الباحث القرآني
بابُ عُقُودِ المُدايَناتِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الكِتابَ؛ والإشْهادَ عَلى الدُّيُونِ الآجِلَةِ؛ قَدْ كانا واجِبَيْنِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فاكْتُبُوهُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ ثُمَّ نُسِخَ الوُجُوبُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ والشَّعْبِيِّ؛ والحَسَنِ؛ وقالَ آخَرُونَ: هي مُحْكَمَةٌ؛ لَمْ يُنْسَخْ مِنها شَيْءٌ؛ ورَوى عاصِمٌ الأحْوَلُ؛ وداوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "لا واللَّهِ؛ إنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ؛ وما فِيها نَسْخٌ"؛ وقَدْ رَوى شُعْبَةُ عَنْ فِراسٍ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ أبِي بُرْدَةَ؛ عَنْ أبِي مُوسى قالَ: «ثَلاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ؛ رَجُلٌ كانَتْ لَهُ امْرَأةٌ سَيِّئَةُ الخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْها؛ ورَجُلٌ أعْطى مالَهُ سَفِيهًا؛ وقَدْ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ ورَجُلٌ لَهُ عَلى رَجُلٍ دَيْنٌ ولَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ بِهِ»؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ رُوِيَ هَذا الحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ ورَوى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحّاكِ: "إنْ ذَهَبَ حَقُّهُ لَمْ يُؤْجَرْ؛ وإنْ دَعا عَلَيْهِ لَمْ يُجَبْ؛ لِأنَّهُ تَرَكَ حَقَّ اللَّهِ؛ وأمْرَهُ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾؛ يَعْنِي وأشْهِدُوا عَلى حُقُوقِكُمْ؛ إذا كانَ فِيها أجَلٌ؛ أوْ لَمْ يَكُنْ فِيها أجَلٌ؛ فَأشْهِدْ عَلى حَقِّكَ عَلى كُلِّ حالٍ"؛ وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سُئِلَ عَطاءٌ: أيُشْهِدُ الرَّجُلُ عَلى أنْ بايَعَ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ؟ قالَ: نَعَمْ؛ هو تَأْوِيلُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾؛ ورَوى مُغِيرَةُ؛ عَنْ إبْراهِيمَ قالَ: "يُشْهِدُ ولَوْ عَلى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ"؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ؛ والشَّعْبِيِّ: "إنْ شاءَ أشْهَدَ؛ وإنْ شاءَ لَمْ يُشْهِدْ؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] "؛ ورَوى لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ ابْنَ عُمَرَ كانَ إذا باعَ أشْهَدَ؛ ولَمْ يَكْتُبْ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ رَآهُ نَدْبًا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ واجِبًا لَكانَتِ الكِتابَةُ مَعَ الإشْهادِ؛ لِأنَّهُما مَأْمُورٌ بِهِما في الآيَةِ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لا يَخْلُو قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فاكْتُبُوهُ﴾؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾؛ مِن أنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْكِتابَةِ؛ والإشْهادِ عَلى الدُّيُونِ الآجِلَةِ في حالِ نُزُولِها؛ وكانَ هَذا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا ثابِتًا؛ إلى أنْ ورَدَ نَسْخُ إيجابِهِ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ (p-٢٠٦)أوْ أنْ يَكُونَ نُزُولُ الجَمِيعِ مَعًا؛ فَإنْ كانَ كَذَلِكَ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ الإيجابَ؛ لِامْتِناعِ وُرُودِ النّاسِخِ والمَنسُوخِ مَعًا في شَيْءٍ واحِدٍ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ نَسْخُ الحُكْمِ قَبْلَ اسْتِقْرارِهِ؛ ولَمّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنا تارِيخُ نُزُولِ هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ وجَبَ الحُكْمُ بِوُرُودِهِما مَعًا؛ فَلَمْ يَرِدِ الأمْرُ بِالكِتابَةِ؛ والإشْهادِ إلّا مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الأمْرَ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ نَدْبٌ؛ غَيْرُ واجِبٍ.
وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن أنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ؛ لَمْ يُنْسَخْ مِنها شَيْءٌ؛ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهُ رَأى الإشْهادَ واجِبًا؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يُرِيدَ أنَّ الجَمِيعَ ورَدَ مَعًا؛ فَكانَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ ما أوْجَبَ أنْ يَكُونَ الإشْهادُ نَدْبًا؛ وهو قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يُشْهِدُ؛ وعَنْ إبْراهِيمَ؛ وعَطاءٍ؛ أنَّهُ يُشْهِدُ عَلى القَلِيلِ؛ كُلُّهُ عِنْدَنا أنَّهم رَأوْهُ نَدْبًا؛ لا إيجابًا.
وما رُوِيَ عَنْ أبِي مُوسى: "ثَلاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ"؛ أحَدُهم مَن لَهُ عَلى رَجُلٍ دَيْنٌ؛ ولَمْ يُشْهِدْ؛ فَلا دَلالَةَ عَلى أنَّهُ رَآهُ واجِبًا؛ ألا تَرى أنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ مَن لَهُ امْرَأةٌ سَيِّئَةُ الخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْها؟ ولا خِلافَ أنَّهُ لَيْسَ بِواجِبٍ عَلى مَن لَهُ امْرَأةٌ سَيِّئَةُ الخُلُقِ أنْ يُطَلِّقَها؛ وإنَّما هَذا القَوْلُ مِنهُ عَلى أنَّ فاعِلَ ذَلِكَ تارِكٌ لِلِاحْتِياطِ؛ والتَّوَصُّلِ إلى ما جَعَلَ اللَّهُ (تَعالى) لَهُ فِيهِ المَخْرَجَ والخَلاصَ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ أنَّ الأمْرَ بِالكِتابَةِ؛ والإشْهادِ؛ والرَّهْنِ؛ المَذْكُورَ جَمِيعَهُ في هَذِهِ الآيَةِ نَدْبٌ؛ وإرْشادٌ إلى ما لَنا فِيهِ الحَظُّ والصَّلاحُ والِاحْتِياطُ لِلدِّينِ والدُّنْيا؛ وأنَّ شَيْئًا مِنهُ غَيْرُ واجِبٍ.
وقَدْ نَقَلَتِ الأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفِ؛ عُقُودَ المُدايَناتِ؛ والأشْرِيَةِ؛ والبِياعاتِ؛ في أمْصارِهِمْ مِن غَيْرِ إشْهادٍ؛ مَعَ عِلْمِ فُقَهائِهِمْ بِذَلِكَ؛ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ مِنهم عَلَيْهِمْ؛ ولَوْ كانَ الإشْهادُ واجِبًا لَما تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلى تارِكِهِ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم رَأوْهُ نَدْبًا؛ وذَلِكَ مَنقُولٌ مِن عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ إلى يَوْمِنا هَذا؛ ولَوْ كانَتِ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ تُشْهِدُ عَلى بِياعاتِها؛ وأشْرِيَتِها؛ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَواتِرًا مُسْتَفِيضًا؛ ولَأنْكَرَتْ عَلى فاعِلِهِ تَرْكَ الإشْهادِ؛ فَلَمّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ الإشْهادُ بِالنَّقْلِ المُسْتَفِيضِ؛ ولا إظْهارُ النَّكِيرِ عَلى تارِكِهِ مِنَ العامَّةِ؛ ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الكِتابَ؛ والإشْهادَ في الدُّيُونِ؛ والبِياعاتِ؛ غَيْرُ واجِبَيْنِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فاكْتُبُوهُ﴾؛ مُخاطَبَةٌ لِمَن جَرى ذِكْرُهُ في أوَّلِ الآيَةِ؛ وهو ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ فَإنَّما أمَرَ بِذَلِكَ المُتَدايِنَيْنِ؛ فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿بِدَيْنٍ﴾؛ والتَّدايُنُ لا يَكُونُ إلّا بِدَيْنٍ؟ قِيلَ لَهُ: (p-٢٠٧)لِأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿تَدايَنْتُمْ﴾؛ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ؛ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الدِّينِ؛ الَّذِي هو الجَزاءُ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤]؛ يَعْنِي يَوْمَ الجَزاءِ؛ فَيَكُونُ بِمَعْنى تَجازَيْتُمْ؛ فَأزالَ الِاشْتِراكَ عَنِ اللَّفْظِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿بِدَيْنٍ﴾؛ وقَصَرَهُ عَلى المُعامَلَةِ بِالدَّيْنِ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ عَلى جِهَةِ التَّأْكِيدِ؛ وتَمْكِينِ المَعْنى في النَّفْسِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ يَنْتَظِمُ سائِرَ عُقُودِ المُدايَناتِ الَّتِي يَصِحُّ فِيها الآجالُ؛ ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى جَوازِ التَّأْجِيلِ في سائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأنَّ الآيَةَ لَيْسَ فِيها بَيانُ جَوازِ التَّأْجِيلِ في سائِرِ الدُّيُونِ؛ وإنَّما فِيها الأمْرُ بِالإشْهادِ إذا كانَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا؛ ثُمَّ يُحْتاجُ أنْ يُعْلَمَ بِدَلالَةٍ أُخْرى جَوازُ التَّأْجِيلِ في الدَّيْنِ؛ وامْتِناعِهِ؛ ألا تَرى أنَّها لَمْ تَقْتَضِ جَوازَ دُخُولِ الأجَلِ عَلى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ حَتّى يَكُونا جَمِيعًا مُؤَجَّلَيْنِ؟ وهو بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: «"مَن أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ؛ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ؛ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ"؛» لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى جَوازِ السَّلَمِ في سائِرِ المَكِيلاتِ؛ والمَوْزُوناتِ بِالآجالِ المَعْلُومَةِ؛ وإنَّما يَنْبَغِي أنْ يُثْبِتَ جَوازَهُ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ المَعْلُومِ الجِنْسِ؛ والنَّوْعِ؛ والصِّفَةِ؛ بِدَلالَةٍ أُخْرى؛ وإذا ثَبَتَ أنَّهُ مِمّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ احْتَجْنا بَعْدَ ذَلِكَ إلى أنْ نُسْلِمَ فِيهِ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ؛ وكَما تَدُلُّ الآيَةُ عَلى جَوازِ عُقُودِ المُدايَناتِ؛ ولَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلالُ بِعُمُومِها في إجازَةِ سائِرِ عُقُودِ المُدايَناتِ؛ لِأنَّ الآيَةَ إنَّما فِيها الأمْرُ بِالإشْهادِ إذا صَحَّتِ المُدايَنَةُ؛ كَذَلِكَ لا تَدُلُّ عَلى جَوازِ شَرْطِ الأجَلِ في سائِرِ الدُّيُونِ؛ وإنَّما فِيها الأمْرُ بِالإشْهادِ إذا صَحَّ الدَّيْنُ والتَّأْجِيلُ فِيهِ.
وقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهم في جَوازِ التَّأْجِيلِ في القَرْضِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ القَرْضِ؛ وسائِرِ عُقُودِ المُدايَناتِ؛ وقَدْ عَلِمْنا أنَّ القَرْضَ مِمّا شَمِلَهُ الِاسْمُ؛ ولَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنا كَما ذُكِرَ؛ لِأنَّهُ لا دَلالَةَ فِيها عَلى جَوازِ كُلِّ دَيْنٍ؛ ولا عَلى جَوازِ التَّأْجِيلِ في جَمِيعِها؛ وإنَّما فِيها الأمْرُ بِالإشْهادِ عَلى دَيْنٍ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ التَّأْجِيلُ؛ لِاسْتِحالَةٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الإشْهادَ عَلى ما لَمْ يَثْبُتْ مِنَ الدُّيُونِ؛ ولا مِنَ الآجالِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ التَّأْجِيلُ؛ فاكْتُبُوهُ؛ فالمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلى جَوازِ تَأْجِيلِ القَرْضِ مُغَفَّلٌ في اسْتِدْلالِهِ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ القَرْضَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ؛ أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ قَدِ اقْتَضى عَقْدَ المُدايَنَةِ؛ ولَيْسَ القَرْضُ بِعَقْدِ مُدايَنَةٍ؛ إذْ لا يَصِيرُ دَيْنًا بِالعَقْدِ دُونَ القَبْضِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَرْضُ خارِجًا مِنهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ قَدِ اشْتَمَلَ عَلى كُلِّ دَيْنٍ ثابِتٍ؛ مُؤَجَّلٍ؛ سَواءٌ كانَ بَدَلُهُ عَيْنًا؛ أوْ دَيْنًا؛ فَمَنِ اشْتَرى دارًا؛ أوْ عَبْدًا بِألْفِ دِرْهَمٍ؛ إلى أجَلٍ كانَ (p-٢٠٨)مَأْمُورًا بِالكِتابِ؛ والإشْهادِ؛ بِمُقْتَضى الآيَةِ؛ وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّها مَقْصُورَةٌ في دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ في أحَدِ البَدَلَيْنِ؛ لا فِيهِما جَمِيعًا؛ لِأنَّهُ (تَعالى) قالَ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ ولَمْ يَقُلْ: بِدَيْنَيْنِ؛ فَإنَّما أثْبَتَ الأجَلَ في أحَدِ البَدَلَيْنِ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ وُجُودُ الأجَلِ في البَدَلَيْنِ جَمِيعًا.
وقَدْ «نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ»؛ وأمّا إذا كانا دَيْنَيْنِ بِالعَقْدِ فَهَذا جائِزٌ في السَّلَمِ؛ وفي الصَّرْفِ؛ إلّا أنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلى المَجْلِسِ؛ ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ السَّلَمُ مُرادًا بِالآيَةِ؛ لِأنَّ التَّأْجِيلَ في أحَدِ البَدَلَيْنِ؛ وهو السَّلَمُ.
وقَدْ أمَرَ اللَّهُ (تَعالى) بِالإشْهادِ عَلى عَقْدِ مُدايَنَةٍ مُوجِبٍ لِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ؛ وقَدْ رَوى قَتادَةُ عَنْ أبِي حَسّانَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "أشْهَدُ أنَّ السَّلَمَ المُؤَجَّلَ في كِتابِ اللَّهِ؛ وأنْزَلَ فِيهِ أطْوَلَ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ "؛ فَأخْبَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ السَّلَمَ المُؤَجَّلَ مِمّا انْطَوى تَحْتَ عُمُومِ الآيَةِ؛ وعَلى هَذا كُلُّ دَيْنٍ ثابِتٍ مُؤَجَّلٍ؛ فَهو مُرادٌ بِالآيَةِ؛ سَواءٌ كانَ مِن أبْدالِ المَنافِعِ؛ أوِ الأعْيانِ؛ نَحْوَ الأُجْرَةِ المُؤَجَّلَةِ في عُقُودِ الإجاراتِ؛ والمَهْرِ؛ إذا كانَ مُؤَجَّلًا؛ وكَذَلِكَ الخُلْعُ؛ والصُّلْحُ مِن دَمِ العَمْدِ؛ والكِتابَةُ المُؤَجَّلَةُ؛ لِأنَّ هَذِهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ ثابِتَةٌ بِعَقْدِ مُدايَنَةٍ؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الآيَةَ إنَّما اقْتَضَتْ هَذا الحُكْمَ في أحَدِ البَدَلَيْنِ إذا كانَ مُؤَجَّلًا؛ لا فِيهِما؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ﴾؛ فَكُلُّ عَقْدٍ انْتَظَمَتْهُ الآيَةُ فَهو العَقْدُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ؛ ولَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ بَدَلًا مِن مَنافِعَ؛ أوْ أعْيانٍ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ المَندُوبِ إلَيْهِ مِنَ الكِتابِ؛ والإشْهادِ مُرادًا بِها هَذِهِ العُقُودُ كُلُّها؛ وأنْ يَكُونَ ما ذُكِرَ مِن عَدَدِ الشُّهُودِ؛ وأوْصافِ الشَّهادَةِ؛ مُعْتَبَرًا في سائِرِها؛ إذْ لَيْسَ في اللَّفْظِ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوازَ شَهادَةِ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ في النِّكاحِ؛ إذا كانَ المَهْرُ دَيْنًا مُؤَجَّلًا؛ وفي الخُلْعِ؛ والإجارَةِ؛ والصُّلْحِ مِن دَمِ العَمْدِ؛ وسائِرِ ما كانَ هَذا وصْفُهُ؛ وغَيْرُ جائِزٍ الِاقْتِصارُ بِهَذِهِ الأحْكامِ عَلى بَعْضِ الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ دُونَ بَعْضٍ؛ مَعَ شُمُولِ الآيَةِ لِجَمِيعِها.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ يَعْنِي مَعْلُومًا؛ وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"مَن أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ؛ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ؛ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ"».
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾؛ فِيهِ أمْرٌ لِمَن تَوَلّى كِتابَةَ الوَثائِقِ بَيْنَ النّاسِ أنْ يَكْتُبَها بِالعَدْلِ بَيْنَهُمْ؛ والكِتابُ - وإنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا - فَإنَّ سَبِيلَهُ إذا كُتِبَ أنْ يُكْتَبَ عَلى حَدِّ العَدْلِ؛ والِاحْتِياطِ؛ والتَّوَثُّقِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مِن أجْلِها يُكْتَبُ الكِتابُ؛ بِأنْ يَكُونَ شَرْطًا صَحِيحًا جائِزًا؛ عَلى ما تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ (p-٢٠٩)وتَقْتَضِيهِ؛ وعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنَ العِباراتِ المُحْتَمِلَةِ لِلْمَعانِي؛ وتَجَنُّبُ الألْفاظِ المُشْتَرَكَةِ؛ وتَحَرِّي تَحْقِيقِ المَعانِي بِألْفاظٍ مُبَيِّنَةٍ؛ خارِجَةٍ عَنْ حَدِّ الشَّرِكَةِ؛ والِاحْتِمالِ؛ والتَّحَرُّزِ مِن خِلافِ الفُقَهاءِ؛ ما أمْكَنَ؛ حَتّى يَحْصُلَ لِلْمُتَدايِنَيْنِ مَعْنى الوَثِيقَةِ؛ والِاحْتِياطُ؛ المَأْمُورُ بِهِما في الآيَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ (تَعالى) - عُقَيْبَ الأمْرِ بِالكِتابِ -: ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾؛ يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ - ما بَيَّنَهُ مِن أحْكامِ العُقُودِ الصَّحِيحَةِ؛ والمُدايَناتِ الثّابِتَةِ الجائِزَةِ؛ لِكَيْ يَحْصُلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَدايِنَيْنِ ما قَصَدَ مِن تَصْحِيحِ عَقْدِ المُدايَنَةِ؛ ولِأنَّ الكاتِبَ بِذَلِكَ إذا كانَ جاهِلًا بِالحُكْمِ لا يَأْمَنُ أنْ يَكْتُبَ ما يُفْسِدَ عَلَيْهِما ما قَصَداهُ؛ ويُبْطِلَ ما تَعاقَداهُ؛ والكِتابُ - وإنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا؛ وكانَ نَدْبًا وإرْشادًا إلى الأحْوَطِ - فَإنَّهُ مَتى كُتِبَ فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ عَلى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ كَما قالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦]؛ فانْتَظَمَ ذَلِكَ صَلاةَ الفَرْضِ؛ والنَّفْلِ جَمِيعًا؛ ومَعْلُومٌ أنَّ النَّفْلَ غَيْرُ واجِبٍ عَلَيْهِ؛ ولَكِنَّهُ مَتى قَصَدَ فِعْلَها وهو مُحْدِثٌ فَعَلَيْهِ ألّا يَفْعَلَها إلّا بِشَرائِطِها؛ مِنَ الطَّهارَةِ؛ وسائِرِ أرْكانِها؛ وكَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"مَن أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ؛ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ؛ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ"؛» والسَّلَمُ لَيْسَ بِواجِبٍ؛ ولَكِنَّهُ مَتى أرادَ أنْ يُسْلِمَ فَعَلَيْهِ اسْتِيفاءُ الشَّرائِطِ؛ فَكَذَلِكَ كِتابُ الدَّيْنِ؛ والإشْهادُ؛ لَيْسا بِواجِبَيْنِ؛ ولَكِنَّهُ مَتى كُتِبَ فَعَلى الكاتِبِ أنْ يَكْتُبَهُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ (تَعالى) بِهِ؛ وأنْ يَسْتَوْفِيَ فِيهِ شُرُوطَ صِحَّتِهِ؛ لِيَحْصُلَ المَعْنى المَقْصُودُ بِكِتابَتِهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في لُزُومِ الكاتِبِ الكِتابَةَ؛ فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ قالَ: هو واجِبٌ عَلى الكِفايَةِ؛ كالجِهادِ؛ ونَحْوِهِ؛ وقالَ السُّدِّيُّ: واجِبٌ عَلى الكاتِبِ في حالِ فَراغِهِ؛ وقالَ عَطاءٌ؛ ومُجاهِدٌ: هو واجِبٌ؛ وقالَ الضَّحّاكُ: نَسَخَتْها ﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ الكِتابَ غَيْرُ واجِبٍ في الأصْلِ عَلى المُتَدايِنَيْنِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ واجِبًا عَلى الأجْنَبِيِّ الَّذِي لا حُكْمَ لَهُ في هَذا العَقْدِ؛ ولا سَبَبَ لَهُ فِيهِ؟ وعَسى أنْ يَكُونَ مَن رَآهُ واجِبًا ذَهَبَ إلى أنَّ الأصْلَ واجِبٌ؛ فَكَذَلِكَ عَلى مَن يُحْسِنُ الكِتابَةَ أنْ يَقُومَ بِها لِمَن يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ والأصْلُ - وإنْ لَمْ يَكُنْ واجِبًا عِنْدَنا - فَإنَّ المُتَدايِنَيْنِ مَتى قَصَدا إلى ما نَدَبَهُما إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيثاقِ بِالكِتابِ؛ ولَمْ يَكُونا عالِمَيْنِ بِذَلِكَ؛ فَإنَّهُ فَرْضٌ عَلى مَن عَلِمَ ذَلِكَ أنْ يُبَيِّنَهُ لَهُما؛ ولَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَكْتُبَهُ ولَكِنْ يُبَيِّنُهُ حَتّى يَكْتُباهُ؛ أوْ يَكْتُبُهُ لَهُما أجِيرٌ؛ أوْ مُتَبَرِّعٌ؛ بِإمْلاءِ مَن يَعْلَمُهُ؛ كَما لَوْ أرادَ إنْسانٌ أنْ يَصُومَ صَوْمًا تَطَوُّعًا؛ أوْ يُصَلِّيَ صَلاةَ تَطَوُّعٍ؛ ولَمْ يَعْرِفْ أحْكامَهُما؛ كانَ عَلى العالِمِ بِذَلِكَ إذا سُئِلَ أنْ يُبَيِّنَهُ لِسائِلِهِ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّلاةُ؛ والصَّوْمُ فَرْضًا؛ لِأنَّ عَلى العُلَماءِ بَيانَ النَّوافِلِ (p-٢١٠)والمَندُوبِ إلَيْهِ إذا سُئِلُوا عَنْها؛ كَما أنَّ عَلَيْهِمْ بَيانَ الفُرُوضِ؛ وقَدْ كانَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ بَيانُ النَّوافِلِ والمَندُوبِ إلَيْهِ؛ كَما أنَّ عَلَيْهِ بَيانَ الفُرُوضِ.
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]؛ وفِيما أنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى) عَلى نَبِيِّهِ أحْكامُ النَّوافِلِ؛ فَكانَ عَلَيْهِ بَيانُها لِأُمَّتِهِ؛ كَبَيانِ الفُرُوضِ؛ وقَدْ نَقَلَتِ الأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّها ﷺ بَيانَ المَندُوبِ إلَيْهِ؛ كَما نَقَلَتْ عَنْهُ بَيانَ الفُرُوضِ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَعَلى مَن عَلِمَ عِلْمًا مِن فَرْضٍ؛ أوْ نَفْلٍ؛ ثُمَّ سُئِلَ عَنْهُ؛ أنْ يُبَيِّنَهُ لِسائِلِهِ؛ وقالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٨٧]؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"مَن سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِن نارٍ"؛» فَعَلى هَذا الوَجْهِ يَلْزَمُ مَن عَرَفَ الوَثائِقَ والشُّرُوطَ بَيانُها لِسائِلِها؛ عَلى حَسَبِ ما يَلْزَمُهُ بَيانُ سائِرِ عُلُومِ الدِّينِ والشَّرِيعَةِ؛ وهَذا فَرْضٌ لازِمٌ لِلنّاسِ عَلى الكِفايَةِ؛ إذا قامَ بِهِ بَعْضُهم سَقَطَ عَنِ الباقِينَ؛ فَأمّا أنْ يُلْزِمَهُ أنْ يَتَوَلّى الكِتابَةَ بِيَدِهِ فَهَذا ما لا أعْلَمُ أحَدًا يَقُولُهُ؛ اللَّهُمَّ إلّا ألّا يُوجَدَ مَن يَكْتُبُهُ؛ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أنْ يَقُولَ قائِلٌ: عَلَيْهِ كَتْبُهُ؛ ولَوْ كانَ كَتْبُ الكِتابِ فَرْضًا عَلى الكاتِبِ لَما كانَ الِاسْتِئْجارُ يَجُوزُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الِاسْتِئْجارَ عَلى فِعْلِ الفُرُوضِ باطِلٌ؛ لا يَصِحُّ؛ فَلَمّا لَمْ يَخْتَلِفِ الفُقَهاءُ في جَوازِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلى كَتْبِ كِتابِ الوَثِيقَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ كَتْبَهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لا عَلى الكِفايَةِ؛ ولا عَلى التَّعْيِينِ.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾؛ نَهْيٌ لِلْكاتِبِ أنْ يَكْتُبَ عَلى خِلافِ العَدْلِ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ (تَعالى) بِهِ؛ وهَذا النَّهْيُ عَلى الوُجُوبِ؛ إذا كانَ المُرادُ بِهِ كَتْبَهُ عَلى خِلافِ ما تُوجِبُهُ أحْكامُ الشَّرْعِ؛ كَما تَقُولُ: لا تُصَلِّ النَّفْلَ عَلى غَيْرِ طَهارَةٍ؛ ولا غَيْرَ مَسْتُورِ العَوْرَةِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ أمْرًا بِالصَّلاةِ النّافِلَةِ؛ ولا نَهْيًا عَنْ فِعْلِها مُطْلَقًا؛ وإنَّما هو نَهْيٌ عَنْ فِعْلِها عَلى غَيْرِ شَرائِطِها المَشْرُوطَةِ لَها؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾؛ هو نَهْيٌ عَنْ كَتْبِهِ عَلى خِلافِ الجائِزِ مِنهُ؛ إذْ لَيْسَتِ الكِتابَةُ في الأصْلِ واجِبَةً عَلَيْهِ؛ ألا تَرى أنَّ قَوْلَ القائِلِ: "لا تَأْبَ أنْ تُصَلِّيَ النّافِلَةَ بِطَهارَةٍ؛ وسَتْرِ العَوْرَةِ"؛ لَيْسَ فِيهِ إيجابٌ مِنهُ لِلنّافِلَةِ؟ فَكَذَلِكَ ما وصَفْنا.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ فِيهِ إثْباتُ إقْرارِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ؛ وإجازَةُ ما أقَرَّ بِهِ؛ وإلْزامُهُ إيّاهُ؛ لِأنَّهُ لَوْلا جَوازُ إقْرارِهِ إذا أقَرَّ؛ لَمْ يَكُنْ إمْلاءُ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ بِأوْلى مِن إمْلاءِ غَيْرِهِ مِنَ النّاسِ؛ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ جَوازَ إقْرارِ كُلِّ مُقِرٍّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ؛ وقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ (p-٢١١)رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن أقَرَّ بِشَيْءٍ لِغَيْرِهِ فالقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ؛ لِأنَّ البَخْسَ هو النَّقْصُ؛ فَلَمّا وعَظَهُ اللَّهُ (تَعالى) في تَرْكِ البَخْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إذا بَخَسَ كانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا؛ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨]؛ لَمّا وعَظَهُنَّ في الكِتْمانِ دَلَّ عَلى أنَّ المَرْجِعَ فِيهِ إلى قَوْلِهِنَّ؛ وكَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ قَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم مَتى كَتَمُوها كانَ القَوْلُ قَوْلَهم فِيها؛ وكَذَلِكَ وعْظُهُ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ في تَرْكِ البَخْسِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المَرْجِعَ إلى قَوْلِهِ فِيما عَلَيْهِ؛ وقَدْ ورَدَ الأثَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ؛ وهو قَوْلُهُ: «"اَلْبَيِّنَةُ عَلى المُدَّعِي؛ واليَمِينُ عَلى المُدَّعى عَلَيْهِ"؛» فَجَعَلَ القَوْلَ قَوْلَ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ؛ دُونَ المُدَّعِي؛ وأوْجَبَ عَلَيْهِ اليَمِينَ؛ وهو مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ في إيجابِ الرُّجُوعِ إلى قَوْلِهِ.
واحْتَجَّ بَعْضُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُ المَطْلُوبِ في الأجَلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) رَدَّ الإمْلاءَ إلَيْهِ؛ ووَعَظَهُ في البَخْسِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ في صِدْقِهِ في مَبْلَغِ المالِ؛ فَيُقالُ: إنَّما وعَظَهُ في البَخْسِ؛ وهو النُّقْصانُ؛ ويَسْتَحِيلُ وعْظُ المَطْلُوبِ في بَخْسِ الأجَلِ ونُقْصانِهِ؛ وهو لَوْ أسْقَطَ الأجَلَ كُلَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَبَطَلَ؛ كَما لا يُوعَظُ الطّالِبُ في نُقْصانِ مالِهِ؛ إذْ لَوْ أبْرَأهُ مِن جَمِيعِهِ لَصَحَّتْ بَراءَتُهُ؛ فَلَمّا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ المُرادَ البَخْسُ في مِقْدارِ الدُّيُونِ؛ لا في الأجَلِ؛ فَلَيْسَ إذًا في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُ المَطْلُوبِ في الأجَلِ؛ فَإنْ قِيلَ: إثْباتُ الأجَلِ في المالِ يُوجِبُ نُقْصانَهُ؛ فَلَمّا كانَ القَوْلُ قَوْلَ المَطْلُوبِ في نُقْصانِ المالِ ومِقْدارِهِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ قَوْلَهُ في الأجَلِ؛ لِما فِيهِ مِن بَخْسِ المالِ ونُقْصانِهِ؛ إذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الآيَةُ تَصْدِيقَهُ في بَخْسِهِ؛ والبَخْسُ تارَةً يَكُونُ بِنُقْصانِ المِقْدارِ؛ وتارَةً بِنُقْصانِ الصِّفَةِ مِن أجْلِ رَداءَةٍ في المُقَرِّ بِهِ؛ قِيلَ لَهُ: لَمّا قالَ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ اِقْتَضى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ بَخْسِ الحَقِّ نَفْسِهِ؛ فَكانَ تَقْدِيرُهُ: "ولا يَبْخَسْ مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا"؛ ومُدَّعِي الأجَلِ غَيْرُ باخِسٍ مِنَ الدَّيْنِ؛ ولا ناقِصٍ لَهُ؛ إذْ كانَ بَخْسُ الدَّيْنِ هو نُقْصانَ مِقْدارِهِ؛ ولَيْسَ الأجَلُ هو الدَّيْنَ؛ ولا بَعْضَهُ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى تَصْدِيقِهِ عَلى دَعْوى الأجَلِ؛ ويَدُلُّكَ عَلى أنَّ الأجَلَ لَيْسَ مِنَ الدَّيْنِ أنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَحِلُّ ويَبْطُلُ الأجَلُ؛ ويَكُونُ هو ذَلِكَ الدَّيْنَ؛ وقَدْ يَسْقُطُ الأجَلُ ويُعَجَّلُ الدَّيْنُ؛ فَيَكُونُ الَّذِي عُجِّلَ هو الدَّيْنُ الَّذِي كانَ مُؤَجَّلًا؛ وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ ثُمَّ قالَ (تَعالى): ﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ يَعْنِي مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا؛ لَمْ يَتَناوَلْ ذَلِكَ (p-٢١٢)الأجَلَ؛ ولَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الأجَلَ إنَّما يُوجِبُ نَقْصًا فِيهِ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ؛ لِأنَّ المَقْبُوضَ بَعْدَ الأجَلِ؛ وقَبْلَهُ؛ إذا كانَ عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لا تَأْثِيرَ لَهُ في نُقْصانِ المَقْبُوضِ؛ وإنَّما يُقالُ: إنَّهُ نَقْصٌ فِيهِ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ؛ عَلى المَجازِ؛ لا عَلى الحَقِيقَةِ؛ وقَدْ تَناوَلَتِ الآيَةُ البَخْسَ الَّذِي هو حَقِيقَةٌ؛ وهو نُقْصانُ المِقْدارِ؛ ونُقْصانُهُ في نَفْسِهِ مِن رَداءَةٍ؛ أوْ غَبْنٍ؛ أوْ غَيْرِهِما؛ نَحْوَ إقْرارِهِ بِالدَّراهِمِ السُّودِ؛ والحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَخْسٌ مِن جِهَةِ الحَقِيقَةِ؛ لِاخْتِلافِ صِفاتِ المَقْبُوضِ عَنْهُ؛ فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَتَناوَلَ بَعْضَ الأجَلِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فِيهِ؛ بَلْ هو مَجازٌ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ مَتى أُرِيدَ بِهِ الحَقِيقَةُ انْتَفى دُخُولُ المَجازِ فِيهِ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُ الطّالِبِ في الأجَلِ؛ لِأنَّهُ ابْتَدَأ الخِطابَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ اِقْتَضى ذَلِكَ الإشْهادَ عَلى المُتَدايِنَيْنِ جَمِيعًا؛ إذا كانَ المالُ مُؤَجَّلًا؛ فَلَوْ كانَ القَوْلُ قَوْلَ المَطْلُوبِ في الأجَلِ لَما احْتِيجَ إلى الإشْهادِ بِهِ عَلى الطّالِبِ؛ وفي وُجُوبِ الإشْهادِ عَلى الطّالِبِ بِالتَّأْجِيلِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ؛ وأنَّ المَطْلُوبَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ؛ إذْ لَوْ كانَ مُصَدَّقًا فِيهِ لَما بَقِيَ لِلْإشْهادِ عَلى الطّالِبِ مَوْضِعٌ؛ ولا مَعْنًى؛ فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّما حُكْمُ الإشْهادِ مَقْصُورٌ عَلى المَطْلُوبِ دُونَ الطّالِبِ؛ قِيلَ لَهُ: هَذا خِلافُ مُقْتَضى الآيَةِ؛ لِأنَّهُ قالَ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ فَخاطَبَ المُتَدايِنَيْنِ جَمِيعًا؛ وأمَرَهُما بِالِاسْتِشْهادِ؛ فَلَوْ جازَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ المَطْلُوبَ مَخْصُوصٌ بِهِ؛ لَجازَ لِآخَرَ أنْ يَقُولَ: هو مَقْصُورٌ عَلى الطّالِبِ؛ دُونَ المَطْلُوبِ؛ فَلَمّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وجَبَ بِظاهِرِ الآيَةِ أنْ يَكُونَ الإشْهادُ عَلَيْهِما جَمِيعًا؛ وأنْ يَكُونا مَندُوبَيْنِ إلَيْهِ؛ وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْإشْهادِ عَلى الطّالِبِ بِالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ حُكْمٌ؛ لِأنَّهُ مَقْبُولُ القَوْلِ في نَفْيِهِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَرْجِعَ إلى قَوْلِهِ في الأجَلِ؛ وإنَّما جَعَلَ اللَّهُ (تَعالى) الإمْلاءَ إلى المَطْلُوبِ إذا أحْسَنَ ذَلِكَ؛ وإنْ كانَ لَوْ أمْلى غَيْرَهُ؛ وأقَرَّ المَطْلُوبُ بِهِ جازَ؛ لِأنَّهُ أثْبَتُ في الإقْرارِ؛ وأذْكَرُ لِلشُّهُودِ؛ مَتى أرادُوا أنْ يَتَذَكَّرُوا الشَّهادَةَ؛ وكانَ الإمْلاءُ سَبَبًا لِلِاسْتِذْكارِ؛ كَما أمَرَ (تَعالى) بِاسْتِشْهادِ امْرَأتَيْنِ لِتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى؛ واللَّهُ (تَعالى) أعْلَمُ.
* * *
بابُ الحَجْرِ عَلى السَّفِيهِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو (p-٢١٣)فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾؛ قَدِ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِن مُوجِبِي الحَجْرِ عَلى السَّفِيهِ؛ ومِن مُبْطِلِيهِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ فاحْتَجَّ مُثْبِتُو الحَجْرِ لِلسَّفِيهِ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾؛ فَأجازَ لِوَلِيِّ السَّفِيهِ الإمْلاءَ عَنْهُ؛ واحْتَجَّ مُبْطِلُو الحَجْرِ بِما في مَضْمُونِ الآيَةِ مِن جَوازِ مُدايَنَةِ السَّفِيهِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا﴾؛ فَأجازَ مُدايَنَةَ السَّفِيهِ؛ وحَكَمَ بِصِحَّةِ إقْرارِهِ في مُدايَنَتِهِ؛ وإنَّما خالَفَ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ في إمْلاءِ الكِتابِ؛ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنِ اسْتِيفاءِ ما لَهُ؛ وما عَلَيْهِ؛ مِمّا يَقْتَضِيهِ شَرْطُ الوَثِيقَةِ؛ وقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾؛ إنَّما المُرادُ بِهِ ولِيُّ الدَّيْنِ؛ وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ؛ قالُوا: وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ ولِيَّ السَّفِيهِ عَلى مَعْنى الحَجْرِ عَلَيْهِ؛ وإقْرارِهِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ إقْرارَ ولِيِّ المَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ جائِزٍ عَلَيْهِ عِنْدَ أحَدٍ؛ فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ ولِيُّ الدَّيْنِ؛ فَأمَرَ بِإمْلاءِ الكِتابِ حَتّى يُقِرَّ بِهِ المَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: اِخْتَلَفَ السَّلَفُ في السَّفِيهِ المُرادِ بِالآيَةِ؛ فَقالَ قائِلُونَ مِنهُمْ: هو الصَّبِيُّ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ قالَ: اَلصَّبِيُّ؛ والمَرْأةُ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: اَلنِّساءُ؛ وقالَ الشَّعْبِيُّ: لا تُعْطى الجارِيَةُ مالَها؛ وإنْ قَرَأتِ القُرْآنَ والتَّوْراةَ؛ وهَذا مَحْمُولٌ عَلى الَّتِي لا تَقُومُ بِحِفْظِ المالِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّها إذا كانَتْ ضابِطَةً لَأمْرِها؛ حافِظَةً لِمالِها؛ دُفِعَ إلَيْها؛ إذا كانَتْ بالِغًا؛ قَدْ دَخَلَ بِها زَوْجُها؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: لا تَجُوزُ لِامْرَأةٍ مُمَلَّكَةٍ عَطِيَّةٌ؛ حَتّى تُحِيلَ في بَيْتِ زَوْجِها حَوْلًا؛ أوْ تَلِدَ بَطْنًا؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ مِثْلُهُ؛ وقالَ أبُو الشَّعْثاءِ: لا تَجُوزُ لِامْرَأةٍ عَطِيَّةٌ حَتّى تَلِدَ؛ أوْ يُؤْنَسَ رُشْدُها؛ وعَنْ إبْراهِيمَ مِثْلُهُ؛ وهَذا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُها؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ هَذا لَيْسَ بِحَدٍّ في اسْتِحْقاقِ دَفْعِ المالِ إلَيْها؛ لِأنَّها لَوْ أحالَتْ حَوْلًا في بَيْتِ زَوْجِها؛ ووَلَدَتْ بُطُونًا؛ وهي غَيْرُ مُؤْنِسَةٍ لِلرُّشْدِ؛ ولا ضابِطَةٍ لِأمْرِها؛ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْها مالُها؛ فَعَلِمْنا أنَّهم إنَّما أرادُوا ذَلِكَ فِيمَن لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُها.
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ (تَعالى) السَّفَهَ في مَواضِعَ؛ مِنها ما أرادَ بِهِ السَّفَهَ في الدِّينِ؛ وهو الجَهْلُ بِهِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣]؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٢]؛ فَهَذا هو السَّفَهُ في الدِّينِ؛ وهو الجَهْلُ؛ والخِفَّةُ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ فَمِنَ النّاسِ مَن تَأوَّلَهُ عَلى أمْوالِهِمْ؛ كَما قالَ (تَعالى): ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]؛ يَعْنِي: "لا يَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا"؛ وقالَ (تَعالى): ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]؛ والمَعْنى: (p-٢١٤)"لِيَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا"؛ وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ عُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وظاهِرِهِ؛ بِغَيْرِ دَلالَةٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ يَشْتَمِلُ عَلى فَرِيقَيْنِ مِنَ النّاسِ؛ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُمَيَّزٌ في اللَّفْظِ مِنَ الآخَرِ؛ وأحَدُ الفَرِيقَيْنِ هُمُ المُخاطَبُونَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ والفَرِيقُ الآخَرُ السُّفَهاءُ المَذْكُورُونَ مَعَهُمْ؛ فَلَمّا قالَ (تَعالى): ﴿أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]؛ وجَبَ أنْ يَنْصَرِفَ ذَلِكَ إلى أمْوالِ المُخاطَبِينَ؛ دُونَ السُّفَهاءِ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ السُّفَهاءَ؛ لِأنَّ السُّفَهاءَ لَمْ يَتَوَجَّهِ الخِطابُ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ؛ وإنَّما تَوَجَّهَ إلى العُقَلاءِ المُخاطَبِينَ؛ ولَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]؛ لِأنَّ القاتِلِينَ والمَقْتُولِينَ قَدِ انْتَظَمَهم خِطابٌ واحِدٌ؛ لَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ مِنَ الآخَرِ في حُكْمِ المُخاطَبَةِ؛ فَلِذَلِكَ جازَ أنْ يَكُونَ المُرادُ: "فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا"؛ وقَدْ قِيلَ: إنَّ أصْلَ السَّفَهِ الخِفَّةُ؛ ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎مَشَيْنَ كَما اهْتَزَّتْ رِماحٌ تَسَفَّهَتْ ∗∗∗ أعالِيها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِمِ
يَعْنِي: اِسْتَخَفَّتْها الرِّياحُ؛ وقالَ آخَرُ:
؎نَخافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلامُنا ∗∗∗ فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الخامِلِ
أيْ: تَخِفَّ أحْلامُنا؛ ويُسَمّى الجاهِلُ سَفِيهًا؛ لِأنَّهُ خَفِيفُ العَقْلِ؛ ناقِصُهُ؛ فَمَعْنى الجَهْلِ شامِلٌ لِجَمِيعِ مَن أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفِيهِ؛ والسَّفِيهُ في أمْرِ الدِّينِ هو الجاهِلُ فِيهِ؛ والسَّفِيهُ في المالِ هو الجاهِلُ لِحِفْظِهِ؛ وتَدْبِيرِهِ؛ والنِّساءُ والصِّبْيانُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ السُّفَهاءِ؛ لِجَهْلِهِمْ؛ ونُقْصانِ تَمْيِيزِهِمْ؛ والسَّفِيهُ في رَأْيِهِ الجاهِلُ فِيهِ؛ والبَذِيُّ اللِّسانِ يُسَمّى سَفِيهًا؛ لِأنَّهُ لا يَكادُ يُنْفِقُ إلّا في جُهّالِ النّاسِ؛ ومَن كانَ خَفِيفَ العَقْلِ مِنهُمْ؛ وإذا كانَ اسْمُ السَّفِيهِ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الوُجُوهَ؛ رَجَعْنا إلى مُقْتَضى لَفْظِ الآيَةِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا﴾؛ فاحْتَمَلَ أنْ يُرِيدَ بِهِ الجَهْلَ بِإمْلاءِ الشَّرْطِ؛ وإنْ كانَ عاقِلًا مُمَيِّزًا؛ غَيْرَ مُبَذِّرٍ؛ ولا مُفْسِدٍ؛ وأجازَ لِوَلِيِّ الحَقِّ أنْ يُمْلِيَهُ؛ حَتّى يُقِرَّ بِهِ السَّفِيهُ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ؛ ويَكُونُ ذَلِكَ أوْلى بِمَعْنى الآيَةِ؛ لِأنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ هو المَذْكُورُ في أوَّلِ الآيَةِ بِالمُدايَنَةِ؛ ولَوْ كانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَما جازَتْ مُدايَنَتُهُ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ ولِيَّ المَحْجُورِ عَلَيْهِ لا يَجُوزُ إقْرارُهُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ؛ وإنَّما يَجُوزُ عَلى قَوْلِ مَن يَرى الحَجْرَ أنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِ القاضِي بِبَيْعٍ أوْ شِراءٍ؛ فَأمّا ولِيُّهُ فَلا نَعْلَمُ أحَدًا يُجِيزُ تَصَرُّفَ أوْلِيائِهِ عَلَيْهِ؛ ولا إقْرارَهُمْ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ ولِيَّ السَّفِيهِ؛ وإنَّما أرادَ ولِيَّ الدَّيْنِ؛ (p-٢١٥)وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ؛ وقالَهُ الفَرّاءُ أيْضًا؛ وأمّا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿أوْ ضَعِيفًا﴾؛ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: اَلضَّعِيفُ في عَقْلِهِ؛ أوِ الصَّبِيُّ المَأْذُونُ لَهُ؛ لِأنَّ ابْتِداءَ الآيَةِ قَدِ اقْتَضى أنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ جائِزَ المُدايَنَةِ والتَّصَرُّفِ؛ فَأجازَ تَصَرُّفَ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ؛ فَلَمّا بَلَغَ إلى حالِ إمْلاءِ الكِتابِ والإشْهادِ ذَكَرَ مَن لا يَكْمُلُ لِذَلِكَ؛ إمّا لِجَهْلٍ بِالشُّرُوطِ؛ أوْ لِضَعْفِ عَقْلٍ؛ لا يُحْسِنُ مَعَهُ الإمْلاءَ؛ وإنْ لَمْ يُوجِبْ نُقْصانُ عَقْلِهِ حَجْرًا عَلَيْهِ؛ وإمّا لِصِغَرٍ؛ أوْ لِخَرَفٍ؛ وكِبَرِ سِنٍّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿أوْ ضَعِيفًا﴾؛ مُحْتَمِلٌ لِلْأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ ويَنْتَظِمُهُما؛ وذَكَرَ مَعَهُما مَن لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ؛ إمّا لِمَرَضٍ؛ أوْ كِبَرِ سِنٍّ؛ وانْفَلَتَ لِسانُهُ عَنِ الإمْلاءِ؛ أوْ لِخَرَسٍ؛ ذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ؛ وجائِزٌ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الوُجُوهُ مُرادَةً لِلَّهِ (تَعالى)؛ لِاحْتِمالِ اللَّفْظِ لَها؛ ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنها دَلالَةٌ عَلى أنَّ السَّفِيهَ يَسْتَحِقُّ الحَجْرَ؛ وأيْضًا فَلَوْ كانَ بَعْضُ مَن يَلْحَقُهُ اسْمُ السَّفِيهِ يَسْتَحِقُّ الحَجْرَ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ الحَجْرِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ السَّفِيهَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ؛ يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَعانٍ مُخْتَلِفَةٌ؛ مِنها ما ذَكَرْنا مِنَ السَّفَهِ في الدِّينِ؛ وذَلِكَ لا يَسْتَحِقُّ بِهِ الحَجْرَ؛ لِأنَّ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ سُفَهاءُ؛ وهم غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَجْرِ في أمْوالِهِمْ؛ ومِنها السَّفَهُ الَّذِي هو البَذاءُ؛ والتَّسَرُّعُ إلى سُوءِ اللَّفْظِ؛ وقَدْ يَكُونُ السَّفِيهُ بِهَذا الضَّرْبِ مِنَ السَّفَهِ مُصْلِحًا لِمالِهِ؛ غَيْرَ مُفْسِدِهِ؛ ولا مُبَذِّرِهِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠]؛ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُرِيدُ أهْلَكَها؛ وأوْبَقَها؛ ورُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنِّي أُحِبُّ أنْ يَكُونَ رَأْسِي دَهِينًا؛ وقَمِيصِي غَسِيلًا؛ وشِراكُ نَعْلِي جَدِيدًا؛ أفَمِنَ الكِبْرِ هو يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: "لا؛ إنَّما الكِبْرُ مَن سَفِهَ الحَقَّ؛ وغَمَطَ النّاسَ"؛» وهَذا يُشْبِهُ أنْ يُرِيدَ مَن جَهِلَ الحَقَّ؛ لِأنَّ الجَهْلَ يُسَمّى سَفَهًا؛ واللَّهُ (تَعالى) أعْلَمُ.
* * *
بابُ الشُّهُودِ
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ ابْتِداءُ الخِطابِ لِلْمُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ﴾؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما أنْ يَكُونَ مِن صِفَةِ الشُّهُودِ؛ لِأنَّ الخِطابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِفَةِ الإيمانِ؛ ولَمّا قالَ - في نَسَقِ الخِطابِ -: ﴿مِن رِجالِكُمْ﴾؛ (p-٢٢٢)كانَ كَقَوْلِهِ: "مِن رِجالِ المُؤْمِنِينَ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ كَوْنَ الإيمانِ شَرْطًا في الشَّهادَةِ عَلى المُسْلِمِينَ؛ والمَعْنى الآخَرُ الحُرِّيَّةُ؛ وذَلِكَ لِما في فَحْوى الخِطابِ مِنَ الدَّلالَةِ؛ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾؛ وذَلِكَ في الأحْرارِ؛ دُونَ العَبِيدِ؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ عُقُودَ المُدايَناتِ؛ وإذا أقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إقْرارُهُ إلّا بِإذْنِ مَوْلاهُ؛ والخِطابُ إنَّما تَوَجَّهَ إلى مَن يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلى الإطْلاقِ؛ مِن غَيْرِ إذْنِ الغَيْرِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مِن شَرْطِ هَذِهِ الشَّهادَةِ الحُرِّيَّةَ؛ والمَعْنى الآخَرُ مِن دَلالَةِ الخِطابِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مِن رِجالِكُمْ﴾؛ فَظاهِرُ هَذا اللَّفْظِ يَقْتَضِي الأحْرارَ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]؛ يَعْنِي الأحْرارَ؛ ألا تَرى أنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكُمْ﴾ [النور: ٣٢] ؟ فَلَمْ يَدْخُلِ العَبِيدُ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مِن شَرْطِ هَذِهِ الشَّهادَةِ الإسْلامَ؛ والحُرِّيَّةَ جَمِيعًا؛ وأنَّ شَهادَةَ العَبْدِ غَيْرُ جائِزَةٍ؛ لِأنَّ أوامِرَ اللَّهِ (تَعالى) عَلى الوُجُوبِ؛ وقَدْ أمَرَ بِاسْتِشْهادِ الأحْرارِ؛ فَلا يَجُوزُ غَيْرُهم.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ قالَ: اَلْأحْرارِ؛ فَإنْ قِيلَ: إنَّ ما ذَكَرْتَ إنَّما يَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ غَيْرُ داخِلٍ في الآيَةِ؛ ولا دَلالَةَ فِيها عَلى بُطْلانِ شَهادَتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: لَمّا ثَبَتَ بِفَحْوى خِطابِ الآيَةِ أنَّ المُرادَ بِها الأحْرارُ؛ كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ أمْرًا مُقْتَضِيًا لِلْإيجابِ؛ وكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: "واسْتَشْهِدُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الأحْرارِ"؛ فَغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ إسْقاطُ شَرْطِ الحُرِّيَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ إسْقاطُ العَدَدِ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ بُطْلانَ شَهادَةِ العَبِيدِ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في شَهادَةِ العَبِيدِ؛ فَرَوى قَتادَةُ عَنِ الحَسَنِ؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: "شَهادَةُ الصَّبِيِّ عَلى الصَّبِيِّ؛ والعَبْدِ عَلى العَبْدِ جائِزَةٌ"؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيما قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هَمّامٍ قالَ: سَمِعْتُ قَتادَةَ يُحَدِّثُ أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ يَسْتَثْبِتُ الصِّبْيانَ في الشَّهادَةِ؛ وهَذا يُوهِنُ الحَدِيثَ الأوَّلَ؛ ورَوى حَفْصُ بْنُ غِياثٍ؛ عَنِ المُخْتارِ بْنِ فُلْفُلٍ؛ عَنْ أنَسٍ قالَ: "ما أعْلَمُ أحَدًا رَدَّ شَهادَةَ العَبْدِ"؛ وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: "تَجُوزُ شَهادَةُ العَبْدِ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ"؛ وذَكَرَ أنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ كانَ يَراها جائِزَةً؛ يَأْثِرُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ؛ وكانَ ابْنُ أبِي لَيْلى لا يَقْبَلُ شَهادَةَ العَبِيدِ؛ وظَهَرَتِ الخَوارِجُ عَلى الكُوفَةِ (p-٢٢٣)وهُوَ يَتَوَلّى القَضاءَ بِها؛ فَأمَرُوهُ بِقَبُولِ شَهادَةِ العَبِيدِ؛ وبِأشْياءَ ذَكَرُوها لَهُ مِن آرائِهِمْ؛ كانَ عَلى خِلافِها؛ فَأجابَهم إلى امْتِثالِها؛ فَأقَرُّوهُ عَلى القَضاءِ؛ فَلَمّا كانَ في اللَّيْلِ رَكِبَ راحِلَتَهُ ولَحِقَ بِمَكَّةَ؛ ولَمّا جاءَتِ الدَّوْلَةُ الهاشِمِيَّةُ رَدُّوهُ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ القَضاءِ عَلى أهْلِ الكُوفَةِ؛ وقالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: قَضى عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ أنَّ شَهادَةَ المَمْلُوكِ جائِزَةٌ بَعْدَ العِتْقِ؛ إذا لَمْ تَكُنْ رُدَّتْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ ورَوى شُعْبَةُ عَنِ المُغِيرَةِ قالَ: كانَ إبْراهِيمُ يُجِيزُ شَهادَةَ المَمْلُوكِ في الشَّيْءِ التّافِهِ؛ ورَوى شُعْبَةُ أيْضًا عَنْ يُونُسَ عَنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّها لا تَجُوزُ؛ ورُوِيَ عَنْ حَفْصٍ؛ عَنْ حَجّاجٍ؛ عَنْ عَطاءٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ العَبْدِ؛ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ وابْنُ شُبْرُمَةَ - في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ -؛ ومالِكٌ؛ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ؛ والشّافِعِيُّ: "لا تُقْبَلُ شَهادَةُ العَبِيدِ في شَيْءٍ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَ الدَّلالَةِ مِنَ الآيَةِ عَلى أنَّ الشَّهادَةَ المَذْكُورَةَ فِيها مَخْصُوصَةٌ بِالأحْرارِ؛ دُونَ العَبِيدِ؛ ومِمّا يَدُلُّ مِنَ الآيَةِ عَلى نَفْيِ شَهادَةِ العَبْدِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾؛ فَقالَ بَعْضُهُمْ: إذا دُعِيَ فَلْيَشْهَدْ؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: إذا كانَ قَدْ أشْهَدَ؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: هو واجِبٌ في الحالَيْنِ؛ والعَبْدُ مَمْنُوعٌ مِنَ الإجابَةِ لِحَقِّ المَوْلى وخِدْمَتِهِ؛ وهو لا يَمْلِكُ الإجابَةَ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالشَّهادَةِ؛ ألا تَرى أنَّهُ لَيْسَ لَهُ أنْ يَشْتَغِلَ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلاهُ بِقِراءَةِ الكِتابِ؛ وإمْلائِهِ؛ والشَّهادَةِ؟ ولَمّا لَمْ يَدْخُلْ في خِطابِ الحَجِّ؛ والجُمُعَةِ؛ لِحَقِّ المَوْلى؛ فَكَذَلِكَ الشَّهادَةُ؛ إذْ كانَتِ الشَّهادَةُ غَيْرَ مُتَعَيَّنَةٍ عَلى الشُّهَداءِ؛ وإنَّما هي فَرْضُ كِفايَةٍ؛ وفَرْضُ الجُمُعَةِ والحَجِّ يَتَعَيَّنُ عَلى كُلِّ أحَدٍ في نَفْسِهِ؛ فَلَمّا لَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضَ الحَجِّ والجُمُعَةِ؛ مَعَ الإمْكانِ؛ لِحَقِّ المَوْلى؛ فَهو أوْلى ألّا يَكُونَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ لِحَقِّ المَوْلى؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢]؛ وقالَ (تَعالى) أيْضًا: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ﴾ [النساء: ١٣٥]؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٣٥]؛ فَجَعَلَ الحاكِمَ شاهِدًا لِلَّهِ؛ كَما جَعَلَ سائِرَ الشُّهُودِ شُهَداءَ لِلَّهِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢]؛ فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ العَبْدُ حاكِمًا؛ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ شاهِدًا؛ إذْ كانَ كُلُّ واحِدٍ؛ مِنَ الحاكِمِ؛ والشّاهِدِ؛ بِهِ يُنَفَّذُ الحُكْمُ ويَثْبُتُ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ شَهادَةِ العَبْدِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥]؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ القُدْرَةِ؛ لِأنَّ الرِّقَّ والحُرِّيَّةَ لا تَخْتَلِفُ بِهِما القُدْرَةُ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ مُرادَهُ نَفْيُ حُكْمِ أقْوالِهِ؛ وعُقُودِهِ؛ وتَصَرُّفِهِ؛ ومِلْكِهِ؛ ألا تَرى أنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِلْأصْنامِ الَّتِي كانَتْ تَعْبُدُها العَرَبُ؛ عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ (p-٢٢٤)فِي نَفْيِ المِلْكِ؛ والتَّصَرُّفِ؛ وبُطْلانِ أحْكامِ أقْوالِهِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ العِبادِ؟
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ الطَّلاقَ؛ ولَوْلا احْتِمالُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ لَما تَأوَّلَهُ ابْنُ عَبّاسٍ عَلَيْهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ شَهادَةَ العَبْدِ كَلا شَهادَةَ؛ كَعَقْدِهِ؛ وإقْرارِهِ؛ وسائِرِ تَصَرُّفاتِهِ الَّتِي هي مِن جِهَةِ القَوْلِ؛ فَلَمّا كانَتْ شَهادَةُ العَبْدِ قَوْلَهُ؛ وجَبَ أنْ يَنْتَفِيَ وُجُوبُ حُكْمِهِ بِظاهِرِ الآيَةِ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ شَهادَةِ العَبِيدِ أنَّ الشَّهادَةَ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ؛ كالجِهادِ؛ فَلَمّا لَمْ يَكُنِ العَبْدُ مِن أهْلِ الخِطابِ بِالجِهادِ؛ ولَوْ حَضَرَهُ؛ وقاتَلَ؛ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ؛ وجَبَ ألّا يَكُونَ مِن أهْلِ الخِطابِ بِالشَّهادَةِ؛ ومَتى شَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ؛ ولَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الشُّهُودِ؛ كَما لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ - وإنْ شَهِدَ القِتالَ - في اسْتِحْقاقِ السَّهْمِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ كانَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ لَوَجَبَ أنْ لَوْ شَهِدَ بِها فَحُكِمَ بِشَهادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْها أنَّهُ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ما شَهِدَ بِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِن حُكْمِ الشَّهادَةِ؛ كَما أنَّ نَفاذَ الحُكْمِ بِها إذا أنْفَذَها الحاكِمُ مِن حُكْمِها؛ فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَلْزَمَهُ الغُرْمُ بِالرُّجُوعِ عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِها؛ وأنَّ الحُكْمَ بِشَهادَتِهِ غَيْرُ جائِزٍ؛ وأيْضًا فَإنّا وجَدْنا مِيراثَ الأُنْثى عَلى النِّصْفِ مِن مِيراثِ الذَّكَرِ؛ وجُعِلَتْ شَهادَةُ امْرَأتَيْنِ بِشَهادَةِ رَجُلٍ؛ فَكانَتْ شَهادَةُ المَرْأةِ نِصْفَ شَهادَةِ الرَّجُلِ؛ ومِيراثُها نِصْفَ مِيراثِهِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ العَبْدُ - مِن حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ المِيراثِ رَأْسًا - ألّا يَكُونَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ لِأنّا وجَدْنا لِنُقْصانِ المِيراثِ تَأْثِيرًا في نُقْصانِ الشَّهادَةِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ نَفْيُ المِيراثِ مُوجِبًا لِنَفْيِ الشَّهادَةِ؛ وما رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ؛ في جَوازِ شَهادَةِ العَبْدِ؛ فَإنَّهُ لا يَصِحُّ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ؛ ولَوْ صَحَّ كانَ مَخْصُوصًا في العَبْدِ إذا شَهِدَ عَلى العَبْدِ.
ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّ العَبْدَ والحُرَّ سَواءٌ فِيما تَجُوزُ الشَّهادَةُ فِيهِ؛ فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ خَبَرُ العَبْدِ مَقْبُولًا إذا رَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ رِقُّهُ مانِعًا مِن قَبُولِ خَبَرِهِ؛ كَذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِن قَبُولِ شَهادَتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الخَبَرُ أصْلًا لِلشَّهادَةِ؛ فَلا يَجُوزُ اعْتِبارُها بِهِ؛ ألا تَرى أنَّ خَبَرَ الواحِدِ مَقْبُولٌ في الأحْكامِ؛ ولا تَجُوزُ شَهادَةُ الواحِدِ فِيها؛ وأنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ فُلانٌ عَنْ فُلانٍ؛ ولا يُقْبَلُ في الشَّهادَةِ؛ إلّا عَلى جِهَةِ الشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ؛ وأنَّهُ يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ إذا قالَ: "قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؟
ولا تَجُوزُ شَهادَةُ الشّاهِدِ إلّا أنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ؛ والسَّماعِ؛ والمُعايَنَةِ لِما يَشْهَدُ بِهِ؛ فَإنَّ الرَّجُلَ والمَرْأةَ مُتَساوِيانِ في الأخْبارِ؛ مُخْتَلِفانِ في الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ شَهادَةَ امْرَأتَيْنِ بِشَهادَةِ رَجُلٍ؛ وخَبَرَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ سَواءٌ؛ فَلا يَجُوزُ الِاسْتِدْلالُ بِقَبُولِ خَبَرِ العَبْدِ عَلى قَبُولِ شَهادَتِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: "لَوْ أنَّ (p-٢٢٥)حاكِمًا حَكَمَ بِشَهادَةِ عَبْدٍ؛ ثُمَّ رَفَعَ إلَيَّ؛ أبْطَلْتُ حُكْمَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا أجْمَعَ الفُقَهاءُ عَلى بُطْلانِهِ"؛ وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في شَهادَةِ الصِّبْيانِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ الصِّبْيانِ في شَيْءٍ"؛ وهو قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ؛ والثَّوْرِيِّ؛ والشّافِعِيِّ؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: "تَجُوزُ شَهادَةُ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ"؛ وقالَ مالِكٌ: "تَجُوزُ شَهادَةُ الصِّبْيانِ فِيما بَيْنَهم في الجِراحِ؛ ولا تَجُوزُ عَلى غَيْرِهِمْ؛ وإنَّما تَجُوزُ بَيْنَهم في الجِراحِ وحْدَها؛ قَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقُوا ويَجِيئُوا ويُعَلَّمُوا؛ فَإنِ افْتَرَقُوا فَلا شَهادَةَ لَهُمْ؛ إلّا أنْ يَكُونُوا قَدْ أشْهَدُوا عَلى شَهادَتِهِمْ قَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقُوا؛ وإنَّما تَجُوزُ شَهادَةُ الأحْرارِ الذُّكُورِ مِنهُمْ؛ ولا تَجُوزُ شَهادَةُ الجَوارِي مِنَ الصِّبْيانِ والأحْرارِ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وعُثْمانَ؛ وابْنِ الزُّبَيْرِ؛ إبْطالُ شَهادَةِ الصِّبْيانِ؛ ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ إبْطالُ شَهادَةِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ؛ وعَنْ عَطاءٍ مِثْلُهُ؛ ورَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ قالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: إنَّ إياسَ بْنَ مُعاوِيَةَ لا يَرى بِشَهادَةِ الصِّبْيانِ بَأْسًا؛ فَقالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ أنَّهُ كانَ عِنْدَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - إذْ جاءَهُ خَمْسَةُ غِلْمَةٍ؛ فَقالُوا: كُنّا سِتَّةً نَتَغاطُّ في الماءِ؛ فَغَرِقَ مِنّا غُلامٌ؛ فَشَهِدَ الثَّلاثَةُ عَلى الِاثْنَيْنِ أنَّهُما غَرَّقاهُ؛ وشَهِدَ الِاثْنانِ أنَّ الثَّلاثَةَ غَرَّقُوهُ؛ فَجَعَلَ عَلى الِاثْنَيْنِ ثَلاثَةَ أخْماسِ الدِّيَةِ؛ وعَلى الثَّلاثَةِ خُمُسَيِ الدِّيَةِ؛ إلّا أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَبِيبٍ غَيْرُ مَقْبُولِ الحَدِيثِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ مَعْنى الحَدِيثِ مُسْتَحِيلٌ؛ لا يَصْدُقُ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأنَّ أوْلِياءَ الغَرِيقِ إنِ ادَّعَوْا عَلى أحَدِ الفَرِيقَيْنِ فَقَدْ أكْذَبُوهم في شَهادَتِهِمْ عَلى غَيْرِهِمْ؛ وإنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فَهم يُكَذِّبُونَ الفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا؛ فَهَذا غَيْرُ ثابِتٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ -؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ شَهادَةِ الصِّبْيانِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ وذَلِكَ خِطابٌ لِلرِّجالِ البالِغِينَ؛ لِأنَّ الصِّبْيانَ لا يَمْلِكُونَ عُقُودَ المُدايَناتِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾؛ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الصَّبِيُّ؛ لِأنَّ إقْرارَهُ لا يَجُوزُ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾؛ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلصَّبِيِّ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ فَيَلْحَقُهُ الوَعِيدُ؛ ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ ولَيْسَ الصِّبْيانُ مِن رِجالِنا؛ ولَمّا كانَ ابْتِداءُ الخِطابِ بِذِكْرِ البالِغِينَ كانَ قَوْلُهُ: ﴿مِن رِجالِكُمْ﴾؛ عائِدًا عَلَيْهِمْ؛ ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ يَمْنَعُ أيْضًا جَوازَ شَهادَةِ الصَّبِيِّ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾؛ هو نَهْيٌ؛ ولِلصَّبِيِّ أنْ يَأْبى مِن إقامَةِ الشَّهادَةِ؛ ولَيْسَ لِلْمُدَّعِي إحْضارُهُ لَها؛ ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ (p-٢٢٦)غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلصِّغارِ؛ فَلا يَلْحَقُهُمُ المَأْثَمُ بِكِتْمانِها؛ ولَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَلْحَقَهُ ضَمانٌ بِالرُّجُوعِ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن صَحَّتْ شَهادَتُهُ لَزِمَهُ الضَّمانُ عِنْدَ الرُّجُوعِ؛ وأمّا إجازَةُ شَهادَتِهِمْ في الجِراحِ خاصَّةً؛ وقَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقُوا ويَجِيئُوا؛ فَإنَّهُ تَحَكُّمٌ بِلا دَلالَةٍ؛ وتَفْرِقَةٌ بَيْنَ مَن لا فارِقَ فِيهِ في أثَرٍ ولا نَظَرٍ؛ لِأنَّ في الأُصُولِ أنَّ كُلَّ مَن جازَتْ شَهادَتُهُ في الجِراحِ فَهي جائِزَةٌ في غَيْرِها؛ وأمّا اعْتِبارُ حالِهِمْ قَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقُوا ويَجِيئُوا فَإنَّهُ لا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ الشُّهُودُ هُمُ الجُناةَ؛ ويَكُونَ الَّذِي حَمَلَهم عَلى الشَّهادَةِ الخَوْفَ مِن أنْ يُؤْخَذُوا بِهِ؛ وهَذا مَعْلُومٌ مِن عادَةِ الصِّبْيانِ؛ إذا كانَ مِنهم جِنايَةٌ أحالَتْهُ بِها عَلى غَيْرِهِ؛ خَوْفًا مِن أنْ يُؤْخَذَ بِها؛ وأيْضًا لَمّا شَرَطَ اللَّهُ (تَعالى) في الشَّهادَةِ العَدالَةَ؛ وأوْعَدَ شاهِدَ الزُّورِ ما أوْعَدَهُ بِهِ؛ ومَنَعَ مِن قَبُولِ شَهادَةِ الفُسّاقِ؛ ومَن لا يَزَعُ عَنِ الكَذِبِ؛ احْتِياطًا لِأمْرِ الشَّهادَةِ؛ فَكَيْفَ تَجُوزُ شَهادَةُ مَن هو غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِكَذِبِهِ؛ ولَيْسَ لَهُ حاجِزٌ يَحْجِزُهُ عَنِ الكَذِبِ؛ ولا حَياءَ يَرْدَعُهُ؛ ولا مُرُوءَةَ تَمْنَعُهُ؟! وقَدْ يَضْرِبُ النّاسُ المَثَلَ بِكَذِبِ الصِّبْيانِ؛ فَيَقُولُونَ: "هَذا أكْذَبُ مِن صَبِيٍّ"؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ قَبُولُ شَهادَةِ مَن هَذِهِ حالُهُ؟ فَإنْ كانَ إنَّما اعْتُبِرَ حالُهم قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ؛ وقَبْلَ أنْ يُعَلِّمَهم غَيْرُهُمْ؛ لِأنَّهُ لا يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ دُونَ تَلْقِينِ غَيْرِهِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَما ظُنَّ؛ لِأنَّهم يَتَعَمَّدُونَ الكَذِبَ مِن غَيْرِ مانِعٍ يَمْنَعُهُمْ؛ وهم يَعْرِفُونَ الكَذِبَ كَما يَعْرِفُونَ الصِّدْقَ؛ إذا كانُوا قَدْ بَلَغُوا الحَدَّ الَّذِي يَقُومُونَ فِيهِ بِمَعْنى الشَّهادَةِ؛ والعِبارَةِ عَمّا شَهِدُوا؛ وقَدْ يَتَعَمَّدُونَ الكَذِبَ لِأسْبابٍ عارِضَةٍ؛ مِنها خَوْفُهم مِن أنْ تُنْسَبَ إلَيْهِمُ الجِنايَةُ؛ أوْ قَصْدًا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالمَكْرُوهِ؛ ومَعانٍ غَيْرُ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ مِن أحْوالِهِمْ؛ فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَحْكُمَ لَهم بِصِدْقِ الشَّهادَةِ قَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقُوا؛ كَما لا يَحْكُمُ لَهم بِذَلِكَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ؛ وعَلى أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ؛ وكانَ العِلْمُ حاصِلًا بِأنَّهم لا يَكْذِبُونَ؛ ولا يَتَعَمَّدُونَ لِشَهادَةِ الزُّورِ؛ فَيَنْبَغِي أنْ تُقْبَلَ شَهادَةُ الإناثِ؛ كَما تُقْبَلُ شَهادَةُ الذُّكُورِ؛ وتُقْبَلَ شَهادَةُ الواحِدِ؛ كَما تُقْبَلُ شَهادَةُ الجَماعَةِ؛ فَإذا اعْتُبِرَ العَدَدُ في ذَلِكَ؛ وما يَجِبُ اعْتِبارُهُ في الشَّهادَةِ مِنَ اخْتِصاصِها في الجِراحِ بِالذُّكُورِ دُونَ الإناثِ؛ فَواجِبٌ أنْ يُسْتَوْفى لَها سائِرُ شُرُوطِها؛ مِنَ البُلُوغِ؛ والعَدالَةِ؛ ومِن حَيْثُ أجازُوا شَهادَةَ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ؛ فَواجِبٌ إجازَتُها عَلى الرِّجالِ؛ لِأنَّ شَهادَةَ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنها عَلى الرِّجالِ؛ إذْ هم في حُكْمِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ قائِلِ هَذا القَوْلِ؛ واللَّهُ المُوَفِّقُ.
* * *
واخْتُلِفَ في شَهادَةِ الأعْمى؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ ومُحَمَّدٌ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ الأعْمى بِحالٍ"؛ ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ (p-٢٢٧)عَنْهُ -؛ ورَوى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ؛ عَنِ الحَسَنِ قالَ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ الأعْمى بِحالٍ"؛ ورُوِيَ عَنْ أشْعَثَ مِثْلُهُ؛ إلّا أنَّهُ قالَ: "إلّا أنْ تَكُونَ في شَيْءٍ رَآهُ قَبْلَ أنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ"؛ ورَوى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أبِي طُعْمَةَ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ الأعْمى "؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيما قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: حَدَّثَنِي حَجّاجُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حازِمٍ؛ عَنْ قَتادَةَ قالَ: شَهِدَ أعْمى عِنْدَ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ عَلى شَهادَةٍ؛ فَقالَ لَهُ إياسٌ: "لا نَرُدُّ شَهادَتَكَ إلّا ألّا تَكُونَ عَدْلًا؛ ولَكِنَّكَ أعْمى لا تُبْصِرُ"؛ قالَ: فَلَمْ يَقْبَلْها؛ وقالَ أبُو يُوسُفَ؛ وابْنُ أبِي لَيْلى؛ والشّافِعِيُّ: "إذا عَلِمَهُ قَبْلَ العَمى جازَتْ؛ وما عَلِمَهُ في حالِ العَمى لَمْ تَجُزْ"؛ وقالَ شُرَيْحٌ؛ والشَّعْبِيُّ: " شَهادَةُ الأعْمى جائِزَةٌ"؛ وقالَ مالِكٌ؛ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " شَهادَةُ الأعْمى جائِزَةٌ؛ وإنْ عَلِمَهُ في حالِ العَمى؛ إذا عَرَفَ الصَّوْتَ؛ في الطَّلاقِ؛ والإقْرارِ؛ ونَحْوِهِ؛ وإنْ شَهِدَ عَلى زِنًا؛ أوْ حَدِّ القَذْفِ؛ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ".
والدَّلِيلُ عَلى بُطْلانِ شَهادَةِ الأعْمى ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ البَلْخِيُّ الحافِظُ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ مُوسى؛ يُعْرَفُ بِـ "خَتٌّ"؛ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ بْنِ مَسْمُولٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ وهْرامَ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ طاوُسٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «سُئِلَ ﷺ عَنِ الشَّهادَةِ؛ فَقالَ: "تَرى هَذِهِ الشَّمْسَ.. فاشْهَدْ؛ وإلّا فَدَعْ"؛» فَجَعَلَ مِن شَرْطِ صِحَّةِ الشَّهادَةِ مُعايَنَةَ الشّاهِدِ لِما شَهِدَ بِهِ؛ والأعْمى لا يُعايِنُ المَشْهُودَ عَلَيْهِ؛ فَلا تَجُوزُ شَهادَتُهُ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الأعْمى يَشْهَدُ بِالِاسْتِدْلالِ؛ فَلا تَصِحُّ شَهادَتُهُ؛ ألا تَرى أنَّ الصَّوْتَ قَدْ يُشْبِهُ الصَّوْتَ؛ وأنَّ المُتَكَلِّمَ قَدْ يُحاكِي صَوْتَ غَيْرِهِ؛ ونَغْمَتَهُ؛ حَتّى لا يُغادِرُ مِنها شَيْئًا؛ ولا يَشُكُّ سامِعُهُ - إذا كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ حِجابٌ - أنَّهُ المَحْكِيُّ صَوْتُهُ؟ فَغَيْرُ جائِزٍ قَبُولُ شَهادَتِهِ عَلى الصَّوْتِ؛ إذْ لا يَرْجِعُ مِنهُ إلى يَقِينٍ؛ وإنَّما يُبْنى أمْرُهُ عَلى غالِبِ الظَّنِّ؛ وأيْضًا فَإنَّ الشّاهِدَ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ بِأنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ؛ ولَوْ عَبَّرَ بِلَفْظٍ غَيْرِ لَفْظِ الشَّهادَةِ؛ بِأنْ يَقُولَ: "أعْلَمُ"؛ أوْ: "أتَيَقَّنُ"؛ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ؛ فَعَلِمْتَ أنَّها حِينَ كانَتْ مَخْصُوصَةً بِهَذا اللَّفْظِ؛ وهَذا اللَّفْظُ يَقْتَضِي مُشاهَدَةَ المَشْهُودِ بِهِ؛ ومُعايَنَتَهُ؛ فَلَمْ تَجُزْ شَهادَةُ مَن خَرَجَ مِن هَذا الحَدِّ؛ وشَهِدَ عَنْ غَيْرِ مُعايَنَةٍ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: يَجُوزُ لِلْأعْمى إقْدامُهُ عَلى وطْءِ امْرَأتِهِ إذا عَرَفَ صَوْتَها؛ فَعَلِمْنا أنَّهُ يَقِينٌ لَيْسَ بِشَكٍّ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ الإقْدامُ عَلى الوَطْءِ بِالشَّكِّ؛ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ لَهُ الإقْدامُ عَلى وطْءِ امْرَأتِهِ بِغالِبِ الظَّنِّ؛ بِأنْ زُفَّتْ إلَيْهِ امْرَأةٌ؛ وقِيلَ لَهُ: هَذِهِ امْرَأتُكَ؛ وهو لا يَعْرِفُها؛ يَحِلُّ لَهُ وطْؤُها؛ (p-٢٢٨)وكَذَلِكَ جائِزٌ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ (جارِيَةٍ) بِقَوْلِ الرَّسُولِ؛ ويَجُوزُ لَهُ الإقْدامُ عَلى وطْئِها؛ ولَوْلا أخْبَرَهُ مُخْبِرٌ عَنْ زَيْدٍ بِإقْرارٍ؛ أوْ بَيْعٍ؛ أوْ قَذْفٍ؛ لَما جازَ لَهُ إقامَةُ الشَّهادَةِ عَلى المُخْبَرِ عَنْهُ؛ لِأنَّ سَبِيلَ الشَّهادَةِ اليَقِينُ؛ والمُشاهَدَةُ؛ وسائِرُ الأشْياءِ الَّتِي ذُكِرَتْ يَجُوزُ فِيها اسْتِعْمالُ غالِبِ الظَّنِّ؛ وقَبُولُ قَوْلِ الواحِدِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ إذًا أصْلًا لِلشَّهادَةِ؛ وأمّا إذا اسْتُشْهِدَ وهو بَصِيرٌ؛ ثُمَّ عَمِيَ؛ فَإنَّما لَمْ نَقْبَلْهُ مِن قِبَلِ أنّا قَدْ عَلِمْنا أنَّ حالَ تَحَمُّلِ الشَّهادَةِ أضْعَفُ مِن حالِ الأداءِ؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهادَةَ وهو كافِرٌ؛ أوْ عَبْدٌ؛ أوْ صَبِيٌّ؛ ثُمَّ يُؤَدِّيَها وهو حُرٌّ؛ مُسْلِمٌ؛ بالِغٌ؛ تُقْبَلُ شَهادَتُهُ؛ ولَوْ أدّاها وهو صَبِيٌّ؛ أوْ عَبْدٌ؛ أوْ كافِرٌ؛ لَمْ تَجُزْ؛ فَعَلِمْنا أنَّ حالَ الأداءِ أوْلى بِالتَّأْكِيدِ مِن حالِ التَّحَمُّلِ؛ فَإذا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ الأعْمى لِلشَّهادَةِ؛ وكانَ العَمى مانِعًا مِن صِحَّةِ التَّحَمُّلِ؛ وجَبَ أنْ يَمْنَعَ صِحَّةَ الأداءِ؛ وأيْضًا لَوِ اسْتَشْهَدَهُ وبَيْنَهُ وبَيْنَهُ حائِلٌ؛ لَما صَحَّتْ شَهادَتُهُ؛ وكَذَلِكَ لَوْ أدّاها وبَيْنَهُما حائِلٌ لَمْ تَجُزْ شَهادَتُهُ؛ والعَمى حائِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ فَوَجَبَ ألّا تَجُوزَ.
وفَرَّقَ أبُو يُوسُفَ بَيْنَهُما بِأنْ قالَ: يَصِحُّ أنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهادَةَ بِمُعايَنَتِهِ؛ ثُمَّ يَشْهَدَ عَلَيْهِ وهو غائِبٌ؛ أوْ مَيِّتٌ؛ فَلا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوازَها؛ فَكَذَلِكَ عَمى الشّاهِدِ بِمَنزِلَةِ مَوْتِ المَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ أوْ غَيْبَتِهِ؛ فَلا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهادَتِهِ؛ والجَوابُ عَنْ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّهُ إنَّما يَجِبُ اعْتِبارُ الشّاهِدِ في نَفْسِهِ؛ فَإنْ كانَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ قَبِلْناها؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ لَمْ نَقْبَلْها؛ والأعْمى قَدْ خَرَجَ مِن أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ بِعَماهُ؛ فَلا اعْتِبارَ بِغَيْرِهِ؛ وأمّا الغائِبُ؛ والمَيِّتُ؛ فَإنَّ شَهادَةَ الشّاهِدِ عَلَيْهِما صَحِيحَةٌ؛ إذْ لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ ما يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ؛ وغَيْبُ المَشْهُودِ عَلَيْهِ ومَوْتُهُ لا تُؤَثِّرُ في شَهادَةِ الشّاهِدِ؛ فَلِذَلِكَ جازَتْ شَهادَتُهُ؛ والوَجْهُ الآخَرُ أنّا لا نُجِيزُ الشَّهادَةَ عَلى المَيِّتِ؛ والغائِبِ؛ إلّا أنْ يَحْضُرَ عَنْهُ خَصْمٌ؛ فَتَقَعُ الشَّهادَةُ عَلَيْهِ؛ فَيَقُومَ حُضُورُهُ مَقامَ حُضُورِ الغائِبِ؛ والمَيِّتِ؛ والأعْمى في مَعْنى مَن يَشْهَدُ عَلى غَيْرِ خَصْمٍ حاضِرٍ؛ فَلا تَصِحُّ شَهادَتُهُ؛ فَإنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ والأعْمى قَدْ يَكُونُ مَرْضِيًّا؛ وهو مِن رِجالِنا الأحْرارِ؛ فَظاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي قَبُولَ شَهادَتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأعْمى غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿واسْتَشْهِدُوا﴾؛ والأعْمى لا يَصِحُّ اسْتِشْهادُهُ؛ لِأنَّ الِاسْتِشْهادَ هو إحْضارُ المَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ ومُعايَنَتُهُ إيّاهُ؛ وهو غَيْرُ مُعايِنٍ؛ ولا مُشاهِدٍ لِمَن يَحْضُرُهُ؛ لِأنَّ العَمى حائِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذَلِكَ؛ كَحائِطٍ لَوْ كانَ بَيْنَهُما؛ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِن مُشاهَدَتِهِ؛ ولَمّا كانَتِ الشَّهادَةُ إنَّما هي مَأْخُوذَةٌ (p-٢٢٩)مِن مُشاهَدَةِ المَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ ومُعايَنَتِهِ عَلى الحالِ الَّتِي تَقْتَضِي الشَّهادَةُ فِيها إثْباتَ الحَقِّ عَلَيْهِ؛ وكانَ ذَلِكَ مَعْدُومًا في الأعْمى؛ وجَبَ أنْ تَبْطُلَ شَهادَتُهُ؛ فَهَذِهِ الآيَةُ لَأنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلى بُطْلانِ شَهادَتِهِ أوْلى مِن أنْ تَدُلَّ عَلى إجازَتِها.
وقالَ زُفَرُ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ الأعْمى إذا شَهِدَ بِها قَبْلَ العَمى؛ أوْ بَعْدَهُ؛ إلّا في النَّسَبِ؛ أنْ يَشْهَدَ أنَّ فُلانًا ابْنُ فُلانٍ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ذَهَبَ في ذَلِكَ إلى أنَّ النَّسَبَ قَدْ تَصِحُّ الشَّهادَةُ عَلَيْهِ بِالخَبَرِ المُسْتَفِيضِ؛ وإنْ لَمْ يُشاهِدْهُ الشّاهِدُ؛ فَلِذَلِكَ جائِزٌ إذا تَواتَرَ عِنْدَ الأعْمى الخَبَرُ بِأنَّ فُلانًا ابْنُ فُلانٍ؛ أنْ يَشْهَدَ بِهِ عِنْدَ الحاكِمِ؛ وتَكُونَ شَهادَتُهُ مَقْبُولَةً؛ ويُسْتَدَلَّ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ بِأنَّ الأعْمى والبَصِيرَ سَواءٌ فِيما ثَبَتَ حُكْمُهُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ مِن طَرِيقِ التَّواتُرِ؛ وإنْ لَمْ يُشاهِدِ المُخْبِرِينَ مِن طَرِيقِ المُعايَنَةِ؛ وإنَّما يَسْمَعُ أخْبارَهُمْ؛ فَكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ عِلْمُ صِحَّةِ النَّسَبِ مِن طَرِيقِ التَّواتُرِ - وإنْ لَمْ يُشاهِدِ المُخْبِرِينَ - فَتَجُوزُ إقامَةُ الشَّهادَةِ بِهِ؛ وتَكُونُ شَهادَتُهُ مَقْبُولَةً فِيهِ؛ إذْ لَيْسَ شَرْطُ هَذِهِ الشَّهادَةِ مُعايَنَةَ المَشْهُودِ بِهِ.
* * *
واخْتُلِفَ في شَهادَةِ البَدْوِيِّ عَلى القَرَوِيِّ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ واللَّيْثُ؛ والأوْزاعِيُّ؛ والشّافِعِيُّ: "هِيَ جائِزَةٌ إذا كانَ عَدْلًا"؛ ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ قالَ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ بَدْوِيٍّ عَلى قَرَوِيٍّ؛ إلّا في الجِراحِ"؛ وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ بَدْوِيٍّ عَلى قَرَوِيٍّ في الحَضَرِ؛ إلّا في وصِيَّةِ القَرَوِيِّ في السَّفَرِ؛ أوْ في بَيْعٍ؛ فَتَجُوزُ إذا كانُوا عُدُولًا".
قالَ أبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ ما ذَكَرْنا مِن دَلائِلِ الآيَةِ عَلى قَبُولِ شَهادَةِ الأحْرارِ البالِغِينَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَهادَةِ القَرَوِيِّ؛ والبَدْوِيِّ؛ لِأنَّ الخِطابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِذِكْرِ الإيمانِ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ وهَؤُلاءِ مِن جُمْلَةِ المُؤْمِنِينَ؛ ثُمَّ قالَ (تَعالى): ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ يَعْنِي مِن رِجالِ المُؤْمِنِينَ الأحْرارِ؛ وهَذِهِ صِفَةُ هَؤُلاءِ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ وإذا كانُوا عُدُولًا فَهم مَرْضِيُّونَ؛ وقالَ في آيَةٍ أُخْرى - في شَأْنِ الرَّجْعَةِ؛ والفِراقِ -: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]؛ وهَذِهِ الصِّفَةُ شامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ؛ إذا كانُوا عُدُولًا؛ وفي تَخْصِيصِ القَرَوِيِّ بِها؛ دُونَ البَدْوِيِّ؛ تَرْكُ العُمُومِ بِغَيْرِ دَلالَةٍ؛ ولَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّهم مُرادُونَ بِقَوْلِهِ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾؛ وبِقَوْلِهِ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ لِأنَّهم يُجِيزُونَ شَهادَةَ البَدْوِيِّ عَلى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ؛ عَلى شَرْطِ الآيَةِ؛ وإذا كانُوا مُرادِينَ بِالآيَةِ فَقَدِ اقْتَضَتْ جَوازَ شَهادَتِهِمْ عَلى القَرَوِيِّ؛ مِن حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوازَ شَهادَةِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ؛ ومِن حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوازَ شَهادَةِ القَرَوِيِّ عَلى البَدَوِيِّ؛ (p-٢٣٠)فَإنِ احْتَجُّوا بِما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حُسَيْنُ بْنُ إسْحاقَ التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيى قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ قالَ: حَدَّثَنا نافِعُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الهادِي؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو؛ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «"لا تَجُوزُ شَهادَةُ بَدْوِيٍّ عَلى صاحِبِ قَرْيَةٍ"؛» فَإنَّ مِثْلَ هَذا الخَبَرِ لا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى ظاهِرِ القُرْآنِ؛ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الفارِقِ بَيْنَ الجِراحِ؛ وبَيْنَ غَيْرِها؛ ولا بَيْنَ أنْ يَكُونَ القَرَوِيُّ في السَّفَرِ؛ أوْ في الحَضَرِ؛ فَقَدْ خالَفَ المُحْتَجُّ بِهِ ما اقْتَضاهُ عُمُومُهُ؛ وقَدْ رَوى سِماكُ بْنُ حَرْبٍ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «شَهِدَ أعْرابِيٌّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في رُؤْيَةِ الهِلالِ؛ فَأمَرَ بِلالًا يُنادِي في النّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا؛ فَقَبِلَ شَهادَتَهُ؛ وأمَرَ النّاسَ بِالصِّيامِ؛» وجائِزٌ أنْ يَكُونَ حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ في أعْرابِيٍّ شَهِدَ شَهادَةً عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؛ وعَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ خِلافَها؛ مِمّا يُبْطِلُ شَهادَتَهُ؛ فَأخْبَرَ بِهِ؛ فَنَقَلَهُ الرّاوِي مِن غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قالَهُ في الوَقْتِ الَّذِي كانَ فِيهِ الشِّرْكُ والنِّفاقُ غالِبَيْنِ عَلى الأعْرابِ؛ كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ﴾ [التوبة: ٩٨]؛ فَإنَّما مَنَعَ قَبُولَ شَهادَةِ مَن هَذِهِ صِفَتُهُ مِنَ الأعْرابِ؛ وقَدْ وصَفَ اللَّهُ (تَعالى) قَوْمًا آخَرِينَ مِنَ الأعْرابِ بَعْدَ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ ومَدَحَهم بِقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وصَلَواتِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: ٩٩]؛ اَلْآيَةَ؛ فَمَن كانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهو مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ (تَعالى)؛ وعِنْدَ المُسْلِمِينَ؛ مَقْبُولُ الشَّهادَةِ؛ ولا يَخْلُو البَدْوِيُّ مِن أنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهادَةِ عَلى القَرَوِيِّ؛ إمّا لِطَعْنٍ في دِينِهِ؛ أوْ جَهْلٍ مِنهُ بِأحْكامِ الشَّهاداتِ؛ وما يَجُوزُ أداؤُها مِنها مِمّا لا يَجُوزُ؛ فَإنْ كانَ لِطَعْنٍ في دِينِهِ فَإنَّ هَذا غَيْرُ مُخْتَلَفٍ في بُطْلانِ شَهادَتِهِ؛ ولا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ البَدْوِيِّ والقَرَوِيِّ؛ وإنْ كانَ لِجَهْلٍ مِنهُ بِأحْكامِ الشَّهاداتِ فَواجِبٌ ألّا تُقْبَلَ شَهادَتُهُ عَلى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ؛ وألّا تُقْبَلَ شَهادَتُهُ في الجِراحِ؛ ولا عَلى القَرَوِيِّ في السَّفَرِ؛ كَما لا تُقْبَلُ شَهادَةُ القَرَوِيِّ إذا كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ ويَلْزَمُهُ أنْ يَقْبَلَ شَهادَةَ البَدْوِيِّ إذا كانَ عَدْلًا؛ عالِمًا بِأحْكامِ الشَّهادَةِ عَلى القَرَوِيِّ؛ وعَلى غَيْرِهِ؛ لِزَوالِ المَعْنى الَّذِي مِن أجْلِهِ امْتَنَعَ مِن قَبُولِ شَهادَتِهِ؛ وألّا يَجْعَلَ لُزُومَ سِمَةِ البَدْوِ إيّاهُ؛ والنِّسْبَةَ إلَيْهِ عِلَّةً لِرَدِّ شَهادَتِهِ؛ كَما لا تُجْعَلُ نِسْبَةُ القَرَوِيِّ إلى القَرْيَةِ عِلَّةً لِجَوازِ شَهادَتِهِ إذا كانَ مُجانِبًا لِلصِّفاتِ المَشْرُوطَةِ لِجَوازِ الشَّهادَةِ.
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: أوْجَبَ بَدِيًّا اسْتِشْهادَ شَهِيدَيْنِ؛ وهُما الشّاهِدانِ؛ لِأنَّ الشَّهِيدَ والشّاهِدَ واحِدٌ؛ كَما أنَّ (p-٢٣١)"عَلِيمٌ"؛ و"عالِمٌ"؛ واحِدٌ؛ و"قادِرٌ"؛ و"قَدِيرٌ"؛ واحِدٌ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ﴾؛ يَعْنِي: إنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدانِ رَجُلَيْنِ؛ ﴿فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾؛ فَلا يَخْلُو قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ﴾؛ مِن أنْ يُرِيدَ بِهِ: فَإنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلانِ؛ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا﴾ [المائدة: ٦]؛ وكَقَوْلِهِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣]؛ ثُمَّ قالَ: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ﴾ [المجادلة: ٤]؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: ٤]؛ وما جَرى مُجْرى ذَلِكَ في الأبْدالِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقامَ أصْلِ الفَرْضِ؛ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ أوْ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ: فَإنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدانِ رَجُلَيْنِ؛ فالشَّهِيدانِ رَجُلٌ وامْرَأتانِ؛ فَأفادَنا إثْباتَ هَذا الِاسْمِ لِلرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ؛ حَتّى يُعْتَبَرَ عُمُومُهُ في جَوازِ شَهادَتِهِما مَعَ الرَّجُلِ في سائِرِ الحُقُوقِ؛ إلّا ما قامَ دَلِيلُهُ؛ فَلَمّا اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى جَوازِ شَهادَةِ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ مَقامَ رَجُلَيْنِ؛ عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ؛ فَثَبَتَ الوَجْهُ الثّانِي؛ وهو أنَّهُ أرادَ تَسْمِيَةَ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ "شَهِيدَيْنِ"؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا شَرْعِيًّا يَجِبُ اعْتِبارُهُ فِيما أُمِرْنا فِيهِ بِاسْتِشْهادِ شَهِيدَيْنِ؛ إلّا مَوْضِعًا قامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؛ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلالُ بِعُمُومِهِ في قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «"لا نِكاحَ إلّا بِوَلِيٍّ وشاهِدَيْنِ"؛» وإثْباتُ النِّكاحِ؛ والحُكْمُ بِشَهادَةِ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ؛ إذْ قَدْ لَحِقَهُمُ اسْمُ شَهِيدَيْنِ؛ وقَدْ أجازَ النَّبِيُّ ﷺ النِّكاحَ بِشَهادَةِ شاهِدَيْنِ.
* * *
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في شَهادَةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في غَيْرِ الأمْوالِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ وعُثْمانُ البَتِّيُّ: "لا تُقْبَلُ شَهادَةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ؛ لا في الحُدُودِ؛ ولا في القِصاصِ؛ وتُقْبَلُ فِيما سِوى ذَلِكَ مِن سائِرِ الحُقُوقِ"؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ عِبادَةَ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنِ الحَجّاجِ بْنِ أرْطاةَ؛ عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ أنَّ عُمَرَ أجازَ شَهادَةَ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ في نِكاحٍ؛ ورَوى جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الخِرِّيتِ؛ عَنْ أبِي لَبِيدٍ أنَّ عُمَرَ أجازَ شَهادَةَ النِّساءِ في طَلاقٍ؛ ورَوى إسْرائِيلُ عَنْ عَبْدِ الأعْلى؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ؛ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: "تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ في العَقْدِ"؛ ورَوى حَجّاجٌ عَنْ عَطاءٍ أنَّ ابْنَ عُمَرَ كانَ يُجِيزُ شَهادَةَ النِّساءِ مَعَ الرَّجُلِ في النِّكاحِ؛ ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ كانَ يُجِيزُ شَهادَةَ النِّساءِ في الطَّلاقِ؛ ورُوِيَ عَنْ عَوْنٍ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ شُرَيْحٍ أنَّهُ أجازَ شَهادَةَ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ في عِتْقٍ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ في الطَّلاقِ؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ والضَّحّاكِ قالا: "لا تَجُوزُ شَهادَتُهُنَّ إلّا في الدَّيْنِ؛ والوَلَدِ"؛ وقالَ مالِكٌ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في الحُدُودِ؛ والقِصاصِ؛ ولا في الطَّلاقِ؛ ولا في النِّكاحِ؛ ولا في الأنْسابِ؛ ولا في (p-٢٣٢)الوَلاءِ؛ ولا الإحْصانِ؛ وتَجُوزُ في الوَكالَةِ؛ والوَصِيَّةِ؛ إذا لَمْ يَكُنْ فِيها عِتْقٌ"؛ وقالَ الثَّوْرِيُّ: "تَجُوزُ شَهادَتُهُنَّ في كُلِّ شَيْءٍ؛ إلّا الحُدُودَ"؛ ورُوِيَ عَنْهُ أنَّها لا تَجُوزُ في القِصاصِ أيْضًا؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: "لا تَجُوزُ شَهادَتُهُنَّ في الحُدُودِ"؛ وقالَ الأوْزاعِيُّ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ في نِكاحٍ"؛ وقالَ اللَّيْثُ: "تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ في الوَصِيَّةِ؛ والعِتْقِ؛ ولا تَجُوزُ في النِّكاحِ؛ ولا الطَّلاقِ؛ ولا الحُدُودِ؛ ولا قَتْلِ العَمْدِ الَّذِي يُقادُ مِنهُ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في غَيْرِ الأمْوالِ؛ ولا يَجُوزُ في الوَصِيَّةِ إلّا الرَّجُلُ؛ وتَجُوزُ في الوَصِيَّةِ بِالمالِ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي جَوازَ شَهادَتِهِنَّ مَعَ الرَّجُلِ في سائِرِ عُقُودِ المُدايَناتِ؛ وهي كُلُّ عَقْدٍ واقِعٍ عَلى دَيْنٍ؛ سَواءٌ كانَ بَدَلُهُ مالًا؛ أوْ بُضْعًا؛ أوْ مَنافِعَ؛ أوْ دَمَ عَمْدٍ؛ لِأنَّهُ عَقْدٌ فِيهِ دَيْنٌ؛ إذِ المَعْلُومُ أنَّهُ لَيْسَ مُرادُ الآيَةِ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أنْ يَكُونَ المَعْقُودُ عَلَيْهِما مِنَ البَدَلَيْنِ دَيْنَيْنِ؛ لِامْتِناعِ جَوازِ ذَلِكَ إلى أجَلٍ مُسَمًّى؛ فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ وُجُودُ دَيْنٍ عَنْ بَدَلٍ؛ أيَّ دَيْنٍ كانَ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ جَوازَ شَهادَةِ النِّساءِ مَعَ الرَّجُلِ عَلى عَقْدِ نِكاحٍ فِيهِ مَهْرٌ مُؤَجَّلٌ؛ إذا كانَ ذَلِكَ عَقْدُ مُدايَنَةٍ؛ وكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِن دَمِ العَمْدِ؛ والخُلْعُ عَلى مالٍ؛ والإجاراتُ؛ فَمَنِ ادَّعى خُرُوجَ شَيْءٍ مِن هَذِهِ العُقُودِ مِن ظاهِرِ الآيَةِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ؛ إلّا بِدَلالَةٍ؛ إذْ كانَ العُمُومُ مُقْتَضِيًا لِجَوازِها في الجَمِيعِ.
ويَدُلُّ عَلى جَوازِ شَهادَةِ النِّساءِ في غَيْرِ الأمْوالِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ القاسِمِ الجَوْهَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إبْراهِيمَ؛ أخُو أبِي مَعْمَرٍ؛ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أبِي يَزِيدَ؛ عَنِ الأعْمَشِ؛ عَنْ أبِي وائِلٍ؛ عَنْ حُذَيْفَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أجازَ شَهادَةَ القابِلَةِ؛ والوِلادَةُ لَيْسَتْ بِمالٍ؛ وأجازَ شَهادَتَها عَلَيْها»؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ شَهادَةَ النِّساءِ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِالأمْوالِ؛ ولا خِلافَ في جَوازِ شَهادَةِ النِّساءِ عَلى الوِلادَةِ؛ وإنَّما الِاخْتِلافُ في العَدَدِ؛ وأيْضًا لَمّا ثَبَتَ أنَّ اسْمَ الشَّهِيدَيْنِ واقِعٌ في الشَّرْعِ عَلى الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ؛ وقَدْ ثَبَتَ أنَّ اسْمَ البَيِّنَةِ يَتَناوَلُ الشَّهِيدَيْنِ؛ وجَبَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: «اَلْبَيِّنَةُ عَلى المُدَّعِي؛ واليَمِينُ عَلى المُدَّعى عَلَيْهِ»؛ اَلْقَضاءُ بِشَهادَةِ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ في كُلِّ دَعْوى؛ إذْ قَدْ شَمِلَهُمُ اسْمُ البَيِّنَةِ؛ ألا تَرى أنَّها بَيِّنَةٌ في الأمْوالِ؟ فَلَمّا وقَعَ عَلَيْها الِاسْمُ وجَبَ بِحَقِّ العُمُومِ قَبُولُها لِكُلِّ مُدَّعٍ؛ إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى تَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنهُ؛ وإنَّما خَصَّصْنا الحُدُودَ؛ والقِصاصَ؛ لِما رَوى الزُّهْرِيُّ قالَ: "مَضَتِ السُّنَّةُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ والخَلِيفَتَيْنِ مِن بَعْدِهِ؛ ألّا تَجُوزَ شَهادَةُ النِّساءِ في الحُدُودِ؛ ولا في القِصاصِ"؛ وأيْضًا لَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى (p-٢٣٣)قَبُولِ شَهادَتِهِنَّ مَعَ الرَّجُلِ في الدُّيُونِ؛ وجَبَ قَبُولُها في كُلِّ حَقٍّ لا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ؛ إذا كانَ الدَّيْنُ حَقًّا لا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى جَوازِها في غَيْرِ الأمْوالِ مِنَ الآيَةِ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أجازَها في الأجَلِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾؛ ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾؛ فَأجازَ شَهادَتَها مَعَ الرَّجُلِ عَلى الأجَلِ؛ ولَيْسَ بِمالٍ؛ كَما أجازَها في المالِ؛ فَإنْ قِيلَ: اَلْأجَلُ لا يَجِبُ إلّا في المالِ؛ قِيلَ لَهُ: هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ الأجَلَ قَدْ يَجِبُ في الكَفالَةِ بِالنَّفْسِ؛ وفي مَنافِعِ الأحْرارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمالٍ؛ وقَدْ يُؤَجِّلُهُ الحاكِمُ في إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى الدَّمِ؛ وعَلى دَعْوى العَفْوِ مِنهُ بِمِقْدارِ ما يُمْكِنُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ؛ فَقَوْلُكَ: إنَّ الأجَلَ لا يَجِبُ إلّا في المالِ خَطَأٌ؛ ومَعَ ذَلِكَ فالبُضْعُ لا يُسْتَحَقُّ إلّا بِمالٍ؛ ولا يَقَعُ النِّكاحُ إلّا بِمالٍ؛ فَيَنْبَغِي أنْ تُجِيزَ فِيهِ شَهادَةَ النِّساءِ.
* * *
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَتْ مَعْرِفَةُ دِياناتِ النّاسِ؛ وأماناتِهِمْ؛ وعَدالَتِهِمْ؛ إنَّما هي مِن طَرِيقِ الظّاهِرِ؛ دُونَ الحَقِيقَةِ؛ إذْ لا يَعْلَمُ ضَمائِرَهُمْ؛ ولا خَبايا أُمُورِهِمْ؛ غَيْرُ اللَّهِ (تَعالى)؛ ثُمَّ قالَ اللَّهُ (تَعالى) - فِيما أمَرَنا بِاعْتِبارِهِ مِن أمْرِ الشُّهُودِ -: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ أمْرَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ رَأْيِنا؛ وما يَغْلِبُ في ظُنُونِنا مِن عَدالَتِهِمْ؛ وصَلاحِ طَرائِقِهِمْ؛ وجائِزٌ أنْ يَغْلِبَ في ظَنِّ بَعْضِ النّاسِ عَدالَةُ شاهِدٍ؛ وأمانَتُهُ؛ فَيَكُونُ عِنْدَهُ رِضًا؛ ويَغْلِبُ في ظَنِّ غَيْرِهِ أنَّهُ لَيْسَ بِرِضًا؛ فَقَوْلُهُ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ مَبْنِيٌّ عَلى غالِبِ الظَّنِّ؛ وأكْثَرِ الرَّأْيِ؛ والَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ أمْرُ الشَّهادَةِ أشْياءُ ثَلاثَةٌ؛ أحَدُها العَدالَةُ؛ والآخَرُ نَفْيُ التُّهْمَةِ؛ وإنْ كانَ عَدْلًا؛ والثّالِثُ التَّيَقُّظُ؛ والحِفْظُ؛ وقِلَّةُ الغَفْلَةِ؛ أمّا العَدالَةُ فَأصْلُها الإيمانُ؛ واجْتِنابُ الكَبائِرِ؛ ومُراعاةُ حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - في الواجِباتِ؛ والمَسْنُوناتِ؛ وصِدْقِ اللَّهْجَةِ؛ والأمانَةِ؛ وألّا يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ؛ وأمّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَألّا يَكُونَ المَشْهُودُ لَهُ والِدًا؛ ولا ولَدًا؛ أوْ زَوْجًا؛ أوْ زَوْجَةً؛ وألّا يَكُونَ قَدْ شَهِدَ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ فَرُدَّتْ لِتُهْمَةٍ؛ فَشَهادَةُ هَؤُلاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِمَن ذَكَرْنا؛ وإنْ كانُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ؛ وأمّا التَّيَقُّظُ؛ والحِفْظُ؛ وقِلَّةُ الغَفْلَةِ؛ فَألّا يَكُونَ غُفُولًا؛ غَيْرَ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ؛ فَإنَّ مِثْلَهُ رُبَّما لُقِّنَ الشَّيْءَ فَتَلَقَّنَهُ؛ ورُبَّما جُوِّزَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ فَشَهِدَ بِهِ؛ قالَ ابْنُ رُسْتُمَ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ - في رَجُلٍ أعْجَمِيٍّ؛ صَوّامٍ؛ قَوّامٍ؛ مُغَفَّلٍ؛ يُخْشى عَلَيْهِ أنْ يُلَقَّنَ فَيَأْخُذَ بِهِ -: "هَذا شَرٌّ مِنَ الفاسِقِ في شَهادَتِهِ"؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيما المُحَبِّرُ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: حَدَّثَنا أسْوَدُ بْنُ عامِرٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ هِلالٍ؛ عَنْ أشْعَثَ الحُدّانِيِّ قالَ: قالَ (p-٢٣٤)رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: يا أبا سَعِيدٍ؛ إنَّ إياسًا رَدَّ شَهادَتِي؛ فَقامَ مَعَهُ إلَيْهِ؛ فَقالَ: "يا مَلْكَعانُ؛ لِمَ رَدَدْتَ شَهادَتَهُ؟ أوَما بَلَغَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «(مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنا؛ وأكَلَ مِن ذَبِيحَتِنا؛ فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ؛ وذِمَّةُ رَسُولِهِ)؟"؛» فَقالَ: "أيُّها الشَّيْخُ؛ أما سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ ؟ وإنَّ صاحِبَكَ هَذا لَيْسَ نَرْضاهُ".
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهّابِ؛ قالَ: حَدَّثَنا السِّرِّيُّ بْنُ عاصِمٍ - بِإسْنادٍ ذَكَرَهُ - أنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ الحَسَنِ؛ فَرَدَّ شَهادَتَهُ؛ فَبَلَغَ الحَسَنَ؛ وقالَ: "قُومُوا بِنا إلَيْهِ"؛ قالَ: فَجاءَ إلى إياسٍ فَقالَ: "يا لُكَعُ؛ تَرُدُّ شَهادَةَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟"؛ فَقالَ: "نَعَمْ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ ولَيْسَ هو مِمَّنْ أرْضى"؛ قالَ: فَسَكَتَ الحَسَنُ؛ فَقالَ خَصْمُ الشَّيْخِ: "فَمِن شَرْطِ الرِّضا لِلشَّهادَةِ أنْ يَكُونَ الشّاهِدُ مُتَيَقِّظًا؛ حافِظًا لِما يَسْمَعُهُ؛ مُتْقِنًا لِما يُؤَدِّيهِ"؛ وقَدْ ذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ في صِفَةِ العَدْلِ أشْياءَ؛ مِنها أنَّهُ قالَ: "مَن سَلِمَ مِنَ الفَواحِشِ الَّتِي تَجِبُ فِيها الحُدُودُ؛ وما يُشْبِهُ ما تَجِبُ فِيهِ مِنَ العَظائِمِ؛ وكانَ يُؤَدِّي الفَرائِضَ؛ وأخْلاقُ البِرِّ فِيهِ أكْثَرُ مِنَ المَعاصِي الصِّغارِ؛ قَبِلْنا شَهادَتَهُ؛ لِأنَّهُ لا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِن ذَنْبٍ؛ وإنْ كانَتْ ذُنُوبُهُ أكْثَرَ مِن أخْلاقِ البِرِّ رَدَدْنا شَهادَتَهُ؛ ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ مَن يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ؛ يُقامِرُ عَلَيْها؛ ولا مَن يَلْعَبُ بِالحَمامِ ويُطَيِّرُها؛ وكَذَلِكَ مَن يُكْثِرُ الحَلِفَ بِالكَذِبِ لا تَجُوزُ شَهادَتُهُ"؛ قالَ: "وإذا تَرَكَ الرَّجُلُ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في الجَماعَةِ اسْتِخْفافًا بِذَلِكَ؛ أوْ مَجانَةً؛ أوْ فِسْقًا؛ فَلا تَجُوزُ شَهادَتُهُ؛ وإنْ تَرَكَها عَلى تَأْوِيلٍ؛ وكانَ عَدْلًا فِيما سِوى ذَلِكَ؛ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ"؛ قالَ: "وإنْ داوَمَ عَلى تَرْكِ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ؛ وإنْ كانَ مَعْرُوفًا بِالكَذِبِ الفاحِشِ لَمْ أقْبَلْ شَهادَتَهُ؛ وإنْ كانَ لا يُعْرَفُ بِذَلِكَ؛ ورُبَّما ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنهُ والخَيْرُ فِيهِ أكْثَرُ مِنَ الشَّرِّ؛ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ؛ لَيْسَ يَسْلَمُ أحَدٌ مِنَ الذُّنُوبِ"؛ قالَ: وقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ وابْنُ أبِي لَيْلى: " شَهادَةُ أهْلِ الأهْواءِ جائِزَةٌ إذا كانُوا عُدُولًا؛ إلّا صِنْفًا مِنَ الرّافِضَةِ يُقالُ لَهُمُ الخَطّابِيَّةُ؛ فَإنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ بَعْضَهم يُصَدِّقُ بَعْضًا فِيما يَدَّعِي إذا حَلَفَ لَهُ؛ ويَشْهَدُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ؛ فَلِذَلِكَ أبْطَلْتُ شَهادَتَهُمْ"؛ وقالَ أبُو يُوسُفَ: "أيُّما رَجُلٍ أظْهَرَ شَتِيمَةَ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ أقْبَلْ شَهادَتَهُ؛ لِأنَّ رَجُلًا لَوْ كانَ شَتّامًا لِلنّاسِ والجِيرانِ؛ لَمْ أقْبَلْ شَهادَتَهُ؛ فَأصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ أعْظَمُ حُرْمَةً"؛ وقالَ أبُو يُوسُفَ: "ألا تَرى أنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدِ اخْتَلَفُوا؛ واقْتَتَلُوا؛ وشَهادَةُ الفَرِيقَيْنِ جائِزَةٌ؛ لِأنَّهُمُ اقْتَتَلُوا عَلى تَأْوِيلٍ؟ فَكَذَلِكَ أهْلُ الأهْواءِ مِنَ المُتَأوِّلِينَ"؛ قالَ أبُو يُوسُفَ: "ومَن سَألْتُ عَنْهُ فَقالُوا: إنّا نَتَّهِمُهُ بِشَتْمِ أصْحابِ (p-٢٣٥)رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَإنِّي لا أقْبَلُ هَذا؛ حَتّى يَقُولُوا: سَمِعْناهُ يَشْتُمُ"؛ قالَ: "فَإنْ قالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالفِسْقِ؛ والفُجُورِ؛ ونَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ؛ ولَمْ نَرَهُ؛ فَإنِّي أقْبَلُ ذَلِكَ؛ ولا أُجِيزُ شَهادَتَهُ؛ والفارِقُ بَيْنَهُما أنَّ الَّذِينَ قالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالشَّتْمِ؛ قَدْ أثْبَتُوا لَهُ الصَّلاحَ؛ وقالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالشَّتْمِ؛ فَلا يُقْبَلُ هَذا إلّا بِسَماعٍ؛ والَّذِينَ قالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالفِسْقِ والفُجُورِ؛ ونَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ؛ ولَمْ نَرَهُ؛ فَإنِّي أقْبَلُ ذَلِكَ؛ ولا أُجِيزُ شَهادَتَهُ؛ أثْبَتُوا لَهُ صَلاحًا وعَدالَةً"؛ وذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أنَّهُ قالَ: "لا أقْبَلُ شَهادَةَ الخَوارِجِ؛ إذْ كانُوا قَدْ خَرَجُوا يُقاتِلُونَ المُسْلِمِينَ؛ وإنْ شَهِدُوا"؛ قالَ: قُلْتُ: ولِمَ لا تُجِيزُ شَهادَتَهُمْ؛ وأنْتَ تُجِيزُ شَهادَةَ الحَرُورِيَّةِ؟ قالَ: "لِأنَّهم لا يَسْتَحِلُّونَ أمْوالَنا؛ ما لَمْ يَخْرُجُوا؛ فَإذا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا أمْوالَنا؛ فَتَجُوزُ شَهادَتُهم ما لَمْ يَخْرُجُوا"؛ وحَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ؛ مُكْرَمُ بْنُ أحْمَدَ؛ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الكُوفِيُّ قالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِماعَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا يُوسُفَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا حَنِيفَةَ يَقُولُ: لا يَجِبُ عَلى الحاكِمِ أنْ يَقْبَلَ شَهادَةَ بَخِيلٍ؛ فَإنَّ البَخِيلَ يَحْمِلُهُ شِدَّةُ بُخْلِهِ عَلى التَّقَصِّي؛ فَيَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ؛ مَخافَةَ الغَبْنِ؛ ومَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا؛ سَمِعْتُ حَمّادَ بْنَ أبِي سُلَيْمانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ إبْراهِيمَ يَقُولُ: قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أيُّها النّاسُ؛ كُونُوا وسَطًا؛ لا تَكُونُوا بُخَلاءَ؛ ولا سَفَلَةً؛ فَإنَّ البَخِيلَ والسَّفَلَةَ الَّذِينَ إنْ كانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ لَمْ يُؤَدُّوهُ؛ وإنْ كانَ لَهم حَقٌّ اسْتَقْصَوْهُ"؛ قالَ: وقالَ: "ما مِن طِباعِ المُؤْمِنِ التَّقَصِّي؛ ما اسْتَقْصى كَرِيمٌ قَطُّ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ [التحريم: ٣] "؛ وحَدَّثَنا مُكْرَمُ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ المُغَلِّسِ قالَ: سَمِعْتُ الحِمّانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ المُبارَكِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا حَنِيفَةَ يَقُولُ: "مَن كانَ مَعَهُ بُخْلٌ لَمْ تَجُزْ شَهادَتُهُ؛ يَحْمِلُهُ البُخْلُ عَلى التَّقَصِّي؛ فَمِن شِدَّةِ تَقَصِّيهِ يَخافُ الغَبْنَ؛ فَيَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ؛ مَخافَةَ الغَبْنِ؛ فَلا يَكُونُ هَذا عَدْلًا"؛ وقَدْ رُوِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ عَنْ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ؛ ذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أبِي الأسْوَدِ؛ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ قالَ: قُلْتُ لِإياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ: أُخْبِرْتُ أنَّكَ لا تُجِيزُ شَهادَةَ الأشْرافِ بِالعِراقِ؛ ولا البُخَلاءِ؛ ولا التُّجّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ البَحْرَ؛ قالَ: "أجَلْ؛ أمّا الَّذِينَ يَرْكَبُونَ إلى الهِنْدِ حَتّى يُغَرِّرُوا بِدِينِهِمْ؛ ويُكْثِرُوا عَدُوَّهم مِن أجْلِ طَمَعِ الدُّنْيا؛ فَعَرَفْتُ أنَّ هَؤُلاءِ لَوْ أُعْطِيَ أحَدُهم دِرْهَمَيْنِ في شَهادَةٍ لَمْ يَتَحَرَّجْ بَعْدَ تَغْرِيرِهِ بِدِينِهِ؛ وأمّا الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ في قُرى فارِسَ فَإنَّهم يُطْعِمُونَهُمُ الرِّبا؛ وهم يَعْلَمُونَ؛ فَأبَيْتُ أنْ أُجِيزَ شَهادَةَ آكِلِ الرِّبا؛ وأمّا الأشْرافُ فَإنَّ الشَّرِيفَ بِالعِراقِ إذا نابَتْ أحَدًا مِنهم نائِبَةٌ أتى إلى سَيِّدِ قَوْمِهِ فَيَشْهَدُ لَهُ؛ ويَشْفَعُ؛ فَكُنْتُ أرْسَلْتُ إلى عَبْدِ الأعْلى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرٍ؛ ألّا يَأْتِيَنِي (p-٢٣٦)بِشَهادَةٍ".
وقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ رَدُّ شَهادَةِ قَوْمٍ ظَهَرَ مِنهم أُمُورٌ لا يُقْطَعُ فِيها بِفِسْقِ فاعِلِيها؛ إلّا أنَّها تَدُلُّ عَلى سُخْفٍ؛ أوْ مُجُونٍ؛ فَرَأوْا رَدَّ شَهادَةِ أمْثالِهِمْ؛ مِنهُ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيما قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنا مَحْمُودُ بْنُ خِداشٍ قالَ: حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ الحُبابِ قالَ: أخْبَرَنِي داوُدُ بْنُ حاتِمٍ البَصْرِيُّ أنَّ بِلالَ بْنَ أبِي بُرْدَةَ - وكانَ عَلى البَصْرَةِ - كانَ لا يُجِيزُ شَهادَةَ مَن يَأْكُلُ الطِّينَ؛ ويَنْتِفُ لِحْيَتَهُ؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا شُرَيْحٌ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سُلَيْمانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ رَجُلًا كانَ مِن أهْلِ مَكَّةَ شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ؛ وكانَ يَنْتِفُ عَنْفَقَتَهُ؛ ويُحْفِي لِحْيَتَهُ؛ وحَوْلَ شارِبَيْهِ؛ فَقالَ: "ما اسْمُكَ؟"؛ قالَ: "فُلانٌ"؛ قالَ: "بَلِ اسْمُكَ ناتِفٌ"؛ ورَدَّ شَهادَتَهُ؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ عَنِ الجَعْدِ بْنِ ذَكْوانَ قالَ: دَعا رَجُلٌ شاهِدًا لَهُ عِنْدَ شُرَيْحٍ؛ اسْمُهُ رَبِيعَةُ؛ فَقالَ: "يا رَبِيعَةَ؛ يا رَبِيعَةَ"؛ فَلَمْ يُجِبْ؛ فَقالَ: "يا رَبِيعَةَ الكُوَيْفِرُ"؛ فَأجابَ؛ فَقالَ لَهُ: "قُمْ"؛ وقالَ لِصاحِبِهِ: "هاتِ غَيْرَهُ"؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أبِي عَرُوبَةَ؛ عَنْ قَتادَةَ؛ عَنْ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "اَلْأقْلَفُ لا تَجُوزُ شَهادَتُهُ"؛ ورَوى حَمّادُ بْنُ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي المُهَزَّمِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ أصْحابِ الحُمُرِ"؛ يَعْنِي النَّخّاسِينَ؛ ورُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أنَّهُ كانَ لا يُجِيزُ شَهادَةَ صاحِبِ حَمامٍ؛ ولا حَمّامٍ؛ ورَوى مِسْعَرٌ أنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ شُرَيْحٍ وهو ضَيِّقُ كُمِّ القِبا؛ فَرَدَّ شَهادَتَهُ؛ وقالَ: كَيْفَ يَتَوَضَّأُ وهو عَلى هَذِهِ الحالِ؟ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ قالَ: حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ؛ عَنِ الأعْمَشِ؛ عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ قالَ: شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ فَقالَ: أشْهَدُ بِشَهادَةِ اللَّهِ؛ فَقالَ: "شَهِدْتُ بِشَهادَةِ اللَّهِ لا أُجِيزُ لَكَ اليَوْمَ شَهادَةً"؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا رَآهُ تَكَلَّفَ مِن ذَلِكَ ما لَيْسَ عَلَيْهِ لَمْ يَرَهُ أهْلًا لِقَبُولِ شَهادَتِهِ؛ فَهَذِهِ الأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْناها عَنْ هَؤُلاءِ السَّلَفِ مِن رَدِّ الشَّهادَةِ مِن أجْلِها غَيْرُ مَقْطُوعٍ فِيها بِفِسْقِ فاعِلِيها؛ ولا سُقُوطِ العَدالَةِ؛ وإنَّما دَلَّهم ظاهِرُها عَلى سُخْفِ مَن هَذِهِ حالُهُ؛ فَرَدُّوا شَهادَتَهم مِن أجْلِها؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهم تَحَرّى مُوافَقَةَ ظاهِرِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾؛ عَلى حَسَبِ ما أدّاهُ إلَيْهِ اجْتِهادُهُ؛ فَمَن غَلَبَ في ظَنِّهِ سُخْفٌ مِنَ الشّاهِدِ؛ أوْ مُجُونُهُ؛ أوِ اسْتِهانَتُهُ بِأمْرِ الدِّينِ؛ أسْقَطَ شَهادَتَهُ؛ قالَ مُحَمَّدٌ - في كِتابِ (آدابِ القاضِي) -: "مَن ظَهَرَتْ مِنهُ مَجانَةٌ لَمْ أقْبَلْ شَهادَتَهُ"؛ قالَ: "ولا تَجُوزُ شَهادَةُ المُخَنَّثِ؛ (p-٢٣٧)ولا شَهادَةُ مَن يَلْعَبُ بِالحَمامِ يُطَيِّرُها"؛ وقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ أبِي لَيْلى فَرَدَّ شَهادَتَهُ؛ قالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ أبِي لَيْلى: "مِثْلُ فُلانٍ؛ وحالُهُ كَذا؛ وحالُ ابْنِهِ كَذا؛ تُرَدُّ شَهادَتُهُ؟"؛ فَقالَ: "أيْنَ يَذْهَبُ بِكَ؟ إنَّهُ فَقِيرٌ"؛ فَكانَ عِنْدَهُ أنَّ الفَقْرَ يَمْنَعُ الشَّهادَةَ؛ إذْ لا يُؤْمَنُ بِهِ أنْ يَحْمِلَهُ الفَقْرُ عَلى الرَّغْبَةِ في المالِ؛ وإقامِ شَهادَةٍ بِما لا تَجُوزُ؛ وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: "لا تَجُوزُ شَهادَةُ السُّؤّالِ في الشَّيْءِ الكَثِيرِ؛ وتَجُوزُ في الشَّيْءِ التّافِهِ؛ إذا كانُوا عُدُولًا"؛ فَشَرَطَ مالِكٌ مَعَ الفَقْرِ المَسْألَةَ؛ ولَمْ يَقْبَلْها في الشَّيْءِ الكَثِيرِ؛ لِلتُّهْمَةِ؛ وقَبِلَها في اليَسِيرِ؛ لِزَوالِ التُّهْمَةِ؛ وقالَ المُزَنِيُّ؛ والرَّبِيعُ؛ عَنِ الشّافِعِيِّ: "إذا كانَ الأغْلَبُ عَلى الرَّجُلِ؛ والأظْهَرُ مِن أمْرِهِ الطّاعَةَ؛ والمُرُوءَةَ؛ قَبِلْتُ شَهادَتَهُ؛ وإذا كانَ الأغْلَبُ مِن حالِهِ المَعْصِيَةَ؛ وعَدَمَ المُرُوءَةِ؛ رَدَدْتُ شَهادَتَهُ". وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الحَكَمِ؛ عَنِ الشّافِعِيِّ: "إذا كانَ أكْثَرُ أمْرِهِ الطّاعَةَ؛ ولَمْ يُقْدِمْ عَلى كَبِيرَةٍ؛ فَهو عَدْلٌ"؛ فَأمّا شَرْطُ المُرُوءَةِ؛ فَإنْ أرادَ بِهِ التَّصاوُنَ والصَّمْتَ الحَسَنَ؛ وحِفْظَ الحُرْمَةِ؛ وتَجَنُّبَ السُّخْفِ؛ والمُجُونِ؛ فَهو مُصِيبٌ؛ وإنْ أرادَ بِهِ نَظافَةَ الثَّوْبِ؛ وفَراهَةَ المَرْكُوبِ؛ وجَوْدَةَ الآلَةِ؛ والشّارَةَ الحَسَنَةَ؛ فَقَدْ أبْعَدَ وقالَ غَيْرَ الحَقِّ؛ لِأنَّ هَذِهِ الأُمُورَ لَيْسَتْ مِن شَرائِطِ الشَّهادَةِ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡیَكۡتُبۡ وَلۡیُمۡلِلِ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا یَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِیهًا أَوۡ ضَعِیفًا أَوۡ لَا یَسۡتَطِیعُ أَن یُمِلَّ هُوَ فَلۡیُمۡلِلۡ وَلِیُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا یَأۡبَ ٱلشُّهَدَاۤءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوۤا۟ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوۤا۟ إِذَا تَبَایَعۡتُمۡۚ وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق