الباحث القرآني
بابُ حَدِّ القَذْفِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: الإحْصانُ عَلى ضَرْبَيْنِ، أحَدُهُما: ما يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلى الزّانِي، وهو أنْ يَكُونَ حُرًّا بالِغًا عاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأةً نِكاحًا صَحِيحًا ودَخَلَ بِها وهُما كَذَلِكَ، والآخَرُ: الإحْصانُ الَّذِي يُوجِبُ الحَدَّ عَلى قاذِفِهِ، وهو أنْ يَكُونَ حُرًّا بالِغًا عاقِلًا مُسْلِمًا عَفِيفًا. ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ في هَذا المَعْنى.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعالى المُحْصَناتِ بِالذِّكْرِ، ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ المُحْصَنِينَ مُرادُونَ بِالآيَةِ، وأنَّ الحَدَّ واجِبٌ عَلى قاذِفِ الرَّجُلِ المُحْصَنِ كَوُجُوبِهِ عَلى قاذِفِ المُحْصَنَةِ.
واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الرَّمْيُ بِالزِّنا، وإنْ كانَ في فَحْوى اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ نَصٍّ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ المُحْصَناتِ وهُنَّ العَفائِفُ دَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالرَّمْيِ رَمْيُها بِضِدِّ العَفافِ وهو الزِّنا.
ووَجْهٌ آخَرُ مِن دَلالَةِ فَحْوى اللَّفْظِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ يَعْنِي: عَلى صِحَّةِ ما رَمَوْهُ بِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا العَدَدَ مِنَ الشُّهُودِ إنَّما هو مَشْرُوطٌ في الزِّنا، فَدَلَّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ:﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ مَعْناهُ: يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنا. ويَدُلُّ ذَلِكَ عَلى مَعْنًى آخَرَ، وهو أنَّ القَذْفَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الحَدُّ إنَّما هو القَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنا، وهو الَّذِي إذا جاءَ بِالشُّهُودِ عَلَيْهِ حُدَّ المَشْهُودُ عَلَيْهِ، ولَوْلا ما في فَحْوى اللَّفْظِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الرَّمْيِ مَخْصُوصًا بِالزِّنا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ الرَّمْيُ بِها؛ إذْ قَدْ يَرْمِيها بِسَرِقَةٍ وشُرْبِ خَمْرٍ وكُفْرٍ وسائِرِ الأفْعالِ المَحْظُورَةِ، ولَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ في إيجابِ حُكْمِهِ بَلْ كانَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الحُكْمِ عَلى البَيانِ، إلّا أنَّهُ كَيْفَما تَصَرَّفَتِ الحالُ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفاقُ عَلى أنَّ الرَّمْيَ بِالزِّنا مُرادٌ، ولَمّا كانَ كَذَلِكَ صارَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: واَلَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ بِالزِّنا؛ إذْ حُصُولُ الإجْماعِ عَلى أنَّ الزِّنا مُرادٌ بِمَنزِلَةِ ذِكْرِهِ في اللَّفْظِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أنْ يَكُونَ وُجُوبُ حَدِّ القَذْفِ مَقْصُورًا (p-١١١)عَلى القَذْفِ بِالزِّنا دُونَ غَيْرِهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ والفُقَهاءُ في التَّعْرِيضِ بِالزِّنا، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ وابْنُ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: " لا حَدَّ في التَّعْرِيضِ بِالقَذْفِ " . وقالَ مالِكٌ: " عَلَيْهِ فِيهِ الحَدُّ " .
ورَوى الأوْزاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: كانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الحَدَّ في التَّعْرِيضِ " .
ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ عَنْ أبِي الرِّجالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ: " أنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبّا في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقالَ. أحَدُهُما لِلْآخَرِ: واللَّهِ ما أبِي بِزانٍ ولا أُمِّي بِزانِيَةٍ فاسْتَشارَ في ذَلِكَ عُمَرُ النّاسَ، فَقالَ قائِلٌ مَدَحَ أباهُ وأُمَّهُ وقالَ آخَرُونَ: قَدْ كانَ لِأبِيهِ وأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذا، نَرى أنْ يُجْلَدَ الحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الحَدَّ ثَمانِينَ "، ومَعْلُومٌ أنَّ عُمَرَ لَمْ يُشاوِرْ في ذَلِكَ إلّا الصَّحابَةَ الَّذِينَ إذا خالَفُوا قُبِلَ خِلافُهم، فَثَبَتَ بِذَلِكَ حُصُولُ الخِلافِ بَيْنَ السَّلَفِ. ثُمَّ لَمّا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ هو الرَّمْيُ بِالزِّنا لَمْ يَجُزْ لَنا إيجابُ الحَدِّ عَلى غَيْرِهِ؛ إذْ لا سَبِيلَ إلى إثْباتِ الحُدُودِ مِن طَرِيقِ المَقايِيسِ وإنَّما طَرِيقُها الِاتِّفاقُ أوِ التَّوْقِيفُ وذَلِكَ مَعْدُومٌ في التَّعْرِيضِ، وفي مُشاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحابَةَ في حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم فِيهِ تَوْقِيفٌ، وأنَّهُ قالَهُ اجْتِهادًا ورَأْيًا.
وأيْضًا فَإنَّ التَّعْرِيضَ بِمَنزِلَةِ الكِنايَةِ المُحْتَمِلَةِ لِلْمَعانِي، وغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ الحَدِّ بِالِاحْتِمالِ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الأصْلَ أنَّ القائِلَ بَرِيءُ الظَّهْرِ مِنَ الجَلْدِ فَلا نَجْلِدُهُ بِالشَّكِّ والمُحْتَمَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، ألا تَرى أنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكانَةَ لَمّا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ألْبَتَّةَ اسْتَحْلَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ ما أرَدْتَ إلّا واحِدَةً فَلَمْ يُلْزِمْهُ الثَّلاثَ بِالِاحْتِمالِ ؟ ولِذَلِكَ قالَ الفُقَهاءُ في كِناياتِ الطَّلاقِ إنَّها لا تُجْعَلُ طَلاقًا إلّا بِدَلالَةٍ.
والوَجْهُ الآخَرُ: ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهاتِ»، وأقَلُّ أحْوالِ التَّعْرِيضِ حِينَ كانَ مُحْتَمِلًا لِلْقَذْفِ وغَيْرِهِ أنْ يَكُونَ شُبْهَةً في سُقُوطِهِ. وأيْضًا قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعالى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالنِّكاحِ في العِدَّةِ وبَيْنَ التَّصْرِيحِ فَقالَ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ أوْ أكْنَنْتُمْ في أنْفُسِكم عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ [البقرة: ٢٣٥] يَعْنِي نِكاحًا، فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ بِمَنزِلَةِ الإضْمارِ في النَّفْسِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمَ التَّعْرِيضِ بِالقَذْفِ، والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما أنَّ التَّعْرِيضَ لَمّا كانَ فِيهِ احْتِمالٌ كانَ في حُكْمِ الضَّمِيرِ لِوُجُودِ الِاحْتِمالِ فِيهِ
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في حَدِّ العَبْدِ في القَذْفِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ ومالِكٌ وعُثْمانُ البَتِّيُّ والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ: " إذا قَذَفَ العَبْدُ حُرًّا فَعَلَيْهِ أرْبَعُونَ جَلْدَةً " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " يُجْلَدُ ثَمانِينَ " .
ورَوى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (p-١١٢)عَنْ أبِيهِ أنَّ عَلِيًّا قالَ: " يُجْلَدُ العَبْدُ في الفِرْيَةِ أرْبَعِينَ " .
ورَوى الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ ذَكْوانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قالَ: أدْرَكْتُ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ ومَن بَعْدَهم مِنَ الخُلَفاءِ فَلَمْ أرَهم يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ في القَذْفِ إلّا أرْبَعِينَ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهو مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ وسالِمٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وعَطاءٍ.
ورَوى لَيْثُ بْنُ أبِي سُلَيْمٍ عَنِ القاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قالَ في عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا: " إنَّهُ يُجْلَدُ ثَمانِينَ " . وقالَ أبُو الزِّنادِ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ عَبْدًا في الفِرْيَةِ ثَمانِينَ " . ولَمْ يَخْتَلِفُوا في أنَّ حَدَّ العَبْدِ في الزِّنا خَمْسُونَ عَلى النِّصْفِ مِن حَدِّ الحُرِّ لِأجْلِ الرِّقِّ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥] فَنَصَّ عَلى حَدِّ الأمَةِ وأنَّهُ نِصْفُ حَدِّ الحُرَّةِ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ العَبْدَ بِمَنزِلَتِها لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حَدُّهُ في القَذْفِ عَلى النِّصْفِ مِن حَدِّ الحُرِّ لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ.
واخْتَلَفُوا في قاذِفِ المَجْنُونِ والصَّبِيِّ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: " لا حَدَّ عَلى قاذِفِ المَجْنُونِ والصَّبِيِّ " . وقالَ مالِكٌ: " لا يُحَدُّ قاذِفُ الصَّبِيِّ وإنْ كانَ مِثْلُهُ يُجامِعُ إذا لَمْ يَبْلُغْ، ويُحَدُّ قاذِفُ الصَّبِيَّةِ إذا كانَ مِثْلُها تُجامَعُ وإنْ لَمْ تُحْصَنْ، ويُحَدُّ قاذِفُ المَجْنُونِ " . وقالَ اللَّيْثُ " يُحَدُّ قاذِفُ المَجْنُونِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: المَجْنُونُ والصَّبِيُّ والصَّبِيَّةُ لا يَقَعُ مِن واحِدٍ مِنهم زِنًا؛ لِأنَّ الوَطْءَ مِنهم لا يَكُونُ زِنًا؛ إذْ كانَ الزِّنا فِعْلًا مَذْمُومًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ العِقابَ وهَؤُلاءِ لا يَسْتَحِقُّونَ العِقابَ عَلى أفْعالِهِمْ، فَقاذِفُهم بِمَنزِلَةِ قاذِفِ المَجْنُونِ لِوُقُوعِ العِلْمِ بِكَذِبِ القاذِفِ؛ ولِأنَّهم لا يَلْحَقُهم شَيْنٌ بِذَلِكَ الفِعْلِ لَوْ وقَعَ مِنهم، فَكَذَلِكَ لا يَشِينُهم قَذْفُ القاذِفِ لَهم بِذَلِكَ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ المُطالَبَةَ بِالحَدِّ إلى المَقْذُوفِ ولا يَجُوزُ أنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقامَهُ فِيهِ، ألا تَرى أنَّ الوَكالَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِ ؟ وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبِ المُطالَبَةُ لِأحَدٍ وقْتَ القَذْفِ، فَلَمْ يَجِبِ الحَدُّ؛ لِأنَّ الحَدَّ إذا وجَبَ فَإنَّما يَجِبُ بِالقَذْفِ لا غَيْرَ. فَإنْ قِيلَ: فَلِلرَّجُلِ أنْ يَأْخُذَ بِحَدِّ أبِيهِ إذا قُذِفَ وهو مَيِّتٌ فَقَدْ جازَ أنْ يُطالِبَ عَنِ الغَيْرِ بِحَدِّ القَذْفِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما يُطالِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِما حَصَلَ بِهِ مِنَ القَدْحِ في نَسَبِهِ ولا يُطالِبُ عَنِ الأبِ. وأيْضًا لَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قاذِفَ الصَّبِيِّ لا يُحَدُّ كانَ كَذَلِكَ قاذِفُ الصَّبِيَّةِ؛ لِأنَّهُما جَمِيعًا مِن غَيْرِ أهْلِ التَّكْلِيفِ ولا يَصِحُّ وُقُوعُ الزِّنا مِنهُما، فَكَذَلِكَ المَجْنُونُ لِهَذِهِ العِلَّةِ.
واخْتَلَفُوا فِيمَن قَذَفَ جَماعَةً، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ واللَّيْثُ: " إذا قَذَفَهم بِقَوْلٍ واحِدٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ واحِدٌ " . وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: " إذا قالَ لَهم يا زُناةُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ واحِدٌ، وإنْ قالَ لِكُلِّ (p-١١٣)إنْسانٍ يا زانِي فَلِكُلِّ إنْسانٍ حَدٌّ " وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: " إذا قَذَفَ جَماعَةً فَعَلَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ، وإنْ قالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتَ بِفُلانَةَ فَعَلَيْهِ حَدٌّ واحِدٌ؛ لِأنَّ عُمَرَ ضَرَبَ أبا بَكْرَةَ وأصْحابَهُ حَدًّا واحِدًا ولَمْ يَحُدَّهم لِلْمَرْأةِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا قالَ يا زانِيَ ابْنَ زانٍ فَعَلَيْهِ حَدّانِ، وإنْ قالَ لِجَماعَةٍ إنَّكم زُناةٌ فَحَدٌّ واحِدٌ " . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا قالَ مَن كانَ داخِلَ هَذِهِ الدّارِ فَهو زانٍ ضُرِبَ لِمَن كانَ داخِلَها إذا عُرِفُوا " .
وقالَ الشّافِعِيُّ فِيما حَكاهُ المُزَنِيُّ عَنْهُ: " إذا قَذَفَ جَماعَةً بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَلِكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ، وإنْ قالَ لِرَجُلٍ واحِدٍ يا ابْنَ الزّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدّانِ " وقالَ في أحْكامِ القُرْآنِ: " إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ بِرَجُلٍ لاعَنَ ولَمْ يُحَدَّ لِلرَّجُلِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ مُرادَهُ جَلْدُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ القاذِفِينَ ثَمانِينَ جَلْدَةً، فَكانَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: ومَن رَمى مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ ثَمانُونَ جَلْدَةً، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ قاذِفَ جَماعَةٍ مِنَ المُحْصَناتِ لا يُجْلَدُ أكْثَرَ مِن ثَمانِينَ، ومَن أوْجَبَ عَلى قاذِفِ جَماعَةِ المُحْصَناتِ أكْثَرَ مِن حَدٍّ واحِدٍ فَهو مُخالِفٌ لِحُكْمِ الآيَةِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عَدِيٍّ قالَ: أنْبَأنا هِشامُ بْنُ حَسّانَ قالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ «هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: البَيِّنَةُ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إذا رَأى أحَدُنا رَجُلًا عَلى امْرَأتِهِ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ ؟، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: البَيِّنَةُ وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ فَقالَ هِلالٌ: واَلَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إنِّي لَصادِقٌ ولِيُنْزِلَنَّ اللَّهُ في أمْرِي ما يُبْرِئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ فَنَزَلَتْ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ [النور: ٦]» وذَكَرَ الحَدِيثَ. ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا مَخْلَدُ بْنُ الحُسَيْنِ عَنْ هِشامٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ سَحْماءَ بِامْرَأتِهِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: ائْتِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ قالَ ذَلِكَ مِرارًا، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعانِ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِهَذا الخَبَرِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ الآيَةَ، كانَ حُكْمًا عامًّا في الزَّوْجاتِ كَهو في الأجْنَبِيّاتِ، لِقَوْلِهِ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ: " بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " ولِأنَّ عُمُومَ الآيَةِ قَدِ اقْتَضى ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يُوجِبِ النَّبِيُّ ﷺ عَلى هِلالٍ إلّا حَدًّا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأتِهِ ولِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ، إلى أنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعانِ فَأُقِيمَ اللِّعانُ في الزَّوْجاتِ مَقامَ الحَدِّ في الأجْنَبِيّاتِ، ولَمْ يُنْسَخْ مُوجِبُ الخَبَرِ مِن وُجُوبِ الِاقْتِصارِ عَلى حَدٍّ واحِدٍ إذا قَذَفَ (p-١١٤)جَماعَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ لا يَجِبُ عَلى قاذِفِ الجَماعَةِ إلّا حَدٌّ واحِدٌ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ سائِرَ ما يُوجِبُ الحَدَّ إذا وُجِدَ مِنهُ مِرارًا لا يُوجِبُ إلّا حَدًّا واحِدًا، كَمَن زَنى مِرارًا أوْ سَرَقَ مِرارًا أوْ شَرِبَ مِرارًا لَمْ يُحَدَّ إلّا حَدًّا واحِدًا، فَكانَ اجْتِماعُ هَذِهِ الحُدُودِ الَّتِي هي مِن جِنْسٍ واحِدٍ مُوجِبًا لِسُقُوطِ بَعْضِها والِاقْتِصارِ عَلى واحِدٍ مِنها، والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما أنَّها حَدٌّ، وإنْ شِئْتَ قُلْتَ إنَّهُ مِمّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.
فَإنْ قِيلَ حَدُّ القَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَإذا قَذَفَ جَماعَةً وجَبَ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُمُ اسْتِيفاءُ حَدِّهِ عَلى حِيالِهِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أنَّهُ لا يُحَدُّ إلّا بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ، قِيلَ لَهُ: الحَدُّ هو حَقٌّ لِلَّهِ تَعالى كَسائِرِ الحُدُودِ في الزِّنا والسَّرِقَةِ وشُرْبِ الخَمْرِ، وإنَّما المُطالَبَةُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لا الحَدُّ نَفْسُهُ، ولَيْسَ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَلى مُطالَبَةِ الآدَمِيِّ مِمّا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ الحَدُّ نَفْسُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، ألا تَرى أنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لا يَثْبُتُ إلّا بِمُطالَبَةِ الآدَمِيِّ ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ القَطْعُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ؟ فَكَذَلِكَ حَدُّ القَذْفِ، ولِذَلِكَ لا يُجِيزُ أصْحابُنا العَفْوَ عَنْهُ، ولا يُورَثُ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعالى اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ العَبْدَ يُجْلَدُ في القَذْفِ أرْبَعِينَ، ولَوْ كانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَما اخْتَلَفَ الحُرُّ والعَبْدُ فِيهِ؛ إذْ كانَ الجَلْدُ مِمّا يَتَنَصَّفُ، ألا تَرى أنَّ العَبْدَ والحُرَّ يَسْتَوِيانِ فِيما يَثْبُتُ عَلَيْهِما مِنَ الجِناياتِ عَلى الآدَمِيِّينَ فَإذا قَتَلَ العَبْدُ ثَبَتَ الدَّمُ في عُنُقِهِ فَإذا كانَ عَمْدًا قُتِلَ وإنْ كانَ خَطَأً كانَتِ الدِّيَةُ في رَقَبَتِهِ كَما لَوْ قَتَلَهُ حَرٌّ وجَبَتِ الدِّيَةُ ؟ فَلَوْ كانَ حَدُّ القَذْفِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَما اخْتَلَفَ مَعَ إمْكانِ تَنْصِيفِهِ الحُرُّ والعَبْدُ، وكَذَلِكَ العَبْدُ والحُرُّ لا يَخْتَلِفانِ في اسْتِهْلاكِ الأمْوالِ؛ إذْ ما يَثْبُتُ عَلى الحُرِّ فَمِثْلُهُ يَثْبُتُ عَلى العَبْدِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في إقامَةِ حَدِّ القَذْفِ مِن غَيْرِ مُطالَبَةِ المَقْذُوفِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " لا يُحَدُّ إلّا بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ " . وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: " يَحُدُّهُ الإمامُ، وإنْ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفُ " وقالَ مالِكٌ: " لا يَحُدُّهُ الإمامُ حَتّى يُطالِبَ المَقْذُوفُ إلّا أنْ يَكُونَ الإمامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُ فَيَحُدُّهُ إذا كانَ مَعَ الإمامِ شُهُودٌ عُدُولٌ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ المَهْرِيُّ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ وهْبٍ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: تَعافُوا الحُدُودَ فِيما بَيْنَكم فَما بَلَغَنِي مِن حَدٍّ فَقَدْ وجَبَ»، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ ما بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ مِن حَدٍّ لَمْ يَكُنْ يُهْمِلُهُ ولا يُقِيمُهُ، فَلَمّا قالَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ: «ائْتِنِي بِأرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإلّا (p-١١٥)فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ» ولَمْ يُحْضِرْ شُهُودًا ولَمْ يَحُدَّهُ حِينَ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفَ بِالحَدِّ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ حَدَّ القَذْفِ لا يُقامُ إلّا بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رُوِيَ في حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خالِدٍ وأبِي هُرَيْرَةَ في «قِصَّةِ العَسِيفِ، وأنَّ أبا الزّانِي قالَ: إنَّ ابْنِي زَنى بِامْرَأةِ هَذا، فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَذْفِها وقالَ: اُغْدُ يا أُنَيْسُ عَلى امْرَأةِ هَذا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها» . ولَمّا كانَ حَدُّ القَذْفِ واجِبًا لِما انْتُهِكَ مِن عِرْضِهِ بِقَذْفِهِ مَعَ إحْصانِهِ وجَبَ أنْ تَكُونَ المُطالَبَةُ بِهِ حَقًّا لَهُ دُونَ الإمامِ، كَما أنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَمّا كانَ واجِبًا لِما انْتُهِكَ مِن حِرْزِ المَسْرُوقِ وأخْذِ مالِهِ لَمْ يَثْبُتْ إلّا بِمُطالَبَةِ المَسْرُوقِ مِنهُ، وأمّا فَرْقُ مالِكٍ بَيْنَ أنْ يَسْمَعَهُ الإمامُ أوْ يَشْهَدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ هَذا إنْ كانَ مِمّا لِلْإمامِ إقامَتُهُ مِن غَيْرِ مُطالَبَةِ المَقْذُوفِ فَواجِبٌ أنْ لا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ سَماعِ الإمامِ وشَهادَةِ الشُّهُودِ مِن غَيْرِ سَماعِهِ
* * *
بابُ شَهادَةِ القاذِفِ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَكَمَ اللَّهُ تَعالى في القاذِفِ إذا لَمْ يَأْتِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ عَلى ما قَذَفَهُ بِهِ بِثَلاثَةِ أحْكامٍ:
أحَدُها جَلْدُ ثَمانِينَ، والثّانِي بُطْلانُ الشَّهادَةِ، والثّالِثُ: الحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ إلى أنْ يَتُوبَ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في لُزُومِ هَذِهِ الأحْكامِ لَهُ وثُبُوتِها عَلَيْهِ بِالقَذْفِ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى وُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ القَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى الزِّنا، فَقالَ قائِلُونَ: " قَدْ بَطَلَتْ شَهادَتُهُ ولَزِمَتْهُ سِمَةُ الفِسْقِ قَبْلَ إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِ " وهو قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ والشّافِعِيِّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ ومالِكٌ: " شَهادَتُهُ مَقْبُولَةٌ ما لَمْ يُحَدَّ " وهَذا يَقْتَضِي مِن قَوْلِهِمْ أنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الفِسْقِ ما لَمْ يَقَعْ بِهِ الحَدُّ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الفِسْقِ لَما جازَتْ شَهادَتُهُ؛ إذْ كانَتْ سِمَةُ الفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهادَةِ مَن وُسِمَ بِها إذا كانَ فِسْقُهُ مِن طَرِيقِ الفِعْلِ لا مِن جِهَةِ التَّدَيُّنِ والِاعْتِقادِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ فَأوْجَبَ بُطْلانَ شَهادَتِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى صِحَّةِ قَذْفِهِ، وفي ذَلِكَ ضَرْبانِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى جَوازِ شَهادَتِهِ وبَقاءِ حُكْمِ عَدالَتِهِ ما لَمْ يَقَعِ الحَدُّ بِهِ:
أحَدُهُما قَوْلُهُ ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ الآيَةَ، فَكانَ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ (p-١١٦)فَإنَّما حُكِمَ بِفِسْقِهِمْ مُتَراخِيًا عَنْ حالِ القَذْفِ في حالِ العَجْزِ عَنْ إقامَةِ الشُّهُودِ فَمَن حَكَمَ بِفِسْقِهِمْ بِنَفْسِ القَذْفِ فَقَدْ خالَفَ حُكْمَ الآيَةِ وأوْجَبَ ذَلِكَ أنْ تَكُونَ شَهادَةُ القاذِفِ غَيْرَ مَرْدُودَةٍ لِأجْلِ القَذْفِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ بِنَفْسِ القَذْفِ لَمْ تَبْطُلْ شَهادَتُهُ.
وأيْضًا فَلَوْ كانَتِ الشَّهادَةُ تَبْطُلُ بِنَفْسِ القَذْفِ لَما كانَ تَرْكُهُ إقامَةَ البَيِّنَةِ عَلى زِنا المَقْذُوفِ مُبْطِلًا لِشَهادَتِهِ وهي قَدْ بَطَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ المَعْقُولَ مِن هَذا اللَّفْظِ أنَّهُ لا تَبْطُلُ شَهادَتُهُ ما دامَتْ إقامَةُ البَيِّنَةِ عَلى زِناهُ مُمْكِنَةً، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قالَ رَجُلٌ لِامْرَأتِهِ " أنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلانًا ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِي الدّارَ " أنَّها إنْ كَلَّمَتْ فُلانًا لَمْ تُطَلَّقْ حَتّى تَتْرُكَ دُخُولَ الدّارِ إلى أنْ تَمُوتَ فَتُطَلَّقَ حِينَئِذٍ قَبْلَ مَوْتِها بِلا فَصْلٍ ؟ وكَذَلِكَ لَوْ قالَ: " أنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلانًا ولَمْ تَدْخُلِي الدّارَ " كانَ بِهَذِهِ المَنزِلَةِ وكانَ الكَلامُ وتَرْكُ الدُّخُولِ إلى أنْ تَمُوتَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلاقِ ولا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ " وأنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلانًا ثُمَّ دَخَلْتِ الدّارَ " وبَيْنَ قَوْلِهِ: " إنْ كَلَّمْتِ فُلانًا ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِيها " وإنِ افْتَرَقا مِن جِهَةِ أنَّ شَرْطَ اليَمِينِ في أحَدِهِما وُجُودُ الدُّخُولِ وفي الآخَرِ نَفْيُهُ ولَمّا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ.
وكانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ مُقْتَضِيًا لِشَرْطَيْنِ في بُطْلانِ شَهادَةِ القاذِفِ أحَدُهُما: الرَّمْيُ والآخَرُ عَدَمُ الشُّهُودِ عَلى زِنا المَقْذُوفِ مُتَراخِيًا عَنِ القَذْفِ وفَواتِ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ بِهِ، فَما دامَتْ إقامَةُ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنا مُمْكِنَةً بِخُصُومَةِ القاذِفِ فَقَدِ اقْتَضى لَفْظُ الآيَةِ بَقاءَهُ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِ وأيْضًا لا يَخْلُو القاذِفُ مِن أنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وبُطْلانِ شَهادَتِهِ بِنَفْسِ القَذْفِ أوْ أنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِإقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ كانَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ القَذْفِ - ولِذَلِكَ بَطَلَتْ - شَهادَتُهُ فَواجِبٌ أنْ لا تُقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَتُهُ عَلى الزِّنا؛ إذْ قَدْ وقَعَ الحُكْمُ بِكَذِبِهِ والحُكْمُ بِكَذِبِهِ في قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلانِ شَهادَةِ مَن شَهِدَ بِصِدْقِهِ في كَوْنِ المَقْذُوفِ زانِيًا فَلَمّا لَمْ يَخْتَلِفُوا في حُكْمِ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ عَلى المَقْذُوفِ بِالزِّنا، وأنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ عَنْهُ الحَدَّ ثَبَتَ أنَّ قَذْفَهُ لَمْ يُوجِبْ أنْ يَكُونَ كاذِبًا فَواجِبٌ أنْ لا تَبْطُلَ شَهادَتُهُ؛ إذْ لَمْ يُحْكَمْ بِكَذِبِهِ؛ لِأنَّ مَن سَمِعْناهُ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ لا نَعْلَمُ فِيهِ صِدْقَهُ مِن كَذِبِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ شَهادَتُهُ، ألا تَرى أنَّ قاذِفَ امْرَأتِهِ بِالزِّنا تَبْطُلُ شَهادَتُهُ بِنَفْسِ القَذْفِ ولا يَكُونُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ ؟ ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما جازَ إيجابُ اللِّعانِ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ ولَما أُمِرَ أنْ يَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَصادِقٌ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا مَعَ الحُكْمِ بِكَذِبِهِ ولَما وُعِظَ في تَرْكِ اللِّعانِ الكاذِبُ مِنهُما، ولَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ (p-١١٧)ما لاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: " اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنكُما تائِبٌ ؟ " فَأخْبَرَ أنَّ أحَدَهُما بِغَيْرِ عَيْنِهِ هو الكاذِبُ ولَمْ يَحْكم بِكَذِبِ القاذِفِ دُونَ الزَّوْجَةِ، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ نَفْسَ القَذْفِ لا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُ ولا الحُكْمَ بِتَكْذِيبِهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣] فَلَمْ يَحْكم بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ القَذْفِ فَقَطْ بَلْ إذا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، ومَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ إذا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ عِنْدَ الخُصُومَةِ في القَذْفِ، فَغَيْرُ جائِزٍ إبْطالُ شَهادَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وهو عَجْزُهُ عَنْ إقامَةِ البَيِّنَةِ بَعْدَ الخُصُومَةِ في حَدِّ القَذْفِ عِنْدَ الإمامِ؛ إذْ كانَ الشُّهَداءُ إنَّما يُقِيمُونَ الشَّهادَةَ عِنْدَ الإمامِ فَمَن حَكَمَ بِتَفْسِيقِهِ وأبْطَلَ شَهادَتَهُ بِنَفْسِ القَذْفِ فَقَدْ خالَفَ الآيَةَ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا وقالُوا هَذا إفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: ١٢] دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ عَلى النّاسِ إذا سَمِعُوا مَن يَقْذِفُ آخَرَ أنْ يَحْكُمُوا بِكَذِبِهِ ورَدِّ شَهادَتِهِ إلى أنْ يَأْتِيَ بِالشُّهَداءِ.
قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في شَأْنِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وقَذَفَتِها؛ لِأنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ﴾ [النور: ١١] إلى قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ [النور: ١٢] وقَدْ كانَتْ بَرِيئَةَ السّاحَةِ غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ بِذَلِكَ، وقاذِفُوها أيْضًا لَمْ يَقْذِفُوها بِرُؤْيَةٍ مِنهم لِذَلِكَ وإنَّما قَذَفُوها ظَنًّا مِنهم وحُسْبانًا حِينَ تَخَلَّفَتْ.
ولَمْ يَدَّعِ أحَدٌ أنَّهم أنَّهُ رَأى ذَلِكَ، ومَن أخْبَرَ عَنْ ظَنٍّ في مِثْلِهِ فَعَلَيْنا إكْذابُهُ والنَّكِيرُ عَلَيْهِ. وأيْضًا لَمّا قالَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣] فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْ إقامَةِ البَيِّنَةِ، عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: ﴿وقالُوا هَذا إفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: ١٢] إيجابَ الحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ القَذْفِ، وأنَّ مَعْناهُ: وقالُوا هَذا إفْكٌ مُبِينٌ؛ إذْ سَمِعُوهُ ولَمْ يَأْتِ القاذِفُ بِالشُّهُودِ. والشّافِعِيُّ يَزْعُمُ أنَّ شُهُودَ القَذْفِ إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهادَتُهم، فَإنْ كانَ القَذْفُ قَدْ أبْطَلَ شَهادَتَهُ فَوَجَبَ أنْ لا يَقْبَلَها بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلاثَةٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ فُسِّقَ بِقَذْفِهِ فَوَجَبَ الحُكْمُ بِتَكْذِيبِهِ، وفي قَبُولِ شَهادَتِهِمْ إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ما يَلْزَمُهُ أنْ لا تَبْطُلَ شَهادَتُهم بِنَفْسِ القَذْفِ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما رَوى الحَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ»، فَأخْبَرَ ﷺ بِبَقاءِ عَدالَةِ القاذِفِ ما لَمْ يُحَدَّ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا حَدِيثُ عَبّادِ بْنِ مَنصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في «قِصَّةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمّا قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أيُجْلَدُ هِلالٌ (p-١١٨)وتَبْطُلُ شَهادَتُهُ في المُسْلِمِينَ» فَأخْبَرَ أنَّ بُطْلانَ شَهادَتِهِ مُعَلَّقٌ بِوُقُوعِ الجَلْدِ بِهِ، ودَلَّ بِذَلِكَ أنَّ القَذْفَ لَمْ يُبْطِلْ شَهادَتَهُ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في شَهادَةِ المَحْدُودِ في القَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وزُفَرُ وأبُو يُوسُفَ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ إذا تابَ وتُقْبَلُ شَهادَةُ المَحْدُودِ في غَيْرِ القَذْفِ إذا تابَ " . وقالَ مالِكٌ وعُثْمانُ البَتِّيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ تُقْبَلُ شَهادَةُ المَحْدُودِ في القَذْفِ إذا تابَ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " لا تُقْبَلُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ في الإسْلامِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: رَوى الحَجّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وعُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ثُمَّ اسْتَثْنى فَقالَ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ فَتابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الفِسْقِ، وأمّا الشَّهادَةُ فَلا تَجُوزُ.
حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجٌ، وقَدْ ورَدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا ما حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ قالَ: ثُمَّ قالَ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ قالَ: " فَمَن تابَ وأصْلَحَ فَشَهادَتُهُ في كِتابِ اللَّهِ مَقْبُولَةٌ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ مُخالِفًا لِما رُوِيَ عَنْهُ في الحَدِيثِ الأوَّلِ، بِأنْ يَكُونَ أرادَ بِأنَّ شَهادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذا لَمْ يُجْلَدْ وتابَ، والأوَّلُ عَلى أنَّهُ جُلِدَ فَلا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ وإنْ تابَ. ورُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وإبْراهِيمَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالُوا: " لا تَجُوزُ شَهادَتُهُ وإنْ تابَ إنَّما تَوْبَتُهُ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ " . وقالَ إبْراهِيمُ: " رُفِعَ عَنْهم بِالتَّوْبَةِ اسْمُ الفِسْقِ فَأمّا الشَّهادَةُ فَلا تَجُوزُ أبَدًا " .
ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ وطاوُسٍ ومُجاهِدٍ والشَّعْبِيِّ والقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وسالِمٍ والزُّهْرِيِّ: " أنَّ شَهادَتَهُ تُقْبَلُ إذا تابَ " . ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ مِن وجْهٍ مَطْعُونٍ فِيهِ أنَّهُ قالَ لِأبِي بَكْرَةَ: " إنْ تُبْتَ قُبِلَتْ شَهادَتُكَ "، وذَلِكَ أنَّهُ رَواهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قالَ سُفْيانُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، ثُمَّ شَكَّ وقالَ: هو عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، أنَّ عُمَرَ قالَ لِأبِي بَكْرَةَ: " إنْ تُبْتَ قُبِلَتْ شَهادَتُكَ فَأبى أنْ يَتُوبَ "، فَشَكَّ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ في سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وعُمَرَ بْنِ قَيْسٍ ويُقالُ إنَّ عُمَرَ بْنَ قَيْسٍ مَطْعُونٌ فِيهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عُمَرَ بِهَذا الإسْنادِ هَذا القَوْلُ. ورَواهُ اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهابٍ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ عُمَرَ قالَ ذَلِكَ لِأبِي بَكْرَةَ، وهَذا بَلاغٌ لا يُعْمَلُ عَلَيْهِ عَلى مَذْهَبِ المُخالِفِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ شَهادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ (p-١١٩)بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَإنْ صَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ فَلَمْ يُخالِفْهُ إلّا إلى ما هو أقْوى مِنهُ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ في حَدِيثِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ لِأبِي بَكْرَةَ بَعْدَما جَلَدَهُ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قالَ قَبْلَ الجَلْدِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وما ذَكَرْنا مِنَ اخْتِلافِ السَّلَفِ وفُقَهاءِ الأمْصارِ في حُكْمِ القاذِفِ إذا تابَ فَإنَّما صَدَرَ عَنِ اخْتِلافِهِمْ في رُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ إلى الفِسْقِ أوْ إلى إبْطالِ الشَّهادَةِ وسِمَةِ الفِسْقِ جَمِيعًا فَيَرْفَعُهُما، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ مَقْصُورُ الحُكْمِ عَلى ما يَلِيهِ مِن زَوالِ سِمَةِ الفِسْقِ بِهِ دُونَ جَوازِ الشَّهادَةِ أنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْناءِ في اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلى ما يَلِيهِ ولا يَرْجِعُ إلى ما تَقَدَّمَهُ إلّا بِدَلالَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٥٩] ﴿إلا امْرَأتَهُ﴾ [الحجر: ٦٠] فَكانَتِ المَرْأةُ مُسْتَثْناةً مِنَ المُنَجَّيْنَ؛ لِأنَّها تَلِيهِمْ، ولَوْ قالَ رَجُلٌ لِفُلانٍ: " عَلَيَّ عَشَرَةُ دَراهِمَ إلّا ثَلاثَةَ دَراهِمَ إلّا دِرْهَمٌ " كانَ عَلَيْهِ ثَمانِيَةُ دَراهِمَ وكانَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنَ الثَّلاثَةِ، وإذا كانَ ذَلِكَ حُكْمَ الِاسْتِثْناءِ وجَبَ الِاقْتِصارُ بِهِ عَلى ما يَلِيهِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣] في مَعْنى الِاسْتِثْناءِ وهو راجِعٌ إلى الرَّبائِبِ دُونَ أُمَّهاتِ النِّساءِ؛ لِأنَّهُ يَلِيهِنَّ، فَثَبَتَ بِما وصَفْنا صِحَّةُ ما ذَكَرْنا مِنَ الِاقْتِصارِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْناءِ عَلى ما يَلِيهِ دُونَ ما تَقَدَّمَهُ وأيْضًا فَإنَّ الِاسْتِثْناءَ إذا كانَ في مَعْنى التَّخْصِيصِ وكانَتِ الجُمْلَةُ الدّاخِلُ عَلَيْها الِاسْتِثْناءُ عُمُومًا، وجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُ العُمُومِ ثابِتًا وأنْ لا نَرْفَعَهُ بِاسْتِثْناءٍ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِيما يَلِيهِ إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى رُجُوعِهِ إلَيْها.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ [المائدة: ٣٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤] فَكانَ الِاسْتِثْناءُ راجِعًا إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ، وقالَ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣] ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] فَكانَ التَّيَمُّمُ لِمَن لَزِمَهُ الِاغْتِسالُ كَلُزُومِهِ لِمَن لَزِمَهُ الوُضُوءُ بِالحَدَثِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الِاسْتِثْناءِ الدّاخِلِ عَلى كَلامٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ يَجِبُ أنْ يَنْتَظِمَ الجَمِيعُ ويَرْجِعَ إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْناءِ في اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلى ما يَلِيهِ ولا يَرْجِعُ إلى ما تَقَدَّمَهُ إلّا بِدَلالَةٍ، وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ فِيما ذُكِرَ عَلى رُجُوعِهِ إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ ولَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ فِيما اخْتَلَفْنا فِيهِ عَلى رُجُوعِهِ إلى الجَمِيعِ المَذْكُورِ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كُنّا قَدْ وجَدْنا الِاسْتِثْناءَ تارَةً يَرْجِعُ إلى بَعْضِ المَذْكُورِ وتارَةً إلى جَمِيعِهِ وكانَ ذَلِكَ مُتَعالِمًا مَشْهُورًا في (p-١٢٠)اللُّغَةِ، فَما الدَّلالَةُ عَلى وُجُوبِ الِاقْتِصارِ بِهِ عَلى بَعْضِ الجُمْلَةِ وهو الَّذِي يَلِيهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلى الجَمِيعِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ سَلَّمْنا لَكَ ما ادَّعَيْتَ مِن جَوازِ رُجُوعِهِ إلى الجَمِيعِ لَكانَ سَبِيلُهُ أنْ يَقِفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمالِ في رُجُوعِهِ إلى ما يَلِيهِ أوْ إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، وكانَ اللَّفْظُ الأوَّلُ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ في سائِرِ الأحْوالِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ الِاسْتِثْناءِ إلَيْهِ بِالِاحْتِمالِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُ العُمُومِ بِالِاحْتِمالِ، ووَجَبَ اسْتِعْمالُ حُكْمِهِ في المُتَيَقَّنِ وهو ما يَلِيهِ دُونَ ما تَقَدَّمَهُ.
فَإنْ قِيلَ: ما أنْكَرْتَ أنْ لا يَكُونَ اللَّفْظُ الأوَّلُ عُمُومًا مَعَ دُخُولِ الِاسْتِثْناءِ عَلى آخِرِ الكَلامِ بَلْ يَصِيرُ في حَيِّزِ الِاحْتِمالِ ويَبْطُلُ اعْتِبارُ العُمُومِ فِيهِ ؟ إذْ لَيْسَ اعْتِبارُ عُمُومِهِ بِأوْلى مِنِ اعْتِبارِ عُمُومِ الِاسْتِثْناءِ في عَوْدِهِ إلى الجَمِيعِ، وإذا بَطَلَ فِيهِ اعْتِبارُ العُمُومِ وقَفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمالِ في إيجابِ حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن قِبَلِ أنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ الأوَّلِ صِيغَةُ العُمُومِ لا تَدافُعَ بَيْنَنا فِيهِ، ولَيْسَ لِلِاسْتِثْناءِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَقْتَضِي رَفْعَ الجَمِيعِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّيغَةِ المُوجِبَةِ لِلْعُمُومِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وأنْ لا نُزِيلَها عَنْهُ إلّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي صِيغَتُهُ رَفْعَ العُمُومِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ في لَفْظِ الِاسْتِثْناءِ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ قالَ رَجُلٌ: عَبْدُهُ حَرٌّ وامْرَأتُهُ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْناءُ إلى الجَمِيعِ، وكَذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «واللَّهِ لَأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا واللَّهِ لَأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا واللَّهِ لَأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إنْ شاءَ اللَّهُ»، فَكانَ اسْتِثْناؤُهُ راجِعًا إلى جَمِيعِ الأيْمانِ،؛ إذْ كانَتْ مَعْطُوفَةً بَعْضُها عَلى بَعْضٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذا مِمّا نَحْنُ في شَيْءٍ؛ لِأنَّ هَذا الضَّرْبَ مِنَ الِاسْتِثْناءِ مُخالِفٌ لِلِاسْتِثْناءِ الدّاخِلِ عَلى الجُمْلَةِ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْناءِ الَّتِي هي " إلّا " و" غَيْرَ " و" سِوى " ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: " إنْ شاءَ اللَّهُ " يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ حَتّى لا يَثْبُتَ مِنهُ شَيْءٌ، والِاسْتِثْناءُ المَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْناءِ لا يَجُوزُ دُخُولُهُ إلّا لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ رَأْسًا، ألا تَرى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَقُولَ أنْتِ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ فَلا يَقَعُ شَيْءٌ ولَوْ قالَ: أنْتِ طالِقٌ إلّا طالِقٌ كانَ الطَّلاقُ واقِعًا والِاسْتِثْناءُ باطِلًا لِاسْتِحالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ ؟ ولِذَلِكَ جازَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( إنْ شاءَ اللَّهُ ) راجِعًا إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ المَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، ولَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِيما وصَفْنا.
فَإنْ قِيلَ: فَلَوْ كانَ قالَ: ( أنْتِ طالِقٌ وعَبْدِي حَرٌّ إلّا أنْ يَقْدُمَ فُلانٌ ) كانَ الِاسْتِثْناءُ راجِعًا إلى الجَمِيعِ، فَإنْ لَمْ يَقْدُمْ فُلانٌ حَتّى ماتَ طُلِّقَتِ امْرَأتُهُ وعُتِقَ عَبْدُهُ وكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ شاءَ اللَّهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلى ما ظَنَنْتَ، مِن قِبَلِ أنَّ قَوْلَهُ: ( إلّا أنْ يَقْدُمَ فُلانٌ ) وإنْ كانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْناءِ فَإنَّهُ في مَعْنى الشَّرْطِ (p-١٢١)كَقَوْلِهِ: ( إنْ لَمْ يَقْدُمْ فُلانٌ )، وحُكْمُ الشَّرْطِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ المَذْكُورِ إذا كانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلى بَعْضٍ، وذَلِكَ لِأنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الِاسْتِثْناءَ الَّذِي هو مَشِيئَةُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِن حَيْثُ كانَ وُجُودُهُ عامِلًا في رَفْعِ الكَلامِ حَتّى لا يَثْبُتَ مِنهُ شَيْءٌ، ألا تَرى أنَّهُ ما لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ؟ وجائِزٌ أنْ لا يُوجَدَ الشَّرْطُ أبَدًا فَيَبْطُلُ حُكْمُ الكَلامِ رَأْسًا ولا يَثْبُتُ مِنَ الجَزاءِ شَيْءٌ، فَلِذَلِكَ جازَ رُجُوعُ الشَّرْطِ إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ كَما جازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَوْلُهُ: ( إلّا أنْ يَقْدُمَ فُلانٌ ) هو شَرْطٌ، وإنْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِثْناءِ، وأمّا الِاسْتِثْناءُ المَحْضُ الَّذِي هو قَوْلُهُ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ و﴿إلا آلَ لُوطٍ﴾ [الحجر: ٥٩] وما جَرى مَجْراهُ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ رَأْسًا حَتّى لا يَثْبُتَ مِنهُ شَيْءٌ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثابِتًا في وقْتٍ ما وأنَّ مَن رَدَّ الِاسْتِثْناءَ إلَيْهِ فَإنَّما يَرْفَعُ حُكْمَهُ في بَعْضِ الأوْقاتِ بَعْدَ ثَباتِ حُكْمِهِ في بَعْضِها ؟ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إلا آلَ لُوطٍ﴾ [الحجر: ٥٩] غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ رافِعًا لِحُكْمِ النَّجاةِ عَنِ الأوَّلِينَ، وإنَّما عَمِلَ في بَعْضِ ما انْتَظَمَهُ لَفْظُ العُمُومِ. ويُسْتَدَلُّ بِما ذَكَرْنا عَلى أنَّ حَقِيقَةَ هَذا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ رُجُوعُهُ إلى ما يَلِيهِ دُونَ ما تَقَدَّمَهُ وأنْ لا يُرَدَّ إلى ما تَقَدَّمَهُ إلّا بِدَلالَةٍ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَمّا اسْتَحالَ دُخُولُ هَذا الِاسْتِثْناءِ لِرَفْعِ حُكْمِ الكَلامِ رَأْسًا حَتّى لا يَثْبُتَ مِنهُ شَيْءٌ وجَبَ أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا في البَعْضِ دُونَ الكُلِّ، فَإذا وجَبَ ذَلِكَ كانَ ذَلِكَ البَعْضُ الَّذِي عُمِلَ فِيهِ هو المُتَيَقَّنُ دُونَ غَيْرِهِ، بِمَنزِلَةِ لَفْظٍ لا يَصِحُّ اعْتِقادُ العُمُومِ فِيهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلى الأقَلِّ المُتَيَقَّنِ دُونَ اعْتِبارِ لَفْظِ العُمُومِ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْناءُ. ولَمّا جازَ دُخُولُ شَرْطِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وسائِرِ شُرُوطِ الأيْمانِ لِرَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا وجَبَ اسْتِعْمالُهُ في جَمِيعِ المَذْكُورِ وأنْ لا يَخْرُجَ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بِدَلالَةٍ ويَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ في قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ مَقْصُورٌ عَلى ما يَلِيهِ دُونَ ما تَقَدَّمَهُ، أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أمْرٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ خَبَرٌ، والِاسْتِثْناءُ داخِلٌ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلى الأمْرِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ ( الواوَ ) في قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ لِلِاسْتِقْبالِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ واحِدٌ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلى الحَدِّ إذا كانَ أمْرًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: ( أعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ولا تَدْخُلِ الدّارَ وفُلانٌ خارِجٌ إنْ شاءَ اللَّهُ ) إنَّ مَفْهُومَ هَذا الكَلامِ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ (p-١٢٢)إلى الخُرُوجِ دُونَ ما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ الأمْرِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْناءِ في الآيَةِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما. فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا﴾ [المائدة: ٣٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣] ثُمَّ قالَ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤] ومَعْلُومٌ أنَّ ما تَقَدَّمَ في أوَّلِ الآيَةِ أمْرٌ، وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا﴾ [المائدة: ٣٣] خَبَرٌ، فَرَجَعَ الِاسْتِثْناءُ إلى الجَمِيعِ ولَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الخَبَرِ والأمْرِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما جازَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣] وإنْ كانَ أمْرًا في الحَقِيقَةِ فَإنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ الخَبَرِ، فَلَمّا كانَ الجَمِيعُ في صُورَةِ الخَبَرِ جازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى الجَمِيعِ، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ أمْرًا عَلى الحَقِيقَةِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الخَبَرُ، وجَبَ أنْ لا يَرْجِعَ إلى الجَمِيعِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنّا نَقُولُ مَتى اخْتَلَفَتْ صِيَغُ المَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ لَمْ يَرْجِعْ إلّا إلى ما يَلِيهِ ولا يَرْجِعُ إلى ما تَقَدَّمَ مِمّا لَيْسَ في مِثْلِ صِيغَتِهِ إلّا بِدَلالَةٍ، فَإنْ قامَتِ الدَّلالَةُ جازَ رَدُّهُ إلَيْهِ، وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ في آيَةِ المُحارِبِينَ ولَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ فِيما اخْتَلَفْنا فِيهِ فَهو مُبَقًّى عَلى حُكْمِهِ في الأصْلِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَتْ ( الواوُ ) لِلْجَمْعِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ صارَ الجَمِيعُ كَأنَّهُ مَذْكُورٌ مَعًا لا تَقَدُّمَ لِواحِدٍ مِنهُما عَلى الآخَرِ، فَلَمّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْناءُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى شَيْءٍ مِنَ المَذْكُورِ بِأوْلى مِن رُجُوعِهِ إلى الآخَرِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ حُكْمٌ في التَّرْتِيبِ، فَكانَ الجَمِيعُ في المَعْنى بِمَنزِلَةِ المَذْكُورِ مَعًا، فَلَيْسَ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى سِمَةِ الفِسْقِ بِأوْلى مِن رُجُوعِهِ إلى بُطْلانِ الشَّهادَةِ والحَدِّ، ولَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلى الحَدِّ لاقْتَضى ذَلِكَ رُجُوعَهُ أيْضًا وزَوالَهُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ ( الواوَ ) قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلى ما ذَكَرْتَ وقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنافِ، وهي في قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ لِلِاسْتِئْنافِ؛ لِأنَّها إنَّما تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيما لا يَخْتَلِفُ مَعْناهُ ويَنْتَظِمُهُ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ فَيَصِيرُ الكُلُّ كالمَذْكُورِ مَعًا، وذَلِكَ في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] إلى آخِرِ الآيَةِ؛ لِأنَّ الجَمِيعَ أمْرٌ، كَأنَّهُ قالَ: فاغْسِلُوا هَذِهِ الأعْضاءَ؛ لِأنَّ الجَمِيعَ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الأمْرِ فَصارَتْ كالجُمْلَةِ الواحِدَةِ المُنْتَظِمَةِ لِهَذِهِ الأوامِرِ. وأمّا آيَةُ القَذْفِ فَإنَّ ابْتِداءَها أمْرٌ وآخِرَها خَبَرٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَنْتَظِمَهُما جُمْلَةٌ واحِدَةٌ؛ فَلِذَلِكَ كانَتْ ( الواوُ ) لِلِاسْتِئْنافِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ دُخُولُ مَعْنى الخَبَرِ في لَفْظِ الأمْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ (p-١٢٣)يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣] الِاسْتِثْناءُ فِيهِ عائِدٌ إلى الأمْرِ بِالقَتْلِ وما ذُكِرَ مَعَهُ وغَيْرُ عائِدٍ إلى الخَبَرِ الَّذِي يَلِيهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤] لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٤١] لِأنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ عَذابَ الآخِرَةِ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وبَعْدَها، فَعَلِمْنا أنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ لِلْحَدِّ دُونَ عَذابِ الآخِرَةِ. ودَلِيلٌ آخَرُ، وهو أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ بُطْلانُ هَذِهِ الشَّهادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالفِسْقِ أوْ يَكُونَ حُكْمًا عَلى حِيالِهِ تَقْتَضِي الآيَةُ تَأْبِيدَهُ، فَلَمّا كانَ حَمْلُهُ عَلى بُطْلانِها بِلُزُومِ سِمَةِ الفِسْقِ يُبْطِلُ فائِدَةَ ذِكْرِهِ؛ إذْ كانَ ذِكْرُ التَّفْسِيقِ مُقْتَضِيًا لِبُطْلانِها إلّا بِزَوالِهِ والتَّوْبَةِ مِنهُ، وجَبَ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسِمَةِ الفِسْقِ ولا بِتَرْكِ التَّوْبَةِ. وأيْضًا فَإنَّ كُلَّ كَلامٍ فَحُكْمُهُ قائِمٌ بِنَفْسِهِ وغَيْرُ جائِزٍ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلّا بِدَلالَةٍ، وفي حَمْلِهِ عَلى ما ادَّعاهُ المُخالِفُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ وإبْطالُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ، وذَلِكَ خِلافُ مُقْتَضى اللَّفْظِ. وأيْضًا فَإنَّ حَمْلَهُ عَلى ما ادَّعى يُوجِبُ أنْ يَكُونَ الفِسْقُ المَذْكُورُ في الآيَةِ عِلَّةً لِما ذُكِرَ مِن إبْطالِ الشَّهادَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا؛ لِأنَّهم فاسِقُونَ؛ وفي ذَلِكَ إزالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وصَرْفُهُ إلى مَجازٍ لا دَلالَةَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أنْ يَكُونَ قائِمًا بِنَفْسِهِ في إيجابِ حُكْمِهِ وأنْ لا يُجْعَلَ عِلَّةً لِغَيْرِهِ مِمّا هو مَذْكُورٌ مَعَهُ ومَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ بُطْلانَ الشَّهادَةِ بَعْدَ الجَلْدِ حُكْمٌ قائِمٌ بِنَفْسِهِ عَلى وجْهِ التَّأْبِيدِ المَذْكُورِ في الآيَةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلى التَّوْبَةِ.
فَإنْ قِيلَ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى الشَّهادَةِ أوْلى مِنهُ إلى الفِسْقِ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ فَلا يَكُونُ رَدُّهُ إلى الفِسْقِ مُفِيدًا ورَدُّهُ إلى الشَّهادَةِ يُفِيدُ جَوازَها بِالتَّوْبَةِ؛ إذْ كانَ جائِزًا أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ مَرْدُودَةً مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ، فَأمّا بَقاءُ سِمَةِ الفِسْقِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ فَغَيْرُ جائِزٍ في عَقْلٍ ولا سَمْعٍ؛ إذْ كانَتْ سِمَةُ الفِسْقِ ذَمًّا وعُقُوبَةً، وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَسْتَحِقَّ التّائِبُ الذَّمَّ، ولَيْسَ كَذَلِكَ بُطْلانُ الشَّهادَةِ، ألا تَرى أنَّ العَبْدَ والأعْمى غَيْرُ جائِزَيِ الشَّهادَةِ لا عَلى وجْهِ الذَّمِّ والتَّعْنِيفِ لَكِنْ عِبادَةً ؟ فَكانَ رُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ إلى الشَّهادَةِ أوْلى بِإثْباتِ فائِدَةِ الآيَةِ مِنهُ إلى الفِسْقِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّوْبَةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هي التَّوْبَةُ مِنَ القَذْفِ وإكْذابُ نَفْسِهِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ بِهِ اسْتَحَقَّ سِمَةَ الفِسْقِ، وقَدْ كانَ جائِزًا أنْ تَبْقى سِمَةُ الفِسْقِ عَلَيْهِ إذا تابَ مِن سائِرِ الذُّنُوبِ، ولَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِزَوالِ سِمَةِ الفِسْقِ عَنْهُ إذا أكْذَبَ نَفْسَهُ. ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ سِمَةَ الفِسْقِ إنَّما لَزِمَتْهُ بِوُقُوعِ الجَلْدِ (p-١٢٤)بِهِ ولَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ عِنْدَ إظْهارِ التَّوْبَةِ أنْ لا تَكُونَ مَقْبُولَةً في ظاهِرِ الحالِ وإنْ كانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأنّا لا نَقِفُ عَلى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ، فَكانَ جائِزًا أنْ يَتَعَبَّدَنا بِأنْ لا نُصَدِّقَهُ عَلى تَوْبَتِهِ وأنْ نَتْرُكَهُ عَلى الجُمْلَةِ ولا نَتَوَلّاهُ عَلى حَسَبِ ما نَتَوَلّى سائِرَ أهْلِ التَّوْبَةِ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ جائِزًا وُرُودُ العِبادَةِ بِهِ أفادَتْنا الآيَةُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ ووُجُوبَ مُوالاتِهِ وتَصْدِيقِهِ عَلى ما ظَهَرَ مِن تَوْبَتِهِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا اتَّفَقْنا عَلى أنَّ الذِّمِّيَّ المَحْدُودَ في القَذْفِ تُقْبَلُ شَهادَتُهُ إذا أسْلَمَ وتابَ، دَلَّ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ عَلى قَبُولِ شَهادَةِ المُسْلِمِ المَحْدُودِ في القَذْفِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى بُطْلانِ الشَّهادَةِ؛ إذْ كانَ الذِّمِّيُّ مُرادًا بِالآيَةِ، وقَدْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ بُطْلانِ الشَّهادَةِ مَوْقُوفًا عَلى التَّوْبَةِ.
والثّانِي: أنَّهُ لَمّا رَفَعَتِ التَّوْبَةُ الحُكْمَ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِ كانَ المُسْلِمُ في حُكْمِهِ لِوُجُودِ التَّوْبَةِ مِنهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الأمْرُ فِيهِ عَلى ما ظَنَنْتَ وذَلِكَ؛ لِأنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَدْخُلْ في الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الآيَةَ إنَّما اقْتَضَتْ بُطْلانَ شَهادَةِ مَن جُلِدَ وحُكِمَ بِفِسْقِهِ مِن جِهَةِ القَذْفِ، والذِّمِّيُّ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ سِمَةُ الفِسْقِ، فَلَمّا لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ السِّمَةَ بِالجَلْدِ لَمْ يَدْخُلْ في الآيَةِ وإنَّما جَلَدْناهُ بِالِاتِّفاقِ، ولَمْ يَحْصُلِ الِاتِّفاقُ عَلى بُطْلانِ شَهادَتِهِ بَعْدَ إسْلامِهِ بِالجَلْدِ الواقِعِ في حالِ كُفْرِهِ فَأجَزْناها كَما نُجِيزُ شَهادَةَ سائِرِ الكُفّارِ إذا أسْلَمُوا.
فَإنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلى هَذا أنْ لا يَكُونَ الفاسِقُ مِن أهْلِ المِلَّةِ مُرادًا بِالآيَةِ؛ إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ سِمَةَ الفِسْقِ بِوُقُوعِ الحَدِّ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: هو كَذَلِكَ، وإنَّما دَخَلَ في حُكْمِها بِالمَعْنى لا بِاللَّفْظِ، وإنَّما أجازَ أصْحابُنا شَهادَةَ الذِّمِّيِّ المَحْدُودِ في القَذْفِ بَعْدَ إسْلامِهِ وتَوْبَتِهِ مِن قِبَلِ أنَّ الحَدَّ في القَذْفِ يُبْطِلُ العَدالَةَ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: عَدالَةُ الإسْلامِ، والآخَرُ عَدالَةُ الفِعْلِ؛ والذِّمِّيُّ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حِينَ حُدَّ فَيَكُونُ وُقُوعُ الحَدِّ بِهِ مُبْطِلًا لِعَدالَةِ إسْلامِهِ، وإنَّما بَطَلَتْ عَدالَتُهُ مِن جِهَةِ الفِعْلِ، فَإذا أسْلَمَ فَأحْدَثَ تَوْبَةً فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ عَدالَةٌ مِن جِهَةِ الإسْلامِ ومِن طَرِيقِ الفِعْلِ أيْضًا بِالتَّوْبَةِ؛ فَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ. وأمّا المُسْلِمُ فَإنَّ الحَدَّ قَدْ أسْقَطَ عَدالَتَهُ مِن طَرِيقِ الدِّينِ ولَمْ يَسْتَحْدِثْ بِالتَّوْبَةِ عَدالَةً أُخْرى مِن جِهَةِ الدِّينِ؛ إذْ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دِينًا بِتَوْبَتِهِ، وإنَّما اسْتَحْدَثَ عَدالَةً مِن طَرِيقِ الفِعْلِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ؛ إذْ كانَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهادَةِ وُجُودَ العَدالَةِ مِن جِهَةِ الدِّينِ والفِعْلِ جَمِيعًا.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا اتَّفَقْنا عَلى قَبُولِ شَهادَتِهِ إذا تابَ قَبْلَ وُقُوعِ الحَدِّ بِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى الشَّهادَةِ كَرُجُوعِهِ إلى التَّفْسِيقِ، فَوَجَبَ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِقَبُولِها بَعْدَ الحَدِّ كَهو قَبْلَهُ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ شَهادَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِالقَذْفِ قَبْلَ وُقُوعِ الحَدِّ بِهِ ولا وجَبَ الحُكْمُ (p-١٢٥)بِتَفْسِيقِهِ لِما بَيَّنّاهُ في المَسْألَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ولَوْ لَمْ يَتُبْ وأقامَ عَلى قَذْفِهِ كانَتْ شَهادَتُهُ مَقْبُولَةً، وإنَّما بُطْلانُ الشَّهادَةِ ولُزُومُهُ سِمَةَ الفِسْقِ مُرَتَّبٌ عَلى وُقُوعِ الحَدِّ بِهِ، فالِاسْتِثْناءُ إنَّما رَفَعَ عَنْهُ سِمَةَ الفِسْقِ الَّتِي لَزِمَتْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الحَدِّ فَأمّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُحْتاجٍ إلى الِاسْتِثْناءِ في الشَّهادَةِ ولا في الحُكْمِ بِالتَّفْسِيقِ. ودَلِيلٌ آخَرُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا، وهو أنّا قَدِ اتَّفَقْنا عَلى أنَّ التَّوْبَةَ لا تُسْقِطُ الحَدَّ، ولَمْ يَرْجِعِ الِاسْتِثْناءُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بُطْلانُ الشَّهادَةِ مِثْلَهُ لِأنَّهُما جَمِيعًا أمْرانِ قَدْ تَعَلَّقا بِالقَذْفِ، فَمِن حَيْثُ لَمْ يَرْجِعِ الِاسْتِثْناءُ إلى الحَدِّ وجَبَ أنْ لا يَرْجِعَ إلى الشَّهادَةِ، وأمّا التَّفْسِيقُ فَهو خَبَرٌ لَيْسَ بِأمْرٍ فَلا يَلْزَمُ عَلى ما وصَفْنا.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ المُطالَبَةَ بِالحَدِّ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَذَلِكَ بُطْلانُ الشَّهادَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ؛ ألا تَرى أنَّ الشَّهاداتِ إنَّما هي حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وبِمُطالَبَتِهِ يَصِحُّ أداؤُها وإقامَتُها كَما تَصِحُّ إقامَةُ حَدِّ القَذْفِ بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ ؟ فَوَجَبَ أنْ يَكُونا سَواءً في أنَّ التَّوْبَةَ لا تَرْفَعُهُما، وأمّا لُزُومُ سِمَةِ الفِسْقِ فَلا حَقَّ فِيهِ لِأحَدٍ فَكانَ الِاسْتِثْناءُ راجِعًا إلَيْهِ ومَقْصُورًا عَلَيْهِ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ التّائِبُ مِنَ الكُفْرِ مَقْبُولَ الشَّهادَةِ فالتّائِبُ مِنَ القَذْفِ أحْرى قِيلَ لَهُ: التّائِبُ مِنَ الكُفْرِ يَزُولُ عَنْهُ القَتْلُ ولا يَزُولُ عَنِ التّائِبِ مِنَ القَذْفِ حَدُّ القَذْفِ، فَكَما جازَ أنْ تُزِيلَ التَّوْبَةُ مِنَ الكُفْرِ القَتْلَ عَنِ الكافِرِ جازَ أنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ ولا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التّائِبُ مِنَ القَذْفِ لِأنَّ تَوْبَتَهُ لا تُزِيلُ الجَلْدَ عَنْهُ.
وأيْضًا فَإنَّ عُقُوباتِ الدُّنْيا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ عَلى مَقادِيرِ الأجْرامِ، ألا تَرى أنَّ القاذِفَ بِالكُفْرِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ والقاذِفُ بِالزِّنا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ ؟ فَغُلِّظَ أمْرُ القَذْفِ مِن هَذا الوَجْهِ بِما لَمْ يُغَلَّظْ بِهِ أمْرُ القَذْفِ في أحْكامِ الدُّنْيا وإنْ كانَتْ عُقُوبَةُ الكُفْرِ في الآخِرَةِ أعْظَمَ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا تابَ وأصْلَحَ فَهو عَدْلٌ ولِيٌّ لِلَّهِ تَعالى، وقَدْ كانَ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بَدِيًّا عَلى وجْهِ العُقُوبَةِ والتَّوْبَةُ تُزِيلُ العُقُوبَةَ وتُوجِبُ العَدالَةَ والوِلايَةَ، فَغَيْرُ جائِزٍ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.
قِيلَ لَهُ: لا يَكُونُ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلى وجْهِ العُقُوبَةِ بَلْ عَلى جِهَةِ المِحْنَةِ، كَما لا تَكُونُ إقامَةُ الحَدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلى جِهَةِ العُقُوبَةِ بَلْ عَلى جِهَةِ المِحْنَةِ، ولِلَّهِ أنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بِما شاءَ عَلى وجْهِ المَصْلَحَةِ. ألا تَرى أنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ ولِيًّا لِلَّهِ تَعالى وهو غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهادَةِ وكَذَلِكَ الأعْمى وشَهادَةُ الوالِدِ لِوَلَدِهِ ومَن جَرى مَجْراهُ ؟ فَلَيْسَ بُطْلانُ الشَّهادَةِ في الأُصُولِ مَوْقُوفًا عَلى الفِسْقِ وعَلى وجْهِ العُقُوبَةِ حَتّى يُعارَضَ فِيهِ بِما ذَكَرْتَ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَوْبَةَ القاذِفِ لا تُوجِبُ جَوازَ شَهادَتِهِ أنَّ شَهادَتَهُ إنَّما بَطَلَتْ بِحُكْمِ الحاكِمِ عَلَيْهِ بِالجَلْدِ وجَلْدِهِ إيّاهُ ولَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ (p-١٢٦)لِما قَدْ بَيَّنّا فِيما سَلَفَ، فَلَمّا تَعَلَّقَ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بِحُكْمِ الحاكِمِ لَمْ يَجْرِ إجازَتُها إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ بِجَوازِها؛ لِأنَّ في الأُصُولِ أنَّ كُلَّ ما تَعَلَّقَ ثُبُوتُهُ بِحُكْمِ الحاكِمِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الحُكْمُ عَنْهُ إلّا بِما يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ كالإمْلاكِ والعَتاقِ والطَّلاقِ وسائِرِ الحُقُوقِ، فَلَمّا لَمْ تَكُنْ تَوْبَتُهُ مِمّا تَصِحُّ الخُصُومَةُ فِيهِ ولا يَحْكُمُ بِها الحاكِمُ لَمْ يَجُزْ لَنا إبْطالُ ما قَدْ ثَبَتَ بِحُكْمِ الحاكِمِ.
فَإنْ قِيلَ: فُرْقَةُ اللِّعانِ والعِنِّينِ وما جَرى مَجْراها مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الحاكِمِ وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَتَزَوَّجَها فَيَعُودَ النِّكاحُ، فَكَذَلِكَ بُطْلانُ شَهادَةِ القاذِفِ وإنْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الحاكِمِ فَإنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ إطْلاقَ شَهادَتِهِ عِنْدَ تَوْبَتِهِ ويَكُونُ حُكْمُ الحاكِمِ بَدِيًّا بِبُطْلانِها مَقْصُورًا عَلى الحالِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِيها تَوْبَةٌ، كَما أنَّ الفُرْقَةَ الواقِعَةَ بِحُكْمِ الحاكِمِ إنَّما هي مَقْصُورَةٌ عَلى الحالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنهُما فِيها عَقْدٌ مُسْتَقْبَلٌ.
قِيلَ لَهُ: لِأنَّ النِّكاحَ الثّانِيَ مِمّا يَجُوزُ وُقُوعُ الحُكْمِ بِهِ فَجازَ أنْ تَبْطُلَ بِهِ الفُرْقَةُ الواقِعَةُ بِحُكْمِ الحاكِمِ، والتَّوْبَةُ لَيْسَتْ مِمّا يَحْكُمُ بِهِ الحاكِمُ فَلا تَثْبُتُ فِيهِ الخُصُوماتُ فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَبْطُلَ بِهِ حُكْمُ الحاكِمِ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِ، ولَكِنَّهُ لَوْ شَهِدَ القاذِفُ بِشَهادَةٍ عِنْدَ حاكِمٍ يَرى قَبُولَ شَهادَةِ المَحْدُودِ في القَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَحَكَمَ بِجَوازِ شَهادَتِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ جازَتْ شَهادَتُهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَلَوْ أنَّ رَجُلًا زَنى فَحَدَّهُ الحاكِمُ ثُمَّ تابَ جازَتْ شَهادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ولَمْ يَكُنْ حُكْمُ الحاكِمِ مانِعًا مِن قَبُولِها بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيلَ لَهُ: الزّانِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بِحُكْمِ الحاكِمِ وإنَّما بَطَلَتْ بِزِناهُ قَبْلَ أنْ يَحُدَّهُ الحاكِمُ لِظُهُورِ فِسْقِهِ، فَلَمّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بِحُكْمِ الحاكِمِ بَلْ بِفِعْلِهِ جازَتْ عِنْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ وشَهادَةُ القاذِفِ لَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ صادِقًا، وإنَّما يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ وفِسْقِهِ عِنْدَ جَلْدِ الحاكِمِ إيّاهُ فَأمّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهو في حُكْمِ مَن لَمْ يَقْذِفْ.
ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبّادِ بْنِ مَنصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قِصَّةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْماءَ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُجْلَدُ هِلالٌ وتَبْطُلُ شَهادَتُهُ في المُسْلِمِينَ» . وذَكَرَ الحَدِيثَ، فَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ وُقُوعَ الجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهادَتَهُ مِن غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ في قَبُولِها.
وقَدْ رَوى الحَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ»
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنهُ. وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا شُرَيْحٌ قالَ: حَدَّثَنا مَرْوانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي خالِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (p-١٢٧)«لا تَجُوزُ في الإسْلامِ شَهادَةُ مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهادَةُ زُورِ ولا خائِنٍ ولا خائِنَةٍ ولا مَجْلُودٍ حَدًّا ولا ذِي غَمْرٍ لِأخِيهِ ولا الصّانِعِ لِأهْلِ البَيْتِ ولا ظَنِينٍ ولا قَرابَةٍ»؛ فَأبْطَلَ ﷺ القَوْلَ بِإبْطالِ شَهادَةِ المَحْدُودِ، فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلانَ شَهادَةِ سائِرِ المَحْدُودِينَ في حَدِّ قَذْفٍ أوْ غَيْرِهِ؛ إلّا أنَّ الدَّلالَةَ قَدْ قامَتْ عَلى جَوازِ قَبُولِ شَهادَةِ المَحْدُودِ في غَيْرِ القَذْفِ إذا تابَ مِمّا حُدَّ فِيهِ، ولَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ في المَحْدُودِ في القَذْفِ، فَهو عَلى عُمُومِ لَفْظِهِ تابَ أوْ لَمْ يَتُبْ؛ وإنَّما قَبِلْنا شَهادَةَ المَحْدُودِ في غَيْرِ القَذْفِ إذا تابَ لِأنَّ بُطْلانَ شَهادَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالفِسْقِ فَمَتى زالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الفِسْقِ كانَتْ شَهادَتُهُ مَقْبُولَةً، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الحَدَّ مِن زِنًا أوْ سَرِقَةٍ أوْ شُرْبِ خَمْرٍ قَدْ أوْجَبَ تَفْسِيقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ الحَدِّ بِهِ، فَلَمّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلانُ شَهادَتِهِ بِالحَدِّ كانَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ الفُسّاقِ إذا تابُوا فَتُقْبَلُ شَهاداتُهم، وأمّا المَحْدُودُ في القَذْفِ فَلَمْ يُوجِبِ القَذْفُ بُطْلانَ شَهادَتِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الحَدِّ بِهِ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ صادِقًا في قَذْفِهِ، وإنَّما بَطَلَتْ شَهادَتُهُ بِوُقُوعِ الحَدِّ بِهِ فَلَمْ تُزِلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِتَوْبَتِهِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اقْتَضَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنْ يَكُونَ شُهُودُ الزِّنا أرْبَعَةً، كَما أوْجَبَ قَوْلُهُ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وقَوْلُهُ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] قَبُولَ شَهادَةِ العَدَدِ المَذْكُورِ فِيهِ وامْتِناعُ جَوازِ الِاقْتِصارِ عَلى أقَلَّ مِنهُ. وقالَ تَعالى في سِياقِ التِّلاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِ أصْحابِ الإفْكِ: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣] فَجَعَلَ عَدَدَ الشُّهُودِ المُبَرِّئِ لِلْقاذِفِ مِن الحَدِّ أرْبَعَةً وحَكَمَ بِكَذِبِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقامَةِ أرْبَعَةِ شُهَداءَ، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى عَدَدَ شُهُودِ الزِّنا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥] الآيَةَ، وأعادَ ذِكْرَ الشُّهُودِ الأرْبَعَةِ عِنْدَ القَذْفِ إعْلامًا لَنا أنَّ القاذِفَ لا تُبْرِئُهُ مِنَ الجَلْدِ إلّا شَهادَةُ أرْبَعَةٍ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في القاذِفِ إذا جاءَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فُسّاقٍ فَشَهِدُوا عَلى المَقْذُوفِ بِالزِّنا، فَقالَ أصْحابُنا وعُثْمانُ البَتِّيُّ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: ( لا حَدَّ عَلى الشُّهُودِ وإنْ كانُوا فُسّاقًا ) .
ورَوى الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ عَنْ أبِي يُوسُفَ في رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنا ثُمَّ جاءَ بِأرْبَعَةِ فُسّاقٍ يَشْهَدُونَ أنَّهُ زانٍ: ( إنَّهُ يُحَدُّ القاذِفُ ويُدْرَأُ عَنِ الشُّهُودِ ) .
وقالَ زُفَرُ: ( يُدْرَأُ عَنِ القاذِفِ وعَنِ الشُّهُودِ ) . وقالَ مالِكٌ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: ( يُحَدُّ الشُّهُودُ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمْ يَخْتَلِفْ أصْحابُنا لَوْ جاءَ بِأرْبَعَةِ كُفّارٍ أوْ مَحْدُودِينَ في قَذْفٍ أوْ عَبِيدٍ أوْ عُمْيانٍ أنَّ القاذِفَ والشُّهُودَ جَمِيعًا يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ، فَأمّا إذا (p-١٢٨)كانُوا فُسّاقًا فَإنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ قَدْ تَناوَلَهم؛ إذْ لَمْ يُشْرَطْ في سُقُوطِ الحَدِّ عَنِ القاذِفِ العُدُولُ دُونَ الفُسّاقِ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضى الآيَةِ زَوالُ الحَدِّ عَنِ القاذِفِ؛ إذْ جُعِلَ شَرْطُ وُجُوبِ الحَدِّ أنْ لا يَأْتِيَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ وهو قَدْ أتى بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ؛ إذْ كانَ الشُّهَداءُ اسْمًا لِمَن أقامَ الشَّهادَةَ.
فَإنْ قِيلَ: يَلْزَمُكَ مِثْلُهُ في الكُفّارِ والمَحْدُودِينَ في القَذْفِ ونَحْوِهِمْ.
قِيلَ لَهُ: قَدِ اقْتَضى الظّاهِرُ ذَلِكَ، وإنَّما خَصَّصْناهُ بِدَلالَةٍ. وأيْضًا فَإنَّ الفُسّاقَ إنَّما رُدَّتْ شَهادَتُهم لِلتُّهْمَةِ وكانَ ذَلِكَ شُبْهَةً في رَدِّها، فَغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ الحَدِّ عَلَيْهِمْ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي رُدَّتْ مِن أجْلِها شَهادَتُهم، ووَجَبَ سُقُوطُ الحَدِّ عَنِ القاذِفِ أيْضًا بِهَذِهِ الشَّهادَةِ كَما أسْقَطْناها عَنْهم؛ إذْ كانَ سَبِيلُ الشُّبْهَةِ أنْ يَسْقُطَ بِها الحَدُّ ولا يَجِبُ بِها الحَدُّ، وأمّا المَحْدُودُ في القَذْفِ والكافِرُ والعَبْدُ والأعْمى فَلَمْ نَرُدَّ شَهادَتَهم لِلتُّهْمَةِ ولا لِشُبْهَةٍ فِيها وإنَّما رَدَدْناها لَمَعانٍ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِمْ تَبْطُلُ الشَّهادَةُ، وهي الحَدُّ والكُفْرُ والرِّقُّ والعَمى فَلِذَلِكَ حَدَدْناهم ولَمْ يَكُنْ لِشَهادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ في إسْقاطِ الحَدِّ عَنْهم وعَنِ القاذِفِ، ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ الفُسّاقَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ، وإنَّما رَدَدْناها اجْتِهادًا، وقَدْ يَسُوغُ الِاجْتِهادُ لِغَيْرِنا في قَبُولِ شَهادَتِهِمْ إذا كانَ ما نَحْكُمُ نَحْنُ بِأنَّهُ فِسْقٌ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهادَةِ قَدْ يَجُوزُ أنْ يَراهُ غَيْرُنا غَيْرَ مانِعٍ مِن قَبُولِ الشَّهادَةِ، فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَنا إيجابُ الحَدِّ عَلى الشُّهُودِ ولا عَلى القاذِفِ بِالِاجْتِهادِ، وأمّا الحَدُّ في القَذْفِ والكُفْرِ ونَظائِرِهِما فَلَيْسَ طَرِيقُ إثْباتِها الِاجْتِهادَ بَلِ الحَقِيقَةُ؛ فَلِذَلِكَ جازَ أنْ يُحَدُّوا ولَمْ يَكُنْ لِشَهادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ في إسْقاطِ الحَدِّ عَنِ القاذِفِ.
وأيْضًا فَإنَّ الفاسِقَ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِ إذِ الفِسْقُ لَيْسَ بِمَعْنًى يَحْكُمُ بِهِ الحاكِمُ ولا يَسْمَعُ عَلَيْهِ البَيِّناتِ، فَلَمّا لَمْ يَحْكم بِبُطْلانِ شَهادَتِهِمْ ولا كانَ الفِسْقُ مِمّا تَقُومُ بِهِ البَيِّناتُ ويَحْكُمُ بِهِ الحاكِمُ لَمْ يَجُزِ الحُكْمُ بِبُطْلانِ شَهادَتِهِمْ في إيجابِ الحَدِّ عَلَيْهِمْ، ولَمّا كانَ حَدُّ القَذْفِ والكُفْرُ والرِّقُّ والعَمى مِمّا يَقَعُ الحُكْمُ بِهِ وتَقُومُ عَلَيْهِ البَيِّناتُ كانَ مَحْكُومًا بِبُطْلانِ شَهادَتِهِمْ وخَرَجُوا بِذَلِكَ مِن أنْ يَكُونُوا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ فَوَجَبَ أنْ يُحَدُّوا لِوُقُوعِ الحُكْمِ بِالسَّبَبِ المُوجِبِ لِخُرُوجِهِمْ مِن أنْ يَكُونُوا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ. وأيْضًا فَإنَّ الفِسْقَ مِنَ الشّاهِدِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ في حالِ الشَّهادَةِ، إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ عَدْلًا بِتَوْبَتِهِ في الحالِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ، وأمّا الكُفْرُ والحَدُّ والعَمى والرِّقُّ فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ غَيْرُ زائِلٍ وهو المانِعُ لَهُ مِن كَوْنِهِ شاهِدًا، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفا.
فَإنْ قِيلَ جائِزٌ أنْ يَكُونَ الكافِرُ قَدْ أسْلَمَ أيْضًا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: لا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاعْتِقادِهِ الإسْلامَ دُونَ إظْهارِهِ في المَوْضِعِ الَّذِي يُمْكِنُهُ (p-١٢٩)إظْهارُهُ، فَإذا لَمْ يُظْهِرْهُ فَهو باقٍ عَلى كُفْرِهِ، فَقَوْلُ زُفَرَ في هَذِهِ المَسْألَةِ أظْهَرُ لِأنَّهُ إنْ جازَ أنْ يَكُونَ فِسْقُ الشُّهُودِ غَيْرَ مُخْرِجٍ لَهم مِن أنْ يَكُونُوا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ في بابِ سُقُوطِ الحَدِّ عَنْهم فَكَذَلِكَ حُكْمُهم في سُقُوطِهِ عَنِ القاذِفِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في شُهُودِ الزِّنا إذا جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( يُحَدُّونَ ) وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ والشّافِعِيُّ: ( لا يُحَدُّونَ وتُقْبَلُ شَهادَتُهم )، ثُمَّ قالَ الشّافِعِيُّ: ( إذا كانَ الزِّنا واحِدًا )
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا شَهِدَ الأوَّلُ وحْدَهُ كانَ قاذِفًا بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ فاقْتَضى أنْ يَكُونَ الأرْبَعَةُ غَيْرَهُ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المَعْقُولُ مِنهُ دُخُولَهُ في الأرْبَعَةِ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ ائْتِ بِنَفْسِكَ بَعْدَ الشَّهادَةِ أوِ القَذْفِ كَما لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ ائْتِ بِأرْبَعَةٍ سِواكَ؛ ولِأنَّهم لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّهُ إذا قالَ لَها أنْتِ زانِيَةٌ أنَّهُ مُكَلَّفٌ لَأنْ يَأْتِيَ بِأرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنا ولَيْسَ هو مِنهم، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أشْهَدُ أنَّكِ زانِيَةٌ.
وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اقْتَضى ظاهِرُ الآيَةِ إيجابَ الحَدِّ عَلى كُلِّ قاذِفٍ سَواءٌ كانَ قَذْفُهُ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ أوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهادَةِ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ حُكْمَ الأوَّلِ كانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الثّانِي والثّالِثِ والرّابِعِ؛ إذْ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم قاذِفَ مُحْصَنَةٍ قَدْ أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الحَدَّ ولَمْ يُبْرِئْهُ مِنهُ إلّا بِشَهادَةِ أرْبَعَةٍ غَيْرِهِ، فَإنْ قِيلَ: إنَّما أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الحَدَّ إذا كانَ قاذِفًا ولَمْ يَجِئْ مَجِيءَ الشَّهادَةِ، فَأمّا إذا جاءَ مَجِيءَ الشَّهادَةِ بِأنْ يَقُولَ: ( أشْهَدُ أنَّ فُلانًا زَنى ) فَلَيْسَ هَذا بِقاذِفٍ قِيلَ لَهُ: قَذْفُهُ إيّاها بِلَفْظِ الشَّهادَةِ لا يُخْرِجُهُ مِن حُكْمِ القاذِفِينَ.
ألا تَرى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَكانَ قاذِفًا وكانَ الحَدُّ لَهُ لازِمًا ؟ فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ إيرادَهُ القَذْفَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ قاذِفًا بَعْدَ أنْ يَكُونَ وحْدَهُ وأيْضًا فَقَدْ تَناوَلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ إذْ كانَ رامِيًا، وإنَّما يَنْفَصِلُ حُكْمُ الرّامِي مِن حُكْمِ الشّاهِدِ إذا جاءَ أرْبَعَةٌ مُجْتَمَعِينَ وهُمُ العَدَدُ المَشْرُوطُ في قَبُولِ الشَّهادَةِ، فَلا يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ لَأنْ يَأْتُوا بِغَيْرِهِمْ، فَأمّا مَن دُونَ الأرْبَعَةِ إذا جاءُوا قاذِفِينَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ أوْ بِغَيْرِ لَفْظِها فَإنَّهم قَذَفَةٌ؛ إذْ هم مُكَلَّفُونَ لِلْإتْيانِ بِغَيْرِهِمْ في صِحَّةِ قَذْفِهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أنَّ نافِعَ بْنَ الحارِثِ كَتَبَ إلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ أرْبَعَةً جاءُوا يَشْهَدُونَ عَلى رَجُلٍ وامْرَأةٍ بِالزِّنا، فَشَهِدَ ثَلاثَةٌ أنَّهم رَأوْا كالمِيلِ في المُكْحُلَةِ ولَمْ يَشْهَدِ الرّابِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنْ شَهِدَ الرّابِعُ عَلى مِثْلِ ما شَهِدَ عَلَيْهِ الثَّلاثَةُ فاجْلِدْهُما وإنْ كانا مُحْصَنَيْنِ فارْجُمْهُما، وإنْ لَمْ يَشْهَدْ إلّا بِما كَتَبْتَ بِهِ إلَيَّ فاجْلِدِ الثَّلاثَةَ وخَلِّ (p-١٣٠)سَبِيلَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ الثَّلاثَةِ آخَرُ أنَّهم لا يُحَدُّونَ وقُبِلَتْ شَهادَتُهم مَعَ كَوْنِ الثَّلاثَةِ بَدِيًّا مُنْفَرِدِينَ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ في ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى ما ذَكَرْتَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ بِما شَهِدَ بِهِ الآخَرُونَ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهم بَلْ جاءُوا مُجْتَمِعِينَ مَجِيءَ الشَّهادَةِ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الجَمِيعُ شَهِدُوا بِالزِّنا فَلَمّا اسْتَثْبَتُوا بِالرَّجُلِ أنْ يُصَرِّحَ بِما صَرَّحَ بِهِ الثَّلاثَةُ فَأمَرَ عُمَرُ بِأنْ يُوقَفَ الرَّجُلُ، فَإنْ أتى بِالتَّفْسِيرِ عَلى ما أتى بِهِ القَوْمُ حُدَّ المَشْهُودُ عَلَيْهِما، وإنْ هو لَمْ يَأْتِ بِالتَّفْسِيرِ أُبْطِلَ شَهادَتُهُ وجُعِلَ الثَّلاثَةُ مُنْفَرِدِينَ فَحَدَّهم، ولَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنْ جاءَ رابِعٌ فَشَهِدَ مَعَهم فاقْبَلْ شَهادَتَهم فَيَكُونُ قابِلًا لِشَهادَةِ الثَّلاثَةِ المُنْفَرِدِينَ مَعَ واحِدٍ جاءَ بَعْدَهم؛ وقَدْ جَلَدَ أبا بَكْرَةَ وأصْحابَهُ لَمّا نَكَلَ زِيادٌ عَنِ الشَّهادَةِ ولَمْ يَقُلْ لَهُمُ ائْتُوا بِشاهِدٍ آخَرَ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهادَتِكم، وكانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنهم، ولَوْ كانَ قَبُولُ شَهادَةِ شاهِدٍ واحِدٍ مِنهم لَوْ شَهِدَ مَعَهم جائِزًا لَوَقَفَ الأمْرَ واسْتَثْبَتَهم وقالَ هَلْ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهادَتِكم شاهِدٌ آخَرُ ؟ وإذْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ولَمْ يُوقِفْ أمْرَهم بِما عَزَمَ عَلَيْهِ مِن حَدِّهِمْ دَلَّ عَلى أنَّهم قَدْ صارُوا قَذَفَةً قَدْ لَزِمَهُمُ الحَدُّ وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَرِّئُهم مِنَ الحَدِّ إلّا شَهادَةُ أرْبَعَةٍ آخَرِينَ.
فَإنْ قِيلَ: فَهو لَمْ يَقُلْ لَهم هَلْ مَعَكم أرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ بِمِثْلِ شَهادَتِكم ولَمْ يُوقِفْ أمْرَ الحَدِّ عَلَيْهِمْ لِجَوازِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ في الشّاهِدِ الواحِدِ لَوْ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهادَتِهِمْ.
قِيلَ لَهُ: لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفى عَلَيْهِمْ أنَّهم لَوْ جاءُوا بِأرْبَعَةٍ آخَرِينَ يَشْهَدُونَ لَهم بِذَلِكَ لَكانَتْ شَهادَتُهم مَقْبُولَةً وكانَ الحَدُّ عَنْهم زائِلًا، فَلَوْ كانُوا قَدْ عَلِمُوا أنَّ هُناكَ شُهُودًا أرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ لَسَألُوهُ التَّوْقِيفَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ أنْ يُعْلِمَهم ذَلِكَ؛ وأمّا الشّاهِدُ الواحِدُ لَوْ شَهِدَ مَعَهم فَإنَّهُ جائِزٌ أنْ يَخْفى حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ في جَوازِ شَهادَتِهِ مَعَهم أوْ بُطْلانِها، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا لَوَقَفَهم عَلَيْهِ وأعْلَمْهم إيّاهُ حَتّى يَأْتُوا بِهِ إنْ كانَ
* * *
بابُ القَذْفِ الَّذِي يُوجِبُ اللِّعانَ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ الآيَةَ.
ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّ المُرادَ بِهِ قَذْفُ الأجْنَبِيّاتِ المُحْصَناتِ بِالزِّنا سَواءٌ قالَ: ( زَنَيْتِ ) أوْ قالَ: ( رَأيْتُكِ تَزْنِينَ )، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ [النور: ٦] ولا خِلافَ أيْضًا أنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ رَمْيُها بِالزِّنا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في صِفَةِ القَذْفِ المُوجِبِ لِلِّعانِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرَ والشّافِعِيُّ: ( إذا قالَ لَها يا زانِيَةُ وجَبَ اللِّعانُ ) .
وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: ( لا يُلاعِنُ إلّا أنْ يَقُولَ رَأيْتُكِ تَزْنِينَ أوْ يَنْفِيَ حَمْلًا بِها أوْ ولَدًا مِنها، والأعْمى يُلاعِنُ (p-١٣٨)إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ ) . وقالَ اللَّيْثُ: ( لا تَكُونُ مُلاعَنَةً إلّا أنْ يَقُولَ رَأيْتُ عَلَيْها رَجُلًا أوْ يَقُولَ قَدْ كُنْتُ اسْتَبْرَأْتُ رَحِمَها ولَيْسَ هَذا الحَمْلُ مِنِّي ويَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلى ما قالَ ) وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: ( إذا قالَ رَأيْتُها تَزْنِي لاعَنَها وإنْ قَذَفَها وهي بِخُراسانَ وإنَّما تَزَوَّجَها قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ لَمْ يُلاعِنْ ولا كَرامَةَ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي إيجابَ اللِّعانِ بِالقَذْفِ سَواءٌ قالَ رَأيْتُكَ تَزْنِينَ أوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأنَّهُ إذا قَذَفَها بِالزِّنا فَهو رامٍ لَها سَواءٌ ادَّعى مُعايَنَةَ ذَلِكَ أوْ أطْلَقَهُ ولَمْ يَذْكُرِ العِيانَ وأيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّ قاذِفَ الأجْنَبِيَّةِ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ في وُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ بَيْنَ أنْ يَدَّعِيَ المُعايَنَةَ أوْ يُطْلِقَهُ، كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الزَّوْجِ في قَذْفِهِ إيّاها، إذْ كانَ اللِّعانُ مُتَعَلِّقًا بِالقَذْفِ كالجَلْدِ ولِأنَّ اللِّعانَ في قَذْفِ الزَّوْجاتِ أُقِيمَ مَقامَ الجَلْدِ في قَذْفِ الأجْنَبِيّاتِ فَوَجَبَ أنْ يَسْتَوِيا فِيما يَتَعَلَّقانِ بِهِ مِن لَفْظِ القَذْفِ. وأيْضًا فَقَدْ قالَ مالِكٌ: ( إنَّ الأعْمى يُلاعِنُ ) وهو لا يَقُولُ رَأيْتُ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ اللِّعانِ رَمْيَها بِرُؤْيا الزِّنا مِنها وأيْضًا قَدْ أوْجَبَ مالِكٌ اللِّعانَ في نَفْيِ الحَمْلِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ رُؤْيَةٍ، فَكَذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِ الحَمْلِ يَلْزَمُهُ أنْ لا يُشْرَطَ فِيهِ الرُّؤْيَةُ
* * *
بابُ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ طَلاقًا بائِنًا ثُمَّ يَقْذِفُها
قالَ أصْحابُنا فِيمَن طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا ثُمَّ قَذَفَها: " ( فَعَلَيْهِ الحَدُّ ) وكَذَلِكَ إنْ ولَدَتْ ولَدًا قَبْلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها فَنَفى ولَدَها فَعَلَيْهِ الحَدُّ والوَلَدُ ولَدُهُ.
وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: ( إذا بانَتْ مِنهُ ثُمَّ أنْكَرَ حَمْلَها لاعَنَها إنْ كانَ حَمْلُها يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ مِنهُ، وإنْ قَذَفَها بَعْدَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ وهي حامِلٌ مُقِرٌّ بِحَمْلِها ثُمَّ زَعَمَ أنَّهُ رَآها تَزْنِي قَبْلَ أنْ يُقاذِفَها حُدَّ ولَمْ يُلاعَنْ، وإنْ أنْكَرَ حَمْلَها بَعْدَ أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا لاعَنَها ) . وقالَ اللَّيْثُ: ( إذا أنْكَرَ حَمْلَها بَعْدَ البَيْنُونَةِ لاعَنَ، ولَوْ قَذَفَها بِالزِّنا بَعْدَ أنْ بانَتْ مِنهُ وذَكَرَ أنَّهُ رَأى عَلَيْها رَجُلًا قَبْلَ فِراقِهِ إيّاها جُلِدَ الحَدَّ ولَمْ يُلاعِنْ ) .
وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: ( إذا ادَّعَتِ المَرْأةُ حَمْلًا في عِدَّتِها وأنْكَرَ الَّذِي يُعْتَدُّ مِنهُ لاعَنَها، وإنْ كانَتْ في غَيْرِ عِدَّةٍ جُلِدَ وأُلْحِقَ بِهِ الوَلَدُ ) . وقالَ الشّافِعِيُّ: ( وإنْ كانَتِ امْرَأةً مَغْلُوبَةً عَلى عَقْلِها فَنَفى زَوْجُها ولَدَها التَعَنَ ووَقَعَتِ الفُرْقَةُ وانْتَفى الوَلَدُ، وإنْ ماتَتِ المَرْأةُ قَبْلَ اللِّعانِ فَطالَبَ أبُوها وأُمُّها زَوْجَها كانَ عَلَيْهِ أنْ يَلْتَعِنَ، وإنْ ماتَتْ ثُمَّ قَذَفَها حُدَّ ولا لِعانَ إلّا أنْ يَنْفِيَ بِهِ ولَدًا أوْ حَمْلًا فَيَلْتَعِنَ ) .
ورَوى قَتادَةُ عَنْ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ تَطْلِيقَةً أوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ يَقْذِفُها قالَ: ( يُحَدُّ ) . وقالَ ابْنُ عُمَرَ: ( يُلاعِنُ ) .
ورَوى الشَّيْبانِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: ( إنْ طَلَّقَها طَلاقًا بائِنًا فادَّعَتْ حَمْلًا فانْتَفى مِنهُ يُلاعِنُها، إنَّما فَرَّ مِنَ اللِّعانِ ) . ورَوى أشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ ولَمْ يَذْكُرِ الفِرارَ، وإنْ لَمْ تَكُنْ حامِلًا جُلِدَ.
وقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ وعَطاءٌ والزُّهْرِيُّ: ( إذا قَذَفَها بَعْدَما بانَتْ مِنهُ جُلِدَ الحَدَّ ) قالَ عَطاءٌ: ( والوَلَدُ ولَدُهُ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾
وكانَ ذَلِكَ حُكْمًا عامًّا في قاذِفِ الزَّوْجاتِ والأجْنَبِيّاتِ عَلى ما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ، ثُمَّ نُسِخَ مِنهُ قاذِفُ الزَّوْجاتِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ [النور: ٦] والبائِنَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَعَلى الَّذِي كانَ زَوْجُها الحَدُّ إذا قَذَفَها بِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ ومَن أوْجَبَ اللِّعانَ بَعْدَ البَيْنُونَةِ وارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ نَسَخَ مِن هَذِهِ الآيَةِ ما لَمْ يَرِدْ تَوْقِيفٌ بِنَسْخِهِ، وغَيْرُ جائِزٍ نَسْخُ (p-١٤٣)القُرْآنِ إلّا بِتَوْقِيفٍ يُوجِبُ العِلْمَ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لا مَدْخَلَ لِلْقِياسِ في إثْباتِ اللِّعانِ؛ إذْ كانَ اللِّعانُ حَدًّا عَلى ما رَوَيْنا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولا سَبِيلَ إلى إثْباتِ الحُدُودِ مِن طَرِيقِ المَقايِيسِ وإنَّما طَرِيقُها التَّوْقِيفُ أوِ الِاتِّفاقُ.
وأيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّهُ لَوْ قَذَفَها بِغَيْرِ ولَدٍ أنَّ عَلَيْهِ الحَدَّ ولا لِعانَ، فَثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ داخِلٍ في الآيَةِ ولا مُرادٍ،؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ نَفْيُ الوَلَدِ وإنَّما فِيها ذِكْرُ القَذْفِ، ونَفْيُ الوَلَدِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ ولَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِإيجابِ اللِّعانِ لِنَفْيِ الوَلَدِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما يُلاعَنُ بَيْنَهُما لِنَفْيِ الوَلَدِ لِأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ ولا يَنْتَفِي مِنهُ إلّا بِاللِّعانِ قِياسًا عَلى حالِ بَقاءِ الزَّوْجِيَّةِ.
قِيلَ لَهُ: هَذا اسْتِعْمالُ القِياسِ في نَسْخِ حُكْمِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ فَلا يَجُوزُ نَسْخُ الآيَةِ بِالقِياسِ؛ وأيْضًا لَوْ جازَ إيجابُ اللِّعانِ لِنَفْيِ الوَلَدِ مَعَ ارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ لَجازَ إيجابُهُ لِزَوالِ الحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ بَعْدَ ارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمّا كانَ لَوْ قَذَفَها بِغَيْرِ ولَدٍ حُدَّ ولَمْ يَجِبِ اللِّعانُ لِيَزُولَ الحَدُّ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ لا يَجِبُ اللِّعانُ لِنَفْيِ الوَلَدِ مَعَ ارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١] وقالَ: ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣١] فَحَكَمَ تَعالى بِطَلاقِ النِّساءِ ولَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عِنْدَكَ مِن طَلاقِها بَعْدَ البَيْنُونَةِ ما دامَتْ في العِدَّةِ، فَما أنْكَرْتَ مِثْلَهُ في اللِّعانِ ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا سُؤالٌ ساقِطٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى حِينَ حَكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلاقِ عَلى نِساءِ المُطَلِّقِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ وُقُوعَهُ عَلى مَن لَيْسَتْ مِن نِسائِهِ بَلْ ما عَدا نِساءَهُ، فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلى الدَّلِيلِ في وُقُوعِ طَلاقِهِ أوْ نَفْيِهِ وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى وُقُوعِهِ في العِدَّةِ، وأمّا اللِّعانُ فَإنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجاتِ ولِأنَّ مَن عَدا الزَّوْجاتِ فالواجِبُ فِيهِنَّ الحَدُّ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ فَكانَ مُوجِبُ هَذِهِ الآيَةِ نافِيًا لِلِّعانِ، ومَن أوْجَبَهُ وأسْقَطَ حُكْمَ الآيَةِ فَقَدْ نَسَخَها بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ وذَلِكَ باطِلٌ؛ ولِذَلِكَ نَفَيْناهُ إلّا مَعَ بَقاءِ الزَّوْجِيَّةِ.
وأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ تَعالى مِن حَيْثُ حَكَمَ بِطَلاقِ النِّساءِ فَقَدْ حَكَمَ بِطَلاقِهِنَّ بَعْدَ البَيْنُونَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلاقِ بَعْدَ الفِدْيَةِ لِأنَّ ( الفاءَ ) لِلتَّعْقِيبِ، ولَيْسَ مَعَكَ آيَةٌ ولا سُنَّةٌ في إيجابِ اللِّعانِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ. وأيْضًا فَجائِزٌ إثْباتُ الطَّلاقِ مِن طَرِيقِ المَقايِيسِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ، ولا يَجُوزُ إثْباتُ اللِّعانِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ مِن طَرِيقِ القِياسِ؛ لِأنَّهُ حَدٌّ لا مَدْخَلَ لِلْقِياسِ في إثْباتِهِ.
وأيْضًا فَإنَّ اللِّعانَ يُوجِبُ البَيْنُونَةَ ولا يَصِحُّ إثْباتُها بَعْدَ وُقُوعِ البَيْنُونَةِ، فَلا مَعْنى لِإيجابِ لِعانٍ (p-١٤٤)لا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَيْنُونَةٌ؛ إذْ كانَ مَوْضُوعُ اللِّعانِ لِقَطْعِ الفِراشِ وإيجابِ البَيْنُونَةِ، فَإذا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ذَلِكَ فَلا حُكْمَ لَهُ فَجَرى اللِّعانُ عِنْدَنا في هَذا الوَجْهِ مَجْرى الكِناياتِ المَوْضُوعَةِ لِلْبَيْنُونَةِ فَلا يَقَعُ بِها طَلاقٌ بَعْدَ ارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أنْتِ خَلِيَّةٌ وبائِنٌ وبَتَّةٌ ونَحْوُها، فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَلْحَقَها حُكْمُ هَذِهِ الكِناياتِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ اللِّعانِ في انْتِفاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُقُوعِ الفُرْقَةِ وارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَرِيحِ الطَّلاقِ؛ إذْ لَيْسَ شَرْطُهُ ارْتِفاعَ البَيْنُونَةِ، ألا تَرى أنَّ الطَّلاقَ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ في العِدَّةِ ولَوْ طَلَّقَ الثّانِيَةَ بَعْدَ الأُولى في العِدَّةِ لَمْ يَكُنْ في الثّانِيَةِ تَأْثِيرٌ في بَيْنُونَةٍ ولا تَحْرِيمٍ ؟ وإنَّما أوْجَبَ نُقْصانَ العَدَدِ فَلِذَلِكَ جازَ أنْ يَلْحَقَها الطَّلاقُ في العِدَّةِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ لِنُقْصانِ العَدَدِ لا لِإيجابِ تَحْرِيمٍ ولا لِبَيْنُونَةٍ. وأيْضًا فَلَيْسَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ وُقُوعُ الطَّلاقِ أصْلًا لِوُجُوبِ اللِّعانِ؛ لِأنَّ الصَّغِيرَةَ والمَجْنُونَةَ يَلْحَقُهُما الطَّلاقُ ولا لِعانَ بَيْنَهُما وبَيْنَ أزْواجِهِما.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيمَن قَذَفَ امْرَأتَهُ ثُمَّ طَلَّقَها ثَلاثًا، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ وزُفَرُ ومُحَمَّدٌ: " إذا بانَتْ مِنهُ بَعْدَ القَذْفِ بِطَلاقٍ أوْ غَيْرِهِ فَلا حَدَّ عَلَيْهِ ولا لِعانَ "، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وقالَ الأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: ( يُلاعِنُ ) .
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( إذا قَذَفَها وهي حامِلٌ ثُمَّ ولَدَتْ ولَدًا قَبْلَ أنْ يُلاعِنَها فَماتَتْ لَزِمَهُ الوَلَدُ وضُرِبَ الحَدَّ، وإنْ لاعَنَ الزَّوْجُ ولَمْ يَلْتَعِنِ المَرْأةَ حَتّى تَمُوتَ ضُرِبَ الحَدَّ وتَوارَثا، وإنْ طَلَّقَها وهي حامِلٌ وقَدْ قَذَفَها فَوَضَعَتْ حَمْلَها قَبْلَ أنْ يُلاعِنَها لَمْ يُلاعَنْ وضُرِبَ الحَدَّ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنّا امْتِناعَ وُجُوبِ اللِّعانِ بَعْدَ البَيْنُونَةِ، ثُمَّ لا يَخْلُو إذا لَمْ يَجِبِ اللِّعانُ مِن أنْ لا يَجِبَ الحَدُّ عَلى ما قالَ أصْحابُنا أوْ أنْ يَجِبَ الحَدُّ عَلى ما قالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، وغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ الحَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّوْجِ إكْذابٌ لِنَفْسِهِ، وإنَّما سَقَطَ اللِّعانُ عَنْهُ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ وصارَ بِمَنزِلَتِها لَوْ صَدَّقَتْهُ عَلى القَذْفِ لَما سَقَطَ اللِّعانُ مِن جِهَةِ الحُكْمِ لا بِإكْذابٍ مِنَ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجِبِ الحَدُّ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ قَذَفَها وهي أجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَها لَمْ تَنْتَقِلْ إلى اللِّعانِ، كَذَلِكَ إذا قَذَفَها وهي زَوْجَتُهُ ثُمَّ بانَتْ لَمْ يَبْطُلِ اللِّعانُ قِيلَ لَهُ: حالُ النِّكاحِ قَدْ يَجِبُ فِيها اللِّعانُ وقَدْ يَجِبُ فِيهِ الحَدُّ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ أكْذَبَ نَفْسَهُ وجَبَ الحَدُّ في حالِ النِّكاحِ وغَيْرُ حالِ النِّكاحِ لا يَجِبُ فِيهِ اللِّعانُ بِحالٍ ؟
{"ayahs_start":4,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق