَكُونَ المُلاعِنُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ ولَمْ يَكُنْ لَهم حالِفُونَ إلّا أنْفُسُهم؛ إذْ كُلُّ أحَدٍ لا يَحْلِفُ إلّا عَنْ نَفْسِهِ ولا يَجُوزُ إحْلافُ الإنْسانِ عَنْ غَيْرِهِ، ولَوْ كانَ المَعْنى ولَمْ يَكُنْ لَهم حالِفُونَ إلّا أنْفُسُهم لاسْتَحالَ وزالَتْ فائِدَتُهُ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ أنْ يَكُونَ الشّاهِدُ في ذَلِكَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ وإنْ كانَ ذَلِكَ يَمِينًا. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ فَلَمْ يَخْلُ المُرادُ مِن أنْ يَكُونَ الإتْيانُ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ في هَذِهِ الأيْمانِ أوِ الحَلِفُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما سَواءٌ كانَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ أوْ بِغَيْرِها بَعْدَ أنْ يَكُونَ حَلِفًا، فَلَمّا كانَ قَوْلُ القائِلِ بِجَوازِ قَبُولِ اليَمِينِ مِنهُما عَلى أيِّ وجْهٍ كانَتْ كانَ مُخالِفًا لِلْآيَةِ ولِلسُّنَّةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ كَما قالَ تَعالى: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وقالَ: ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥] ولَمْ يَجُزِ الِاقْتِصارُ عَلى الإخْبارِ دُونَ إيرادِهِ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، وكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ لاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أمَرَهُما بِاللِّعانِ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى لَفْظِ اليَمِينِ دُونَها، ولَمّا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ شَرْطَ هَذِهِ الأيْمانِ أنْ يَكُونَ الحالِفُ بِها مِن أهْلِ الشَّهادَةِ ويُلاعِنانِ.
فَإنْ قِيلَ: الفاسِقُ والأعْمى لَيْسا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ ويُلاعِنانِ قِيلَ لَهُ: الفاسِقُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الفِسْقَ المُوجِبَ لِرَدِّ الشَّهادَةِ قَدْ يَكُونُ طَرِيقُهُ الِاجْتِهادَ في الرَّدِّ والقَبُولِ.
والثّانِي: أنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِ؛ إذِ الفِسْقُ لا يَجُوزُ أنْ يَحْكُمَ بِهِ الحاكِمُ، فَلَمّا لَمْ تَبْطُلْ شَهادَتُهُ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ لَمْ يَخْرُجْ مِن أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ. والثّالِثُ: أنَّ فِسْقَهُ في حالِ لِعانِهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ تائِبًا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى فَيَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، ولَيْسَ هَذِهِ الشَّهادَةُ يَسْتَحِقُّ بِها عَلى الغَيْرِ فَتُرَدُّ مِن أجْلِ ما عُلِمَ مِن ظُهُورِ فِسْقِهِ بَدِيًّا، فَلَمْ يَمْنَعْ فِسْقُهُ مِن قَبُولِ لِعانِهِ وإنْ كانَ مِن شَرْطِهِ كَوْنُهُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ (p-١٣٧)الكُفْرُ لِأنَّ الكافِرَ لَوِ اعْتَقَدَ الإسْلامَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا إلّا بِإظْهارِهِ إذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ فَكانَ حُكْمُ كُفْرِهِ باقِيًا مَعَ اعْتِقادِهِ لِغَيْرِهِ ما لَمْ يُظْهِرِ الإسْلامَ؛ وأيْضًا فَإنَّ العَدالَةَ إنَّما تُعْتَبَرُ في الشَّهادَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِها عَلى الغَيْرِ فَلا يُحْكَمُ بِها لِلتُّهْمَةِ.
والفاسِقُ إنَّما رُدَّتْ شَهادَتُهُ في الحُقُوقِ لِلتُّهْمَةِ، واللِّعانُ لا تُبْطِلُهُ التُّهْمَةُ، فَلَمْ يَجِبِ اعْتِبارُ الفِسْقِ في سُقُوطِهِ؛ وأمّا الأعْمى فَإنَّهُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ كالبَصِيرِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، إلّا أنَّ شَهادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ في الحُقُوقِ لِأنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ حائِلًا، ولَيْسَ شَرْطُ شَهادَةِ اللِّعانِ أنْ يَقُولَ: ( رَأيْتُها تَزْنِي )؛ إذْ لَوْ قالَ: ( هي زانِيَةٌ ولَمْ أرَ ذَلِكَ ) لاعَنَ، فَلَمّا لَمْ يَحْتَجْ إلى الإخْبارِ عَنْ مُعايَنَةِ المَشْهُودِ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ لِعانُهُ لِأجْلِ عَماهُ.
وقَدْ رُوِيَ في مَعْنى مَذْهَبِ أصْحابِنا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ، مِنها ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ داوُدَ السَّرّاجُ قالَ: حَدَّثَنا الحَكَمُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا عَتّابُ بْنُ إبْراهِيمَ عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَطاءٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أرْبَعٌ مِنَ النِّساءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أزْواجِهِنَّ مُلاعَنَةٌ: اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ»
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ حَمَوَيْهِ بْنِ سَيّارٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو سَيّارٍ التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ إسْماعِيلَ عَنْ مُجالِدِ المِصِّيصِيِّ قالَ: أخْبَرَنا حَمّادُ بْنُ خالِدٍ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ عَنْ صَدَقَةَ أبِي تَوْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أرْبَعٌ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مُلاعَنَةٌ: اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ» .
فَإنْ قِيلَ: اللِّعانُ إنَّما يَجِبُ في نَفْيِ الوَلَدِ لِئَلّا يَلْحَقَ بِهِ نَسَبٌ لَيْسَ مِنهُ وذَلِكَ مَوْجُودٌ في الأمَةِ وفي الحُرَّةِ قِيلَ لَهُ: لَمّا دَخَلَ في نِكاحِ الأمَةِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، ومِن حُكْمِهِ أنْ لا يَنْتَفِيَ مِنهُ نَسَبُ ولَدِها كَما لَزِمَهُ حُكْمُهُ في رِقِّ ولَدِهِ
* * *
بابُ كَيْفِيَّةِ اللِّعانِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿والخامِسَةُ أنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في صِفَةِ اللِّعانِ إذا لَمْ يَكُنْ ولَدٌ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والثَّوْرِيُّ: ( يَشْهَدُ الزَّوْجُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لِمَنِ الصّادِقِينَ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا والخامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا، وتَشْهَدُ هي أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لِمَنِ الكاذِبِينَ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا، فَإنْ كانَ هُناكَ ولَدٌ نَفاهُ يَشْهَدُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَصادِقٌ فِيما رَماها بِهِ مِن نَفْيِ هَذا الوَلَدِ ) . وذَكَرَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ أنَّ الحاكِمَ يَأْمُرُ الزَّوْجَ أنْ يَقُولَ: ( أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُكِ بِهِ مِن نَفْيِ ولَدِكِ هَذا ) فَيَقُولُ ذَلِكَ أرْبَعَ مَرّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ في الخامِسَةِ: ( لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتُ مِنَ الكاذِبِينَ فِيما رَمَيْتُكِ بِهِ مِن نَفْيِ ولَدِكِ هَذا ) ثُمَّ يَأْمُرُها القاضِي فَتَقُولُ: ( أشْهَدُ بِاللَّهِ إنَّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ فِيما رَمَيْتَنِي بِهِ مِن نَفْيِ ولَدِي هَذا ) فَتَقُولُ ذَلِكَ أرْبَعَ مَرّاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ في الخامِسَةِ: ( وغَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتَنِي بِهِ مِن نَفْيِ ولَدِي هَذا ) .
ورَوى حَيّانُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أبِي (p-١٣٩)يُوسُفَ قالَ: ( إذا كانَ اللِّعانُ بِوَلَدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُما فَقالَ قَدْ ألْزَمْتُهُ أُمَّهُ وأخْرَجْتُهُ مِن نَسَبِ الأبِ ) . قالَ أبُو الحَسَنِ: ولَمْ أجِدْ ذِكْرَ نَفْيِ الحاكِمِ الوَلَدَ بِالقَوْلِ فِيما قَرَأْتُهُ إلّا في رِوايَةِ حَيّانَ بْنِ بِشْرٍ، قالَ أبُو الحَسَنِ: وهو الوَجْهُ عِنْدِي.
ورَوى الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ في سِياقِ رِوايَتِهِ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ قالَ: ( لا يَضُرُّهُ أنْ يُلاعِنَ بَيْنَهُما وهُما قائِمانِ أوْ جالِسانِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: أشْهَدُ بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنا، يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَيْها فَيُواجِهُها في ذَلِكَ كُلِّهِ وتُواجِهُهُ أيْضًا هي ) . ورُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِثْلُ ذَلِكَ في المُواجِهَةِ.
وقالَ مالِكٌ فِيما ذَكَرَهُ ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ: ( أنَّهُ يَحْلِفُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ يَقُولُ: أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي رَأيْتُها تَزْنِي، والخامِسَةَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتُ مِنَ الكاذِبِينَ؛ وتَقُولُ هي: أشْهَدُ بِاللَّهِ ما رَآنِي أزْنِي، فَتَقُولُ ذَلِكَ أرْبَعَ مَرّاتٍ والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ) . وقالَ اللَّيْثُ: ( يَشْهَدُ الرَّجُلُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ والخامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ، وتَشْهَدُ المَرْأةُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ )، وقالَ الشّافِعِيُّ: ( يَقُولُ أشْهَدُ بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلانَةَ بِنْتَ فُلانٍ، ويُشِيرُ إلَيْها إنْ كانَتْ حاضِرَةً، يَقُولُ ذَلِكَ أرْبَعَ مَرّاتٍ، ثُمَّ يُقْعِدُهُ الإمامُ يُذَكِّرُهُ اللَّهَ ويَقُولُ إنِّي أخافُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْتَ أنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ، فَإنْ رَآهُ يُرِيدُ أنْ يُمْضِيَ أمْرَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلى فِيهِ ويَقُولُ: إنَّ قَوْلَكَ عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ مِنَ الكاذِبِينَ مُوجِبَةٌ إنْ كُنْتَ كاذِبًا، فَإنْ أبى تَرَكَهُ فَيَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتُ مِنَ الكاذِبِينَ فِيما رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلانَةَ مِنَ الزِّنا، فَإنْ قَذَفَها بِأحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ واحِدًا كانَ أوِ اثْنَيْنِ، وقالَ مَعَ كُلِّ شَهادَةٍ: إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنا بِفُلانٍ وفُلانٍ؛ وإنْ نَفى ولَدَها قالَ مَعَ كُلِّ شَهادَةٍ: أشْهَدُ بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنا وإنَّ هَذا الوَلَدَ ولَدُ زِنًا ما هو مِنِّي، فَإذا قالَ هَذا فَقَدْ فَرَغَ مِنَ الِالتِعانِ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ جَوازَ الِاقْتِصارِ عَلَيْهِ مِن شَهاداتِ اللِّعانِ؛ إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ مَعْلُومًا مِن دَلالَةِ الحالِ أنَّ التَّلاعُنَ واقِعٌ عَلى قَذْفِهِ إيّاها بِالزِّنا عَلِمْنا أنَّ المُرادَ: فَشَهادَةُ أحَدِهِما بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنا، وكَذَلِكَ شَهادَةُ المَرْأةِ واقِعَةٌ في نَفْيِ ما رَماها بِهِ، وكَذَلِكَ اللَّعْنُ والغَضَبُ والصِّدْقُ والكَذِبُ راجِعٌ إلى إخْبارِ الزَّوْجِ عَنْها بِالزِّنا، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ وُقُوعُ الِالتِعانِ والشَّهاداتِ عَلى ما وقَعَ بِهِ رَمْيُ الزَّوْجِ، فاكْتَفى بِدَلالَةِ (p-١٤٠)الحالِ عَلى المُرادِ عَنْ قَوْلِهِ فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنا واقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: ( إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ ) وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والحافِظِينَ فُرُوجَهم والحافِظاتِ والذّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذّاكِراتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥] والمُرادُ: والحافِظاتِ فُرُوجَهُنَّ والذّاكِراتِ اللَّهَ؛ ولَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلالَةِ الحالِ عَلَيْهِ. وفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ في قِصَّةِ المُتَلاعِنَيْنِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ: فَشَهِدَ الرَّجُلُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ، ولَمْ يَذْكُرا فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا.
وأمّا قَوْلُ مالِكٍ: ( إنَّهُ يَشْهَدُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنَّهُ رَآها تَزْنِي ) فَمُخالِفٌ لِظاهِرِ لَفْظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لِأنَّ في الكِتابِ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ وكَذَلِكَ لاعَنَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وأمّا قَوْلُ الشّافِعِيِّ: ( إنَّهُ يَذْكُرُها بِاسْمِها ونَسَبِها ويُشِيرُ إلَيْها بِعَيْنِها ) فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ الإشارَةَ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ والنَّسَبِ، فَذِكْرُ الِاسْمِ والنَّسَبِ لَغْوٌ في هَذا المَوْضِعِ، ألا تَرى أنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلى رَجُلٍ بِحَقٍّ وهو حاضِرٌ كانَتْ شَهادَتُهم أنّا نَشْهَدُ أنَّ لِهَذا الرَّجُلِ عَلى هَذا الرَّجُلِ ألْفَ دِرْهَمٍ ولا يَحْتاجُونَ إلى اسْمِهِ ونَسَبِهِ ؟
* * *
نَفْيُ الوَلَدِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ: ( إذا ولَدَتِ المَرْأةُ فَنَفى ولَدَها حِينَ يُولَدُ أوْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ لاعَنَ وانْتَفى الوَلَدُ، وإنْ لَمْ يَنْفِهِ حِينَ يُولَدُ حَتّى مَضَتْ سَنَةٌ أوْ سَنَتانِ ثُمَّ نَفاهُ لاعَنَ ولَزِمَهُ الوَلَدُ )، ولَمْ يُوَقِّتْ أبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وقْتًا، ووَقَّتَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ مِقْدارَ النِّفاسِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ وقالَ أبُو يُوسُفَ: ( إنْ كانَ غائِبًا فَقَدِمَ فَلَهُ أنْ يَنْفِيَهُ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ مِقْدارِ النِّفاسِ مُنْذُ قَدِمَ ما كانَ في الحَوْلَيْنِ، فَإنْ قَدِمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الحَوْلَيْنِ لَمْ يَنْتَفِ أبَدًا ) .
وقالَ هِشامٌ: سَألْتُ مُحَمَّدًا عَنْ أُمِّ ولَدٍ لِرَجُلٍ جاءَتْ بِوَلَدٍ والمَوْلى شاهِدٌ فَلَمْ يَدَّعِهِ ولَمْ يُنْكِرْهُ، فَقالَ: ( إذا مَضى أرْبَعُونَ يَوْمًا مِن يَوْمِ ولَدَتْهُ فَإنَّهُ يَلْزَمُهُ وهي بِمَنزِلَةِ الحُرَّةِ )، قالَ: قُلْتُ: فَإنْ كانَ المَوْلى غائِبًا فَقَدِمَ وقَدْ أتَتْ لَهُ سُنُونَ ؟ فَقالَ مُحَمَّدٌ: ( إنْ كانَ الِابْنُ نُسِبَ إلَيْهِ حَتّى عُرِفَ بِهِ فَإنَّهُ يَلْزَمُهُ ) وقالَ مُحَمَّدٌ: ( وإنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ وقالَ هَذا لَمْ أعْلَمْ بِوِلادَتِهِ فَإنْ سَكَتَ أرْبَعِينَ يَوْمًا مِن يَوْمِ قَدِمَ لَزِمَهُ الوَلَدُ ) . وقالَ مالِكٌ: ( إذا رَأى الحَمْلَ فَلَمْ يَنْفِهِ حِينَ وضَعَتْهُ لَمْ يَنْتَفِ بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ نَفاهُ حُرَّةً كانَتْ أوْ أمَةً، فَإنِ انْتَفى مِنهُ حِينَ ولَدَتْهُ وقَدْ رَآها حامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنهُ فَإنَّهُ يُجْلَدُ الحَدَّ لِأنَّها حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ فَصارَ قاذِفًا لَها، وإنْ كانَ غائِبًا عَنِ الحَمْلِ وقَدِمَ ثُمَّ ولَدَتْهُ فَلَهُ أنْ يَنْفِيَهُ ) .
وقالَ اللَّيْثُ فِيمَن أقَرَّ بِحَمْلِ امْرَأتِهِ ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأيْتُها تَزْنِي: ( لاعَنَ في الرُّؤْيَةِ ويَلْزَمُهُ الحَمْلُ ) . وقالَ (p-١٤١)الشّافِعِيُّ: ( إذا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالوَلَدِ فَأمْكَنَهُ الحاكِمُ إمْكانًا بَيِّنًا فَتَرَكَ اللِّعانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَنْفِيَهُ كالشُّفْعَةِ )، وقالَ في القَدِيمِ: ( إنْ لَمْ يَنْفِهِ في يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَنْفِيَهُ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ذِكْرُ نَفْيِ الوَلَدِ، إلّا أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَفْيُ الوَلَدِ بِاللِّعانِ إذا قَذَفَها بِنَفْيِ الوَلَدِ؛ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ عَنْ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّ رَجُلًا لاعَنَ امْرَأتَهُ في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وانْتَفى مِن ولَدِها، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما وألْحَقَ الوَلَدَ بِالمَرْأةِ» . وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ قالَ: أخْبَرَنا عَبّادُ بْنُ مَنصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «جاءَ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِن أرْضِهِ عَشِيًّا، فَوَجَدَ عِنْدَ أهْلِهِ رَجُلًا، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِ ذِكْرِ اللِّعانِ، قالَ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما وقَضى أنْ لا يُدْعى ولَدُها لِأبٍ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّهُ إذا نَفى ولَدَها أنَّهُ يُلاعِنُ ويَلْزَمُ الوَلَدُ أُمَّهُ ويَنْتَفِي نَسَبُهُ مِن أبِيهِ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَوْا في وقْتِ نَفْيِ الوَلَدِ عَلى ما ذَكَرْنا، وفي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنا في أنَّ رَجُلًا انْتَفى مِن ولَدِها فَلاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما وألْحَقَ الوَلَدَ بِالأُمِّ دَلِيلٌ عَلى أنَّ نَفْيَ ولَدِ زَوْجَتِهِ مِن قَذْفٍ لَها لَوْلا ذَلِكَ لَما لاعَنَ بَيْنَهُما؛ إذْ كانَ اللِّعانُ لا يَجِبُ إلّا بِالقَذْفِ، وأمّا تَوْقِيتُ نَفْيِ الوَلَدِ فَإنَّ طَرِيقَهُ الِاجْتِهادُ وغالِبُ الظَّنِّ فَإذا مَضَتْ مُدَّةٌ قَدْ كانَ يُمْكِنُهُ فِيها نَفْيُ الوَلَدِ وكانَ مِنهُ قَبُولٌ لِلتَّهْنِئَةِ أوْ ظَهَرَ مِنهُ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ نافٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَنْفِيَهُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، وتَحْدِيدُ الوَقْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلالَةٌ فَلَمْ يَثْبُتْ، واعْتُبِرَ ما ذَكَرْنا مِن ظُهُورِ الرِّضا بِالوَلَدِ ونَحْوِهِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ في سائِرِ الحُقُوقِ رِضًا بِإسْقاطِها كانَ كَذَلِكَ نَفْيُ الوَلَدِ.
قِيلَ لَهُ: قَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ السُّكُوتَ في ذَلِكَ إذا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمانِ بِمَنزِلَةِ الرِّضا بِالقَوْلِ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيها، وأكْثَرُ مَن وقَّتَ فِيها أرْبَعِينَ يَوْمًا، وذَلِكَ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ولَيْسَ اعْتِبارُ هَذِهِ المُدَّةِ بِأوْلى مِنِ اعْتِبارِ ما هو أقَلُّ مِنها. وذَهَبَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ إلى أنَّ الأرْبَعِينَ هي مُدَّةُ أكْثَرِ النِّفاسِ، وحالُ النِّفاسِ هي حالُ الوِلادَةِ، فَما دامَتْ عَلى حالِ الوِلادَةِ قَبْلَ نَفْيِهِ.
وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ نَفْيَ الوَلَدِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنِّفاسِ. وأمّا قَوْلُ مالِكٍ: ( إنَّهُ إذا رَآها حامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنهُ ثُمَّ نَفاهُ بَعْدَ الوِلادَةِ فَإنَّهُ يُجْلَدُ الحَدَّ ) فَإنَّهُ قَوْلٌ واهٍ لا وجْهَ لَهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الحَمْلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فَيُعْتَبَرُ نَفْيُهُ، والثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِمَّنْ ولَدَتِ امْرَأتُهُ ولَمْ يَعْلَمْ بِالحَمْلِ فَعَلِمَ بِهِ وسَكَتَ زَمانًا يَلْزَمُهُ الوَلَدُ، وإنْ نَفاهُ بَعْدَ ذَلِكَ (p-١٤٢)لاعَنَ ولَمْ يَنْتَفِ نَسَبُ الوَلَدِ مِنهُ؛ إذْ لَمْ تَكُنْ صِحَّةُ اللِّعانِ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْيِ الوَلَدِ ولَمْ يَكُنْ مِنهُ إكْذابٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ النَّفْيِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُجْلَدَ وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ الآيَةُ، فَأوْجَبَ اللِّعانَ بِعُمُومِ الآيَةِ عَلى سائِرِ الأزْواجِ فَلا يُخَصُّ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بِدَلِيلٍ، ولَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ فِيما اخْتَلَفْنا فِيهِ مِن ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ الحَدِّ وسُقُوطِ اللِّعانِ
* * *
بابُ الفُرْقَةِ بِاللِّعانِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: ( لا تَقَعُ الفُرْقَةُ بَعْدَ فَراغِهِما مِنَ اللِّعانِ حَتّى يُفَرِّقَ الحاكِمُ ) .
وقالَ مالِكٌ وزُفَرُ بْنُ الهُذَيْلِ واللَّيْثُ: ( إذا فَرَغا مِنَ اللِّعانِ وقَعَتِ الفُرْقَةُ وإنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما الحاكِمُ ) . وعَنِ الثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ: ( لا تَقَعُ الفُرْقَةُ بِلِعانِ الزَّوْجِ وحْدَهُ ) .
وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: ( لا أرى مُلاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأتَهُ تَنْقُصُ شَيْئًا، وأحَبُّ إلَيَّ أنْ يُطَلِّقَ ) . وقالَ الشّافِعِيُّ: ( إذا أكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهادَةَ والِالتِعانَ فَقَدْ زالَ فِراشُ امْرَأتِهِ ولا تَحِلُّ لَهُ أبَدًا التَعَنَتْ أوْ لَمْ تَلْتَعِنْ )
قالَ أبُو بَكْرٍ: أمّا قَوْلُ عُثْمانَ البَتِّيِّ في أنَّهُ لا يُفَرَّقُ بَيْنَهُما فَإنَّهُ قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ ولا نَعْلَمُ أحَدًا قالَ بِهِ غَيْرَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ في إيقاعِهِ الفُرْقَةَ بِلِعانِ الزَّوْجِ خارِجٌ عَنْ أقاوِيلِ سائِرِ الفُقَهاءِ ولَيْسَ لَهُ فِيهِ سَلَفٌ.
والدَّلِيلُ عَلى أنَّ فُرْقَةَ اللِّعانِ لا تَقَعُ إلّا بِتَفْرِيقِ الحاكِمِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ عَنْ مالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ أنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السّاعِدِيَّ أخْبَرَهُ: «أنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلانِيَّ أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ رَجُلًا وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا أيَقْتُلُهُ فَيَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ أنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وفي صاحِبَتِكَ قُرْآنًا فاذْهَبْ فَأْتِ بِها قالَ سَهْلٌ: فَتَلاعَنا وأنا مَعَ النّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمّا فَرَغْنا قالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْها يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها فَهي طالِقٌ ثَلاثًا؛ فَطَلَّقَها عُوَيْمِرٌ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ ﷺ»؛ قالَ ابْنُ شِهابٍ: فَكانَتْ سُنَّةُ المُتَلاعِنَيْنِ. وفي هَذا الخَبَرِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ اللِّعانَ لَمْ يُوجِبِ الفُرْقَةَ لِقَوْلِهِ: ( كَذَبْتُ عَلَيْها إنْ أمْسَكْتُها ) وذَلِكَ لِأنَّ (p-١٥١)فِيهِ إخْبارًا مِنهُ بِأنَّهُ مُمْسِكٌ لَها بَعْدَ اللِّعانِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ النِّكاحِ؛ إذْ لَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ قَدْ وقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لاسْتَحالَ قَوْلُهُ: ( كَذَبْتُ عَلَيْها إنْ أمْسَكْتُها ) وهو غَيْرُ مُمْسِكٍ لَها، فَلَمّا أُخْبِرَ بَعْدَ اللِّعانِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ مُمْسِكٌ لَها ولَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعانِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُقارَّ النَّبِيُّ ﷺ أحَدًا عَلى الكَذِبِ ولا عَلى اسْتِباحَةِ نِكاحٍ قَدْ بَطَلَ، فَثَبَتَ أنَّ الفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعانِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنُ مِلْحانِ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِكِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ أنَّ ابْنَ شِهابٍ كَتَبَ يَذْكُرُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أنَّهُ أخْبَرَهُ «أنَّ عُوَيْمِرًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ إنْ وجَدْتُ عِنْدَ أهْلِي رَجُلًا أأقْتُلُهُ ؟ قالَ: ائْتِ بِامْرَأتِكَ فَإنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكُما فَجاءَ بِها فَلاعَنَها، ثُمَّ قالَ: إنِّي قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَيْها إنْ لَمْ أُفارِقْها». فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ فارَقَها بِاللِّعانِ وأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ ولَمّا طَلَّقَها ثَلاثًا بَعْدَ اللِّعانِ ولَمْ يُنْكِرْهُ ﷺ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الطَّلاقَ قَدْ وقَعَ مَوْقِعَهُ؛ وعَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ أنَّها قَدْ بانَتْ مِنهُ بِلِعانِ الزَّوْجِ ولا يَلْحَقُها طَلاقُهُ بَعْدَ البَيْنُونَةِ فَقَدْ خالَفَ الخَبَرَ مِن هَذا الوَجْهِ أيْضًا.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ السَّرْحِ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ عَنْ عِياضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الفِهْرِيِّ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ في هَذا الخَبَرِ أعْنِي «قِصَّةَ عُوَيْمِرٍ قالَ: فَطَلَّقَها ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكانَ ما صَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ قالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ في المُتَلاعِنَيْنِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما ثُمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا» . فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أنْفَذَ طَلاقَ العَجْلانِيِّ بَعْدَ اللِّعانِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُ ابْنِ شِهابٍ: ( فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ في المُتَلاعِنَيْنِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما ) ولَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ واقِعَةً بِاللِّعانِ لاسْتَحالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَها. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ ووَهْبُ بْنُ بَيانٍ وغَيْرُهُما قالُوا: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: مُسَدَّدٌ قالَ: «شَهِدْتُ المُتَلاعِنَيْنِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما حِينَ تَلاعَنا، فَقالَ الرَّجُلُ: كَذَبْتُ عَلَيْها يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها» فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أيْضًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَهُما بَعْدَ اللِّعانِ.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ قالَ: حَدَّثَنا أيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأتَهُ ؟ قالَ: «فَرَّقَ رَسُولُ (p-١٥٢)اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أخَوَيْ بَنِي العَجْلانِ فَقالَ: واللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنكُما تائِبٌ ؟ يُرَدِّدُها ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَأبَيا فَفَرَّقَ بَيْنَهُما». فَنَصَّ في هَذا الحَدِيثِ أيْضًا عَلى أنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُما بَعْدَ اللِّعانِ.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ عَنْ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّ رَجُلًا لاعَنَ امْرَأتَهُ في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وانْتَفى مِن ولَدِها، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما وألْحَقَ الوَلَدَ بِالمَرْأةِ» . وهَذا أيْضًا فِيهِ نَصٌّ عَلى أنَّ التَّفْرِيقَ كانَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأيْضًا لَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ واقِعَةً بِلِعانِ الزَّوْجِ لَبَيَّنَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِما وقَعَ بِها مِنَ التَّحْرِيمِ وتَعَلَّقَ بِها مِنَ الأحْكامِ، فَلَمّا لَمْ يُخْبِرْ عَلَيْهِ السَّلامُ بِوُقُوعِ الفُرْقَةِ بِلِعانِ الزَّوْجِ ثَبَتَ أنَّها لَمْ تَقَعْ.
وأيْضًا قَوْلُ الشّافِعِيِّ خِلافُ الآيَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ﴾ [النور: ٨] وهو يَعْنِي الزَّوْجَةَ، فَلَوْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ بِلِعانِ الزَّوْجِ لَلاعَنَتْ وهي أجْنَبِيَّةٌ، وذَلِكَ خِلافُ ظاهِرِ الآيَةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أوْجَبَ اللِّعانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وأيْضًا لا خِلافَ أنَّ الزَّوْجَ إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ بِغَيْرِ ولَدٍ بَعْدَ البَيْنُونَةِ أوْ قَذَفَها ثُمَّ أبانَها أنَّهُ لا يُلاعِنُ، فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يُلاعِنَ وهو أجْنَبِيٌّ كَذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ يُلاعِنَ وهي أجْنَبِيَّةٌ؛ لِأنَّ اللِّعانَ في هَذِهِ الحالِ إنَّما هو لِقَطْعِ الفِراشِ ولا فِراشَ بَعْدَ البَيْنُونَةِ، فامْتَنَعَ لِعانُها وهي غَيْرُ زَوْجَةٍ.
فَإنْ قِيلَ: في الأخْبارِ الَّتِي فِيها ذِكْرُ تَفْرِيقِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ إنَّما مَعْناهُ أنَّ الفُرْقَةَ وقَعَتْ بِاللِّعانِ، فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّها لا تَحِلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: «لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها» قِيلَ لَهُ: هَذا صَرْفٌ لِلْكَلامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ ومَعْناهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: «لا تَحِلُّ لَكَ لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها» إنْ لَمْ تَقَعْ بِهِ فُرْقَةٌ فَلَيْسَ بِتَفْرِيقٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَهُما، وإنَّما هو إخْبارٌ بِالحُكْمِ، والمُخْبِرُ بِالحُكْمِ لا يَكُونُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُما.
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «المُتَلاعِنانِ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا»، وذَلِكَ إخْبارٌ مِنهُ بِوُقُوعِ الفُرْقَةِ؛ لِأنَّ النِّكاحَ لَوْ كانَ باقِيًا إلى أنْ يُفَرَّقَ لَكانا مُجْتَمِعَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذا لا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وإنَّما رُوِيَ عَنْ عَمْرٍو وعَلِيٍّ قالَ: ( يُفَرَّقُ بَيْنَهُما ولا يَجْتَمِعانِ ) فَإنَّما مُرادُهُ أنَّهُما إذا فُرِّقَ بَيْنَهُما لا يَجْتَمِعانِ ما داما عَلى حالِ التَّلاعُنِ، فَيَنْبَغِي أنْ تَثْبُتَ الفُرْقَةُ حَتّى يَحْكُمَ بِأنَّهُما لا يَجْتَمِعانِ، ولَوْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ مَعْناهُ ما وصَفْنا.
وأيْضًا يُضَمُّ إلَيْهِ ما قَدَّمْنا مِنَ الأخْبارِ الدّالَّةِ عَلى بَقاءِ النِّكاحِ بَعْدَ اللِّعانِ وأنَّ الفُرْقَةَ إنَّما تَقَعُ بِتَفْرِيقِ الحاكِمِ، فَإذا جَمَعْنا بَيْنَهُما وبَيْنَ الخَبَرِ تَضَمَّنَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: المُتَلاعِنانِ لا يَجْتَمِعانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ.
ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا أنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ لا يَثْبُتُ حُكْمُها إلّا عِنْدَ الحاكِمِ، فَأشْبَهَ (p-١٥٣)الشَّهادَةَ الَّتِي لا يَثْبُتُ حُكْمُها إلّا عِنْدَ الحاكِمِ، فَواجِبٌ عَلى هَذا أنْ لا تَقَعَ مُوجِبَةً لِلْفُرْقَةِ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ.
فَإنْ قِيلَ: الأيْمانُ عَلى الدَّعاوى لا يَثْبُتُ بِها حُكْمٌ إلّا عِنْدَ الحاكِمِ، ومَتى اسْتَحْلَفَ الحاكِمُ رَجُلًا بَرِئَ مِنَ الخُصُومَةِ ولا يَحْتاجُ إلى اسْتِئْنافِ حُكْمٍ آخَرَ في بَراءَتِهِ مِنها، وهَذا يُوجِبُ انْتِقاضَ اعْتِلالِكَ بِما ذَكَرْتَ قِيلَ لَهُ: هَذا لا يَلْزَمُ عَلى ما ذَكَرْنا وذَلِكَ لِأنّا قُلْنا إنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُها بِالحاكِمِ كالشَّهاداتِ عَلى الحُقُوقِ، ولَيْسَتِ الأيْمانُ عَلى الحُقُوقِ شَهاداتٍ بِذَلِكَ عَلى هَذا أنَّ اللِّعانَ لا يَصِحُّ إلّا بِلَفْظِ الشَّهادَةِ كالشَّهاداتِ عَلى الحُقُوقِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ الِاسْتِحْلافُ عَلى الدَّعاوى.
وأيْضًا فَإنَّ اللِّعانَ تَسْتَحِقُّ بِهِ المَرْأةُ نَفْسَها كَما يَسْتَحِقُّ المُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَسْتَحِقَّ المُدَّعِي ما ادَّعاهُ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ وجَبَ حُكْمُهُ في اسْتِحْقاقِ المَرْأةِ نَفْسَها بِاللِّعانِ. وأمّا الِاسْتِحْلافُ عَلى الحُقُوقِ فَإنَّهُ لا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ وإنَّما تُقْطَعُ الخُصُومَةُ في الحالِ ويَبْقى المُدَّعى عَلَيْهِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ مِن بَراءَةِ الذِّمَّةِ، فَكانَتْ فُرْقَةُ اللِّعانِ بِالشَّهاداتِ عَلى الحُقُوقِ أشْبَهَ مِنها بِالِاسْتِحْلافِ عَلَيْها.
وأيْضًا لَمّا كانَ اللِّعانُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الحاكِمِ أشْبَهَ تَأْجِيلَ العِنِّينِ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ في تَعَلُّقِهِ بِحُكْمِ الحاكِمِ، فَلَمّا لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ بَعْدَ التَّأْجِيلِ بِمُضِيِّ المُدَّةِ دُونَ تَفْرِيقِ الحاكِمِ وجَبَ مِثْلُهُ في فُرْقَةِ اللِّعانِ لِما وصَفْنا. وأيْضًا لَمّا لَمْ يَكُنِ اللِّعانُ كِنايَةً عَنِ الفُرْقَةِ ولا تَصْرِيحًا بِها وجَبَ أنْ لا تَقَعَ بِهِ الفُرْقَةُ، كَسائِرِ الألْفاظِ الَّتِي لَيْسَتْ كِنايَةً عَنِ الفُرْقَةِ ولا تَصْرِيحًا بِها.
فَإنْ قِيلَ: الإيلاءُ لَيْسَ بِكِنايَةٍ عَنِ الطَّلاقِ ولا صَرِيحٍ، وقَدْ أُوقِعَتْ بِهِ الفُرْقَةُ عِنْدَ مُضِيِّ المُدَّةِ قِيلَ لَهُ: إنَّ الإيلاءَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنِ الطَّلاقِ، إلّا أنَّهُ أضْعَفُ مِن سائِرِ الكِناياتِ فَلا تَقَعُ الفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الإيلاءِ إلّا بِانْضِمامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ وهو تَرْكُ الجِماعِ في المُدَّةِ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ( واللَّهِ لا أقْرَبُكِ ) قَدْ يَدُلُّ عَلى التَّحْرِيمِ؛ إذْ كانَ التَّحْرِيمُ يَمْنَعُ القُرْبَ ؟ وأمّا اللِّعانُ فَلَيْسَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ دالًّا عَلى التَّحْرِيمِ بِحالٍ لِأنَّ أكْثَرَ ما فِيهِ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صادِقًا في قَذْفِهِ فَلا يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا؛ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قامَتِ البَيِّنَةُ عَلَيْها بِالزِّنا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وإنْ كانَ كاذِبًا والمَرْأةُ صادِقَةً فَذَلِكَ أبْعَدُ ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى التَّحْرِيمِ؛ قالَ: فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وُقُوعُ الفُرْقَةِ دُونَ إحْداثِ تَفْرِيقٍ إمّا مِن قِبَلِ الزَّوْجِ أوْ مِن قِبَلِ الحاكِمِ.
وأيْضًا أنَّهُ لَمّا لَمْ يَصِحَّ ابْتِداءُ اللِّعانِ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ كانَ كَذَلِكَ ما تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الفُرْقَةِ، ولَمّا صَحَّ ابْتِداءُ الإيلاءِ مِن غَيْرِ حاكِمٍ لَمْ يُحْتَجْ في وُقُوعِ الفُرْقَةِ إلى حُكْمِ الحاكِمِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا اتَّفَقْنا عَلى أنَّهُما لَوْ تَراضَيا (p-١٥٤)عَلى البَقاءِ عَلى النِّكاحِ لَمْ يُخَلِّيا وذَلِكَ وفُرِّقَ بَيْنَهُما، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ اللِّعانَ قَدْ أوْجَبَ الفُرْقَةَ، فَواجِبٌ أنْ تَقَعَ الفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ اللَّعّانِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ.
قِيلَ لَهُ: هَذا مُنْتَقَضٌ عَلى أصْلِ الشّافِعِيِّ؛ لِأنَّهُ يَزْعُمُ أنَّ ارْتِدادَ المَرْأةِ لا يُوجِبُ الفُرْقَةَ إلّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ وهو مُضِيُّ ثَلاثِ حِيَضٍ، فَإذا مَضَتْ ثَلاثُ حِيَضٍ وقَعَتِ الفُرْقَةُ، ولَوْ تَراضَيا عَلى البَقاءِ عَلى النِّكاحِ لَمْ يُخَلَّيا وذَلِكَ ولَمْ تُوجِبِ الرِّدَّةُ بِنَفْسِها الفُرْقَةَ دُونَ حُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، وعِنْدَنا لَوْ تَزَوَّجَتِ امْرَأةٌ زَوْجًا غَيْرَ كُفْءٍ وطالَبَ الأوْلِياءُ بِالفُرْقَةِ لَمْ يُعْمَلْ تَراضِي الزَّوْجَيْنِ في تَبْقِيَةِ النِّكاحِ ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ الفُرْقَةِ بِخُصُومَةِ الأوْلِياءِ حَتّى يُفَرِّقَ الحاكِمُ؛ فَهَذا الِاسْتِدْلال فاسِدٌ عَلى أصْلِ الجَمِيعِ. وأيْضًا فَإنَّكَ لَمْ تَرُدَّهُ إلى أصْلٍ، وإنَّما حَصَلْتَ عَلى دَعْوى عارِيَّةٍ مِنَ البُرْهانِ.
وأيْضًا جائِزٌ عِنْدَنا البَقاءُ عَلى النِّكاحِ بَعْدَ اللِّعانِ؛ لِأنَّهُ لَوْ أكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الفُرْقَةِ لَجُلِدَ الحَدَّ ولَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُما.
فَإنْ قِيلَ: هو مِثْلُ الطَّلاقِ الثَّلاثِ والرَّضاعِ ونَحْوِهِما مِنَ الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِلْفُرْقَةِ بِأنْفُسِها لا يُحْتاجُ في صِحَّةِ وُقُوعِها إلى حُكْمِ الحاكِمِ، واللِّعانُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ تَقَعَ بِهِ الفُرْقَةُ إذا تَلاعَنا عِنْدَ غَيْرِ الحاكِمِ، وأيْضًا لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخٌ يُوجِبُهُ بِنَفْسِهِ، ومِنَ الأسْبابِ ما يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ومِنها ما لا يُوجِبُهُ إلّا بِحُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ، ألا تَرى أنَّ بَيْعَ نَصِيبٍ مِنَ الدّارِ يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ ولا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَبِ والخُصُومَةِ دُونَ أنْ يَحْكُمَ بِها الحاكِمُ ؟ وكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالعَيْبِ بَعْدَ القَبْضِ وخِيارُ الصَّغِيرِ إذا بَلَغَ ونَحْوُ ذَلِكَ هَذِهِ كُلُّها أسْبابٌ يَتَعَلَّقُ بِها فَسْخُ العُقُودِ ثُمَّ لا يَقَعُ الفَسْخُ بِوُجُودِها حَسْبَ دُونَ حُكْمِ الحاكِمِ بِهِ، فَهو عَلى مَن يُوجِبُ الفُرْقَةَ بِاللِّعانِ دُونَ تَفْرِيقِ الحاكِمِ.
وأمّا عُثْمانُ البَتِّيُّ فَإنَّهُ ذَهَبَ في قَوْلِهِ إنَّ اللِّعانَ لا يُوجِبُ الفُرْقَةَ بِحالٍ؛ لِأنَّ اللِّعانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ ولا كِنايَةٍ عَنِ الفُرْقَةِ، ولَوْ تَلاعَنا في بَيْتِهِما لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الحاكِمِ؛ ولِأنَّ اللِّعانَ في الأزْواجِ قائِمٌ مَقامَ الحَدِّ عَلى قاذِفِ الأجْنَبِيّاتِ، ولَوْ حُدَّ الزَّوْجُ في قَذْفِهِ إيّاها بِأنْ أكْذَبَ نَفْسَهُ أوْ كانَ عَبْدًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً، وكَذَلِكَ إذا لاعَنَ. وذَهَبَ في تَفْرِيقِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ وكانَ طَلَّقَها ثَلاثًا بَعْدَ اللِّعانِ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُما.
ورَوى ابْنُ شِهابٍ أنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قالَ: ( فَطَلَّقَها العَجْلانِيُّ ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ بَعْدَ فَراغِهِما مِنَ اللِّعانِ فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ )، وحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أيْضًا إنَّما هو في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: في (p-١٥٥)حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ إنَّهُ قالَ: ( فَحَضَرْتُ هَذا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَعْنِي قِصَّةَ العَجْلانِيِّ فَمَضَتِ السُّنَّةُ في المُتَلاعِنَيْنِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما ثُمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا )، فَأخْبَرَ سَهْلٌ وهو راوِي هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِالتَّفْرِيقِ وإنْ لَمْ يُطَلِّقِ الزَّوْجُ؛ وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ في قِصَّةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَهُما.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهِلالٌ لَمْ يُطَلِّقِ امْرَأتَهُ، فَثَبَتَ أنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُما بَعْدَ اللِّعانِ واجِبٌ. وأيْضًا في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وغَيْرِهِ في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَهُما، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَهُما ثُمَّ طَلَّقَها هو ثَلاثًا فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وفِيهِ أنَّهُ قالَ: «لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها»
{"ayahs_start":6,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ أَزۡوَ ٰجَهُمۡ وَلَمۡ یَكُن لَّهُمۡ شُهَدَاۤءُ إِلَّاۤ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَـٰدَ ٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ","وَٱلۡخَـٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ أَزۡوَ ٰجَهُمۡ وَلَمۡ یَكُن لَّهُمۡ شُهَدَاۤءُ إِلَّاۤ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَـٰدَ ٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق