الباحث القرآني
ومِن أبْوابِ الرِّبا الَّذِي تَضَمَّنَتِ الآيَةُ تَحْرِيمَهُ
الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ ألْفُ دِرْهَمٍ؛ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ؛ فَيُصالِحُهُ مِنهُ عَلى خَمْسِمِائَةٍ حالَّةٍ؛ فَلا يَجُوزُ؛ وقَدْ رَوى سُفْيانُ عَنْ حُمَيْدٍ؛ عَنْ مَيْسَرَةَ قالَ: سَألْتُ ابْنَ عُمَرَ: يَكُونُ لِي عَلى الرَّجُلِ الدَّيْنُ إلى أجَلٍ؛ فَأقُولُ: عَجِّلْ لِي؛ وأضَعُ عَنْكَ؛ فَقالَ: هو رِبًا؛ ورُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أيْضًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ؛ وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ والشَّعْبِيِّ؛ والحَكَمِ؛ وهو قَوْلُ أصْحابِنا؛ وعامَّةِ الفُقَهاءِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ؛ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ والَّذِي يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ ذَلِكَ شَيْئانِ؛ أحَدُهُما تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ إيّاهُ رِبًا؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ أسْماءَ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ؛ والثّانِي أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ رِبا الجاهِلِيَّةِ إنَّما كانَ قَرْضًا مُؤَجَّلًا؛ بِزِيادَةٍ مَشْرُوطَةٍ؛ فَكانَتِ الزِّيادَةُ بَدَلًا مِنَ الأجَلِ؛ فَأبْطَلَهُ اللَّهُ (تَعالى)؛ وحَرَّمَهُ؛ وقالَ: ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٨]؛ حَظَرَ أنْ يُؤْخَذَ لِلْأجَلِ عِوَضٌ؛ فَإذا كانَتْ عَلَيْهِ ألْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٌ؛ فَوَضَعَ عَنْهُ عَلى أنْ يُعَجِّلَهُ؛ فَإنَّما جَعَلَ الحَطَّ بِحِذاءِ الأجَلِ؛ فَكانَ هَذا هو مَعْنى الرِّبا الَّذِي نَصَّ اللَّهُ (تَعالى) عَلى تَحْرِيمِهِ؛ ولا خِلافَ عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ عَلَيْهِ ألْفُ دِرْهَمٍ حالَّةٌ؛ فَقالَ لَهُ: أجِّلْنِي وأزِيدُكَ فِيها مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ المِائَةَ (p-١٨٧)عِوَضٌ مِنَ الأجَلِ؛ كَذَلِكَ الحَطُّ في مَعْنى الزِّيادَةِ؛ إذْ جَعَلَهُ عِوَضًا مِنَ الأجَلِ؛ وهَذا هو الأصْلُ في امْتِناعِ جَوازِ أخْذِ الأبْدالِ عَنِ الآجالِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أبُو حَنِيفَةَ - فِيمَن دَفَعَ إلى خَيّاطٍ ثَوْبًا فَقالَ: إنْ خِطْتَهُ اليَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ؛ وإنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ -: إنَّ الشَّرْطَ الثّانِيَ باطِلٌ؛ فَإنْ خاطَهُ غَدًا فَلَهُ أجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ الحَطَّ بِحِذاءِ الأجَلِ؛ والعَمَلِ في الوَقْتَيْنِ؛ عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ"؛ فَلَمْ يُجِزْهُ؛ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ بَيْعِ الأجَلِ؛ عَلى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنّاهُ؛ ومَن أجازَ مِنَ السَّلَفِ إذا قالَ: عَجِّلْ لِي وأضَعُ عَنْكَ؛ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ أجازُوهُ إذا لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهِ؛ وذَلِكَ بِأنْ يَضَعَ عَنْهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ؛ ويُعَجِّلَ الآخَرُ الباقِيَ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
وقَدْ ذَكَرْنا الدَّلالَةَ عَلى أنَّ التَّفاضُلَ قَدْ يَكُونُ رِبًا؛ عَلى حَسَبِ ما قالَ النَّبِيُّ ﷺ في الأصْنافِ السِّتَّةِ؛ وأنَّ النَّساءَ قَدْ يَكُونُ رِبًا في البَيْعِ؛ بِقَوْلِهِ ﷺ: «"وإذا اخْتَلَفَ النَّوْعانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ؛ يَدًا بِيَدٍ"؛» وقَوْلِهِ: «"إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ"؛» وأنَّ السَّلَمَ في الحَيَوانِ قَدْ يَكُونُ رِبًا؛ بِقَوْلِهِ: «"إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ"؛» وقَوْلِهِ: «"إذا اخْتَلَفَ النَّوْعانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ؛ يَدًا بِيَدٍ"؛» وتَسْمِيَةِ عُمَرَ إيّاهُ رِبًا؛ وشِراءِ ما بِيعَ بِأقَلَّ مِن ثَمَنِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ؛ لِما بَيَّنّا؛ وشَرْطِ التَّعْجِيلِ مَعَ الحَطِّ.
وقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ في الأصْنافِ السِّتَّةِ؛ الَّتِي ورَدَ بِها الأثَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن جِهاتٍ كَثِيرَةٍ؛ وهو عِنْدَنا في حَيِّزِ التَّواتُرِ؛ لِكَثْرَةِ رُواتِهِ واتِّفاقِ الفُقَهاءِ عَلى اسْتِعْمالِهِ؛ واتَّفَقُوا أيْضًا في أنَّ مَضْمُونَ هَذا النَّصِّ مَعْنِيٌّ بِهِ تَعَلُّقُ الحُكْمِ؛ يَجِبُ اعْتِبارُهُ في غَيْرِهِ؛ واخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى اعْتِبارِ الجِنْسِ عَلى الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا فِيما سَلَفَ مِن هَذا البابِ؛ وأنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى الأصْنافِ السِّتَّةِ؛ وقَدْ قالَ قَوْمٌ - هم شُذُوذٌ عِنْدَنا؛ لا يُعَدُّونَ خِلافًا -: إنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ مَقْصُورٌ عَلى الأصْنافِ الَّتِي ورَدَ فِيها التَّوْقِيفُ؛ دُونَ تَحْرِيمِ غَيْرِها؛ ولِما ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُنا في اعْتِبارِ الكَيْلِ؛ والوَزْنِ دَلائِلَ مِنَ الأثَرِ والنَّظَرِ؛ وقَدْ ذَكَرْناها في مَواضِعَ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِن فَحْوى الخَبَرِ قَوْلُهُ: «اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ وزْنًا بِوَزْنٍ؛ والحِنْطَةُ بِالحِنْطَةِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ كَيْلًا بِكَيْلٍ»؛ فَأوْجَبَ اسْتِيفاءَ المُماثَلَةِ بِالوَزْنِ في المَوْزُونِ؛ وبِالكَيْلِ في المَكِيلِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الِاعْتِبارَ في التَّحْرِيمِ الكَيْلُ؛ والوَزْنُ؛ مَضْمُومًا إلى الجِنْسِ.
ومِمّا يَحْتَجُّ بِهِ المُخالِفُ مِنَ الآيَةِ؛ عَلى اعْتِبارِ الأكْلِ؛ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ﴾ [البقرة: ٢٧٥]؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾ [آل عمران: ١٣٠]؛ فَأطْلَقَ اسْمَ الرِّبا عَلى المَأْكُولِ؛ قالُوا: فَهَذا عُمُومٌ في إثْباتِ الرِّبا في المَأْكُولِ؛ وهَذا عِنْدَنا لا يَدُلُّ (p-١٨٨)عَلى ما قالُوا مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها ما قَدَّمْنا مِن إجْمالِ لَفْظِ الرِّبا في الشَّرْعِ؛ وافْتِقارِهِ إلى البَيانِ؛ فَلا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِعُمُومِهِ؛ وإنَّما يُحْتاجُ إلى أنْ يَثْبُتَ بِدَلالَةٍ أُخْرى أنَّهُ رِبًا حَتّى يُحَرِّمَهُ بِالآيَةِ ولا يَأْكُلَهُ؛ والثّانِي أنَّ أكْثَرَ ما فِيهِ إثْباتُ الرِّبا في مَأْكُولٍ؛ ولَيْسَ فِيهِ أنَّ جَمِيعَ المَأْكُولاتِ فِيها رِبًا؛ ونَحْنُ قَدْ أثْبَتْنا الرِّبا في كَثِيرٍ مِنَ المَأْكُولاتِ؛ وإذا فَعَلْنا ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنا عُهْدَةَ الآيَةِ؛ ولَما ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا مِنَ التَّوْقِيفِ؛ والِاتِّفاقِ عَلى تَحْرِيمِ بَيْعِ ألْفٍ بِألْفٍ ومِائَةٍ؛ كَما بَطَلَ بَيْعُ ألْفٍ بِألْفٍ إلى أجَلٍ؛ فَجَرى الأجَلُ المَشْرُوطُ مَجْرى النُّقْصانِ في المالِ؛ وكانَ بِمَنزِلَةِ بَيْعِ ألْفٍ بِألْفٍ ومِائَةٍ؛ وجَبَ ألّا يَصِحَّ الأجَلُ في القَرْضِ؛ كَما لا يَجُوزُ قَرْضُ ألْفٍ بِألْفٍ ومِائَةٍ؛ إذْ كانَ نُقْصانُ الأجَلِ كَنُقْصانِ الوَزْنِ؛ وكانَ الرِّبا تارَةً مِن جِهَةِ نُقْصانِ الوَزْنِ؛ وتارَةً مِن جِهَةِ نُقْصانِ الأجَلِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ القَرْضُ كَذَلِكَ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: لَيْسَ القَرْضُ في ذَلِكَ كالبَيْعِ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُفارَقَتُهُ في القَرْضِ قَبْلَ قَبْضِ البَدَلِ؛ ولا يَجُوزُ مِثْلُهُ في بَيْعِ ألْفٍ بِألْفٍ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّما يَكُونُ الأجَلُ نُقْصانًا إذا كانَ مَشْرُوطًا؛ فَأمّا إذا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَإنَّ تَرْكَ القَبْضِ لا يُوجِبُ نَقْصًا في أحَدِ المالَيْنِ؛ وإنَّما بَطَلَ البَيْعُ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ نُقْصانِ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا يَخْتَلِفُ الصِّنْفانِ؛ والصِّنْفُ الواحِدُ؛ في وُجُوبِ التَّقايُضِ في المَجْلِسِ؛ أعْنِي الذَّهَبَ بِالفِضَّةِ؛ مَعَ جَوازِ التَّفاضُلِ فِيهِما؟ فَعَلِمْنا أنَّ المُوجِبَ لِقَبْضِهِما لَيْسَ مِن جِهَةِ أنَّ تَرْكَ القَبْضِ مُوجِبٌ لِلنُّقْصانِ في غَيْرِ المَقْبُوضِ؛ ألا تَرى أنَّ رَجُلًا لَوْ باعَ مِن رَجُلٍ عَبْدًا بِألْفِ دِرْهَمٍ؛ ولَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ سِنِينَ؛ جازَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرابَحَةً عَلى ألْفٍ حالَّةٍ؛ ولَوْ كانَ باعَهُ بِألْفٍ إلى شَهْرٍ؛ ثُمَّ حَلَّ الأجَلُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ مُرابَحَةً عَلى ألْفٍ حالَّةٍ؛ حَتّى يُبَيِّنَ أنَّهُ اشْتَراهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الأجَلَ المَشْرُوطَ في العَقْدِ يُوجِبُ نَقْصًا في الثَّمَنِ؛ ويَكُونُ بِمَنزِلَةِ نُقْصانِ الوَزْنِ في الحُكْمِ؛ فَإذا كانَ كَذَلِكَ فالتَّشْبِيهُ بَيْنَ القَرْضِ؛ والبَيْعِ؛ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا؛ صَحِيحٌ؛ لا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ هَذا السُّؤالُ؛ ويَدُلُّ عَلى بُطْلانِ التَّأْجِيلِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «"إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ"؛» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ البَيْعِ؛ والقَرْضِ؛ فَهو عَلى الجَمِيعِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ القَرْضَ لَمّا كانَ تَبَرُّعًا؛ لا يَصِحُّ إلّا مَقْبُوضًا؛ أشْبَهَ الهِبَةَ؛ فَلا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ؛ كَما لا يَصِحُّ في الهِبَةِ؛ وقَدْ أبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ التَّأْجِيلَ فِيها بِقَوْلِهِ: «"مَن أعْمَرَ عُمْرى فَهي لَهُ؛ ولِوَرَثَتِهِ مِن بَعْدِهِ"؛» فَأبْطَلَ التَّأْجِيلَ المَشْرُوطَ في المِلْكِ؛ وأيْضًا فَإنَّ قَرْضَ الدَّراهِمِ عارِيَّتُها؛ وعارِيَّتُها قَرْضُها؛ لِأنَّها تَمْلِيكُ المَنافِعِ؛ إذْ لا يَصِلُ إلَيْها إلّا بِاسْتِهْلاكِ عَيْنِها؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إذا (p-١٨٩)أعارَهُ دَراهِمَ فَإنَّ ذَلِكَ قَرْضٌ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا اسْتِئْجارَ الدَّراهِمِ؛ لِأنَّها قَرْضٌ؛ فَكَأنَّهُ اسْتَقْرَضَ دَراهِمَ عَلى أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أكْثَرَ مِنها؛ فَلَمّا لَمْ يَصِحَّ الأجَلُ في العارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ في القَرْضِ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَرْضَ الدَّراهِمِ عارِيَّةٌ حَدِيثُ إبْراهِيمَ الهِجْرِيِّ؛ عَنْ أبِي الأحْوَصِ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَدْرُونَ أيُّ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ؟"؛ قالُوا: اَللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ؛ قالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ المِنحَةُ؛ أنْ تَمْنَحَ أخاكَ الدَّراهِمَ؛ أوْ ظَهْرَ الدّابَّةِ؛ أوْ لَبَنَ الشّاةِ"؛» والمِنحَةُ هي العارِيَّةُ؛ فَجَعَلَ قَرْضَ الدَّراهِمِ عارِيَّتَها؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ في حَدِيثٍ آخَرَ: «والمِنحَةُ مَرْدُودَةٌ»؟ فَلَمّا لَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ في العارِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ في القَرْضِ؛ وأجازَ الشّافِعِيُّ التَّأْجِيلَ في القَرْضِ؛ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ؛ ومِنهُ الإعانَةُ.
* * *
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾؛ قَدِ اقْتَضى ثُبُوتَ المُطالَبَةِ لِصاحِبِ الدَّيْنِ عَلى المَدِينِ؛ وجَوازَ أخْذِ رَأْسِ مالِ نَفْسِهِ مِنهُ بِغَيْرِ رِضاهُ؛ لِأنَّهُ (تَعالى) جَعَلَ اقْتِضاءَهُ ومُطالَبَتَهُ مِن غَيْرِ شَرْطِ رِضا المَطْلُوبِ؛ وهَذا يُوجِبُ أنَّ مَن لَهُ عَلى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَطالَبَهُ بِهِ؛ فَلَهُ أخْذُهُ مِنهُ؛ شاءَ أمْ أبى؛ وبِهَذا المَعْنى ورَدَ الأثَرُ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قالَتْ لَهُ هِنْدٌ: إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ؛ لا يُعْطِينِي ما يَكْفِينِي ووَلَدِي؛ فَقالَ: "خُذِي مِن مالِ أبِي سُفْيانَ ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ"؛» فَأباحَ لَها أخْذَ ما اسْتَحَقَّتْهُ عَلى أبِي سُفْيانَ مِنَ النَّفَقَةِ مِن غَيْرِ رِضا أبِي سُفْيانَ.
وفِي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الغَرِيمَ مَتى امْتَنَعَ مِن أداءِ الدَّيْنِ؛ مَعَ الإمْكانِ؛ كانَ ظالِمًا؛ ودَلالَتُها عَلى ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾؛ فَجَعَلَ لَهُ المُطالَبَةَ (p-١٩٦)بِرَأْسِ المالِ؛ وقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أمْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقَضائِهِ؛ وتَرْكِ الِامْتِناعِ مِن أدائِهِ؛ فَإنَّهُ مَتى امْتَنَعَ مِنهُ كانَ لَهُ ظالِمًا؛ ولِاسْمِ الظُّلْمِ مُسْتَحِقًّا؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ العُقُوبَةَ؛ وهي الحَبْسُ؛ والوَجْهُ الآخَرُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى) في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿لا تَظْلِمُونَ ولا تَظْلِمُونَ﴾؛ يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ -: لا تَظْلِمُونَ بِأخْذِ الزِّيادَةِ؛ ولا تُظْلَمُونَ بِالنُّقْصانِ مِن رَأْسِ المالِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مَتى امْتَنَعَ مِن أداءِ جَمِيعِ رَأْسِ المالِ إلَيْهِ كانَ ظالِمًا لَهُ؛ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ؛ واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ بِالضَّرْبِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حَبْسًا؛ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ ما عَداهُ مِنَ العُقُوباتِ ساقِطٌ عَنْهُ في أحْكامِ الدُّنْيا؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ؛ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ؛ عَنْ وبْرِ بْنِ أبِي دُلَيْلَةَ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ؛ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «"لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ"؛» قالَ ابْنُ المُبارَكِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ: يُغَلَّظُ لَهُ؛ وعُقُوبَتُهُ: يُحْبَسُ؛ ورَوى ابْنُ عُمَرَ؛ وجابِرٌ؛ وأبُو هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ؛ وإذا أُحِيلَ أحَدُكم عَلى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ"؛» فَجَعَلَ مَطْلَ الغَنِيِّ ظُلْمًا؛ والظّالِمُ لا مَحالَةَ مُسْتَحِقٌّ العُقُوبَةَ؛ وهي الحَبْسُ؛ لاتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ. وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ أسَدٍ قالَ: أخْبَرَنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قالَ: أخْبَرَنا هِرْماسُ بْنُ حَبِيبٍ؛ رَجُلٌ مِن أهْلِ البادِيَةِ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ جَدِّهِ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ بِغَرِيمٍ لِي؛ فَقالَ لِي: "اِلْزَمْهُ"؛ ثُمَّ قالَ: "يا أخا بَنِي تَمِيمٍ؛ ما تُرِيدُ أنْ تَفْعَلَ بِأسِيرِكَ؟"؛» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ حَبْسَ الغَرِيمِ؛ لِأنَّ الأسِيرَ يُحْبَسُ؛ فَلَمّا سَمّاهُ أسِيرًا لَهُ دَلَّ عَلى أنَّ لَهُ حَبْسَهُ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «"لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ؛ وعُقُوبَتَهُ"؛» والمُرادُ بِالعُقُوبَةِ هُنا الحَبْسُ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يُوجِبُ غَيْرَهُ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الحالِ الَّتِي تُوجِبُ الحَبْسَ؛ فَقالَ أصْحابُنا: إذا ثَبَتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّيُونِ؛ مِن أيِّ وجْهٍ ثَبَتَ؛ فَإنَّهُ يُحْبَسُ شَهْرَيْنِ؛ أوْ ثَلاثَةً؛ ثُمَّ يُسْألُ عَنْهُ؛ فَإنْ كانَ مُوسِرًا تَرَكَهُ في الحَبْسِ أبَدًا؛ حَتّى يَقْضِيَهُ؛ وإنْ كانَ مُعْسِرًا أخْلى سَبِيلَهُ؛ وذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ؛ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ المَطْلُوبَ إذا قالَ: إنِّي مُعْسِرٌ؛ وأقامَ البَيِّنَةَ عَلى ذَلِكَ؛ أوْ قالَ: فَسَلْ عَنِّي؛ فَلا يَسْألُ عَنْهُ أحَدًا؛ وحَبَسَهُ شَهْرَيْنِ؛ أوْ ثَلاثَةً؛ ثُمَّ يَسْألُ عَنْهُ؛ إلّا أنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالعُسْرِ؛ فَلا يَحْبِسُهُ؛ وذَكَرَ الطَّحاوِيُّ عَنْ أحْمَدَ بْنِ أبِي عِمْرانَ قالَ: كانَ مُتَأخِّرُو أصْحابِنا؛ مِنهم مُحَمَّدُ بْنُ شُجاعٍ؛ يَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ دَيْنٍ كانَ أصْلُهُ مِن مالٍ وقَعَ في يَدَيِ المَدِينِ؛ كَأثْمانِ البِياعاتِ؛ والعُرُوضِ؛ ونَحْوِها؛ فَإنَّهُ (p-١٩٧)يَحْبِسُهُ بِهِ؛ وما لَمْ يَكُنْ أصْلُهُ مِن مالٍ وقَعَ في يَدِهِ؛ مِثْلَ المَهْرِ؛ والجُعْلِ مِنَ الخُلْعِ؛ والصُّلْحِ مِن دَمِ العَمْدِ؛ والكَفالَةِ؛ لَمْ يَحْبِسْهُ بِهِ؛ حَتّى يَثْبُتَ وُجُودُهُ ومَلاؤُهُ؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: يَحْبِسُهُ في الدُّيُونِ إذا أخْبَرَ أنَّ عِنْدَهُ مالًا؛ وقالَ مالِكٌ: لا يُحْبَسُ الحُرُّ؛ ولا العَبْدُ في الدَّيْنِ؛ ولا يُسْتَبْرَأُ أمْرُهُ؛ فَإنِ اتُّهِمَ أنَّهُ قَدْ خَبَّأ مالًا حَبَسَهُ؛ وإنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَيْئًا لَمْ يَحْبِسْهُ؛ وخَلّاهُ؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذا كانَ مُوسِرًا حُبِسَ؛ وإنْ كانَ مُعْسِرًا لَمْ يُحْبَسْ؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِيعَ ما ظَهَرَ؛ ودُفِعَ؛ ولَمْ يُحْبَسْ؛ فَإنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ؛ وبِيعَ ما قَدَرَ عَلَيْهِ مِن مالِهِ؛ فَإنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنهُ البَيِّنَةُ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ وأحْلَفَهُ مَعَ ذَلِكَ بِاللَّهِ؛ ومَنَعَ غُرَماءَهُ مِن لُزُومِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّما قالَ أصْحابُنا: إنَّهُ يَحْبِسُهُ في أوَّلِ ما ثَبَتَ عِنْدَ القاضِي دَيْنُهُ؛ لِما دَلَلْنا عَلَيْهِ مِنَ الآيَةِ؛ والأثَرِ؛ عَلى كَوْنِهِ ظالِمًا في الِامْتِناعِ مِن قَضاءِ ما ثَبَتَ عَلَيْهِ؛ وأنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مَتى امْتَنَعَ مِن أداءِ ما وجَبَ عَلَيْهِ؛ فالواجِبُ بَقاءُ العُقُوبَةِ عَلَيْهِ حَتّى يَثْبُتَ زَوالُها عَنْهُ بِالإعْسارِ؛ فَإنْ قِيلَ: إنَّما يَكُونُ ظالِمًا إذا امْتَنَعَ مِن أدائِهِ مَعَ الإمْكانِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يَذُمُّهُ عَلى ما لَمْ يُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ؛ ولَمْ يُمَكِّنْهُ مِنهُ؛ ولِذَلِكَ شَرَطَ النَّبِيُّ ﷺ الوُجُودَ في اسْتِحْقاقِ العُقُوبَةِ؛ بِقَوْلِهِ: «"لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ؛ وعُقُوبَتَهُ"؛» وإذا كانَ شَرْطُ اسْتِحْقاقِ العُقُوبَةِ وُجُودَ المالِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أداؤُهُ مِنهُ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ حَبْسُهُ وعُقُوبَتُهُ؛ إلّا بَعْدَ أنْ يَثْبُتَ أنَّهُ واجِدٌ مُمْتَنِعٌ مِن أداءِ ما وجَبَ عَلَيْهِ؛ ولَيْسَ ثُبُوتُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عَلَمًا لِإمْكانِ أدائِهِ عَلى الدَّوامِ؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَحْدُثَ الإعْسارُ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ؛ قِيلَ لَهُ: أمّا الدُّيُونُ الَّتِي حَصَلَتْ أبْدالُها في يَدِهِ فَقَدْ عَلِمْنا يَسارَهُ بِأدائِها يَقِينًا؛ ولَمْ نَعْلَمْ إعْسارَهُ بِها؛ فَوَجَبَ كَوْنُهُ باقِيًا عَلى حُكْمِ اليَسارِ؛ والوُجُودِ؛ حَتّى يَثْبُتَ الإعْسارُ؛ وأمّا ما كانَ لَزِمَهُ مِنها مِن غَيْرِ بَدَلٍ حَصَلَ في يَدِهِ يُمْكِنُهُ أداؤُهُ مِنهُ؛ فَإنَّ دُخُولَهُ في العَقْدِ الَّذِي ألْزَمَهُ ذَلِكَ اعْتِرافٌ مِنهُ بِلُزُومِ أدائِهِ؛ وتَوَجَّهَ المُطالَبَةُ عَلَيْهِ بِقَضائِهِ؛ ودَعْواهُ الإعْسارَ بِهِ بِمَنزِلَةِ دَعْوى التَّأْجِيلِ لِلْمُوسِرِ؛ فَهو غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ؛ ولِذَلِكَ سَوّى أصْحابُنا بَيْنَ الدُّيُونِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ حُصُولُ أبْدالِها في يَدِهِ؛ وبَيْنَ ما لَمْ تَحْصُلْ في يَدِهِ؛ إذْ كانَ دُخُولُهُ في العَقْدِ المُوجِبِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّيْنَ اعْتِرافًا مِنهُ بِلُزُومِ الأداءِ؛ وثُبُوتِ حَقِّ المُطالَبَةِ لِلْمُطالِبِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ مُتَعاقِدَيْنِ دَخَلا في عَقْدٍ فَدُخُولُهُما فِيهِ اعْتِرافٌ مِنهُما بِلُزُومِ مُوجِبِ العَقْدِ مِنَ الحُقُوقِ؛ وغَيْرُ مُصَدَّقٍ بَعْدَ العَقْدِ واحِدٌ مِنهُما عَلى نَفْيِ مُوجِبِهِ؛ ومِن أجْلِ ذَلِكَ قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اعْتِرافًا مِنهُما بِصِحَّتِهِ؛ إذْ كانَ ذَلِكَ (p-١٩٨)مُضَمِّنًا لِلُزُومِ حُقُوقِهِ؛ وفي تَصْدِيقِهِ عَلى فَسادِهِ نَفْيُ ما لَزِمَهُ بِظاهِرِ العَقْدِ؛ ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ في أنَّ مُدَّعِيَ الفَسادِ مِنهُما بَعْدَ وُقُوعِ العَقْدِ بَيْنَهُما؛ وصِحَّتِهِ في الظّاهِرِ؛ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ؛ وأنَّ القَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنهُما؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا مِن أنَّ مَن ألْزَمَ نَفْسَهُ دَيْنًا بِعَقْدٍ عَقَدَهُ عَلى نَفْسِهِ؛ أنَّهُ يَلْزَمُهُ أداؤُهُ؛ ومَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ مُوسِرٌ بِهِ؛ وغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلى الإعْسارِ المُسْقِطِ عَنْهُ المُطالَبَةَ؛ كَما لا يُصَدَّقُ عَلى التَّأْجِيلِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ حالًّا.
وإنَّما قالَ أصْحابُنا: إنَّهُ يَحْبِسُهُ في أوَّلِ ما يَرْفَعُهُ إلى القاضِي؛ إذا طَلَبَ ذَلِكَ الطّالِبُ؛ ولا يُسْألُ عَنْهُ؛ مِن قِبَلِ أنَّهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ المُطالَبَةُ بِأدائِهِ؛ ومَحْكُومٌ لَهُ بِاليَسارِ في قَضائِهِ؛ فالواجِبُ أنْ يَسْتَبْرِئَ أمْرَهُ بَدِيًّا؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ لَهُ مالٌ قَدْ خَبَّأهُ لا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ فَلا يُوقَفُ بِذَلِكَ عَلى إعْسارِهِ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ أنْ يَحْبِسَهُ اسْتِظْهارًا لِما عَسى أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ؛ إذْ كانَ في الأغْلَبِ أنَّهُ إنْ كانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ آخَرُ أضْجَرَهُ الحَبْسُ؛ وألْجَأهُ إلى إخْراجِهِ؛ فَإذا حَبَسَهُ هَذِهِ المُدَّةَ فَقَدِ اسْتَظْهَرَ في الغالِبِ؛ فَحِينَئِذٍ يُسْألُ عَنْهُ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ هُناكَ مَن يَعْلَمُ يَسارَهُ سِرًّا؛ فَإذا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسارُهُ خَلّاهُ مِنَ الحَبْسِ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أنَّهُ كانَ يَحْبِسُ المُعْسِرَ في غَيْرِ الرِّبا مِنَ الدُّيُونِ؛ فَقالَ لَهُ: مُعْسِرٌ قَدْ حَبَسَهُ: قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ فَقالَ شُرَيْحٌ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨]؛ واللَّهُ لا يَأْمُرُنا بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنا عَلَيْهِ؛ وقَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ في تَأْوِيلِ الآيَةِ؛ وأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ مَقْصُورٌ عَلى الرِّبا؛ دُونَ غَيْرِهِ؛ وأنَّ غَيْرَهُ مِنَ الدُّيُونِ لا يَخْتَلِفُ في الحَبْسِ فِيها المُوسِرُ والمُعْسِرُ؛ ويُشْتَبَهُ أنْ يَكُونَ ذَهَبَ في ذَلِكَ إلى أنَّهُ لا سَبِيلَ لَنا إلى مَعْرِفَةِ الإعْسارِ عَلى الحَقِيقَةِ؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَظْهَرَ الإعْسارُ؛ وحَقِيقَةُ أمْرِهِ اليَسارُ؛ فاقْتَصَرَ بِحُكْمِ الإنْظارِ عَلى رَأْسِ مالِ الرِّبا؛ الَّذِي نَزَلَ بِهِ القُرْآنُ؛ وحُمِلَ ما عَداهُ عَلى مُوجِبِ عَقْدِ المُدايَنَةِ مِن لُزُومِ القَضاءِ؛ وتَوَجَّهَ المُطالَبَةُ عَلَيْهِ بِالأداءِ؛ وقَدْ بَيَّنّا وجْهَ فَسادِ هَذا القَوْلِ بِما قَدْ دَلَلْنا عَلَيْهِ مِن مُقْتَضى عُمُومِ اللَّفْظِ لِسائِرِ الدُّيُونِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كانَ نَصُّ التَّنْزِيلِ وارِدًا في الرِّبا؛ دُونَ غَيْرِهِ؛ لَكانَ سائِرُ الدُّيُونِ بِمَنزِلَتِهِ قِياسًا عَلَيْهِ؛ إذْ لا فارِقَ في حالِ اليَسارِ بَيْنَهُما في صِحَّةِ لُزُومِ المُطالَبَةِ بِهِما؛ ووُجُوبِ أدائِهِما؛ فَوَجَبَ ألّا يَخْتَلِفا في حالِ الأداءِ في سُقُوطِ الحَبْسِ فِيها؛ دُونَهُ.
فَأمّا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨]؛ واحْتِجاجُ شُرَيْحٍ بِهِ في حَبْسِ المَطْلُوبِ؛ فَإنَّ الآيَةَ إنَّما هي في الأعْيانِ المَوْجُودَةِ في يَدِهِ لِغَيْرِهِ؛ فَعَلَيْهِ أداؤُها؛ وأمّا الدُّيُونُ (p-١٩٩)المَضْمُونَةُ في ذِمَّتِهِ؛ فَإنَّما المُطالَبَةُ بِها مُعَلَّقَةٌ بِإمْكانِ أدائِها؛ فَمَن كانَ مُعْسِرًا فَإنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمْ يُكَلِّفْهُ إلّا ما في إمْكانِهِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: ٧]؛ فَإذا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِأدائِها لَمْ يَجُزْ أنْ يُحْبَسَ بِها؛ فَإنْ قِيلَ: إنَّ الدَّيْنَ مِنَ الأماناتِ؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ وإنَّما يُرِيدُ بِهِ الدَّيْنَ المَذْكُورَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ قِيلَ لَهُ: إنْ كانَ الدَّيْنُ مُرادًا بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨]؛ فَإنَّ الأمْرَ بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلى شَرِيطَةِ الإمْكانِ؛ لِما وصَفْنا مِن أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يُكَلِّفُ أحَدًا ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ ولا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ؛ وهو مَحْكُومٌ لَهُ مِن ظاهِرِ إعْسارِهِ أنَّهُ غَيْرُ قادِرٍ عَلى أدائِهِ؛ ولَمْ يَكُنْ شُرَيْحٌ؛ ولا أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ يَخْفى عَلَيْهِمْ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يُكَلِّفُ أحَدًا ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ بَلْ كانُوا عالِمِينَ بِذَلِكَ؛ ولَكِنَّهُ ذَهَبَ عِنْدِي - واللَّهُ أعْلَمُ - إلى أنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ وُجُودَ ذَلِكَ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى أدائِهِ مَعَ ظُهُورِ إعْسارِهِ؛ فَلِذَلِكَ حَبَسَهُ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الحاكِمِ؛ إذا ثَبَتَ عِنْدَهُ إعْسارُهُ وأطْلَقَهُ مِنَ الحَبْسِ؛ هَلْ يَحُولُ بَيْنَ الطّالِبِ؛ وبَيْنَ لُزُومِهِ؛ فَقالَ أصْحابُنا: لِلطّالِبِ أنْ يُلْزِمَهُ؛ وذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ؛ عَنْ مُحَمَّدٍ قالَ: والمَلْزُومُ في الدَّيْنِ لا يُمْنَعُ مِن دُخُولِ مَنزِلِهِ لِلْغِذاءِ؛ والغائِطِ؛ والبَوْلِ؛ فَإنْ أعْطاهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ: الغِذاءَ؛ ومَوْضِعَ الخَلاءِ؛ فَلَهُ أنْ يَمْنَعَهُ مِن إتْيانِ مَنزِلِهِ؛ وقالَ غَيْرُهُمْ؛ مِنهم مالِكٌ؛ والشّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أنْ يُلْزِمَهُ؛ وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُؤاجَرُ الحُرُّ المُعْسِرُ؛ فَيُقْضى دَيْنُهُ مِن أُجْرَتِهِ؛ ولا نَعْلَمُ أحَدًا قالَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ إلّا الزُّهْرِيُّ؛ فَإنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوى عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: يُؤاجَرُ المُعْسِرُ بِما عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتّى يُقْضى عَنْهُ؛ والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ ظُهُورَ الإعْسارِ لا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ؛ والمُطالَبَةَ؛ والِاقْتِضاءَ؛ حَدِيثُ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ عائِشَةَ؛ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اشْتَرى مِن أعْرابِيٍّ بَعِيرًا إلى أجَلٍ؛ فَلَمّا حَلَّ الأجَلُ جاءَهُ يَتَقاضاهُ؛ فَقالَ: "جِئْتَنا وما عِنْدَنا شَيْءٌ؛ ولَكِنْ أقِمْ حَتّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ"؛ فَجَعَلَ الأعْرابِيُّ يَقُولُ: وا غَدْراهُ؛ فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ؛ فَقالَ ﷺ: "دَعْهُ فَإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مَقالًا"؛» فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ ولَمْ يَمْنَعْهُ الِاقْتِضاءَ؛ وقالَ: «"إنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مَقالًا"؛» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الإعْسارَ بِالدَّيْنِ غَيْرُ مانِعٍ اقْتِضاءَهُ؛ ولُزُومَهُ بِهِ؛ وقَوْلُهُ: «"أقِمْ حَتّى تَأْتِيَ الصَّدَقَةُ"؛» يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّما اشْتَرى البَعِيرَ لِلصَّدَقَةِ؛ لا لِنَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ اشْتَراهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِيَقْضِيَهُ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ (p-٢٠٠)مَنِ اشْتَرى لِغَيْرِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ ما اشْتَرى؛ وأنَّ حُقُوقَ العَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ؛ دُونَ المُشْتَرى لَهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَمْنَعْهُ اقْتِضاءَهُ؛ ومُطالَبَتَهُ بِهِ؛ وهو في مَعْنى الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ أبُو رافِعٍ؛ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا؛ ثُمَّ قَضاهُ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ»؛ لِأنَّ السَّلَفَ كانَ دَيْنًا عَلى مالِ الصَّدَقَةِ.
ورُوِيَ في خَبَرٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"لِصاحِبِ الحَقِّ اليَدُ؛ واللِّسانُ"؛» رَواهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ؛ وقالَ: «فِي اليَدِ اللُّزُومُ؛ وفي اللِّسانِ الِاقْتِضاءُ»؛ وحَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ في الرِّوايَةِ قالَ: أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ عَنْ عَمْرِو بْنِ أبِي عُمَرَ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ «أنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنانِيرَ؛ فَقالَ لَهُ: واللَّهِ ما عِنْدِي شَيْءٌ أقْضِيكَهُ اليَوْمَ؛ قالَ: واللَّهِ لا أُفارِقُكَ حَتّى تَقْضِيَنِي؛ أوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ يَتَحَمَّلُ عَنْكَ؛ قالَ: واللَّهِ ما عِنْدِي قَضاءٌ؛ ولا أجِدُ مَن يَحْتَمِلُ عَنِّي؛ قالَ: فَجاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ هَذا لَزِمَنِي فاسْتَنْظَرْتُهُ شَهْرًا واحِدًا؛ فَأبى حَتّى أقْضِيَهُ؛ أوْ آتِيَهُ بِحَمِيلٍ؛ فَقُلْتُ: واللَّهِ ما أجِدُ حَمِيلًا؛ ولا عِنْدِي قَضاءٌ اليَوْمَ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ تُنْظِرُهُ شَهْرًا واحِدًا؟"؛ قالَ: لا؛ قالَ: "أنا أحْمِلُ بِها"؛ فَتَحَمَّلَ بِها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ فَذَهَبَ الرَّجُلُ؛ فَأتاهُ بِقَدْرِ ما وعَدَهُ؛ فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مِن أيْنَ أصَبْتَ هَذا الذَّهَبَ؟"؛ قالَ: مِن مَعْدِنٍ؛ قالَ: "اِذْهَبْ؛ فَلا حاجَةَ لَنا فِيها؛ لَيْسَ فِيها خَيْرٌ"؛ فَقَضى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ؛» وفي هَذا الحَدِيثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن لُزُومِهِ؛ مَعَ حَلِفِهِ بِاللَّهِ: ما عِنْدَهُ قَضاءٌ.
وحَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ في الرِّوايَةِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجارُودِ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ أبِي بَكْرِ بْنِ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُبَيْدَةَ قالَ: حَدَّثَنا أبِي؛ عَنِ الأعْمَشِ؛ عَنْ أبِي صالِحٍ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «جاءَ أعْرابِيٌّ إلى النَّبِيِّ ﷺ يَتَقاضاهُ تَمْرًا كانَ عَلَيْهِ؛ وشَدَّدَ عَلَيْهِ الأعْرابِيُّ؛ حَتّى قالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إلّا قَضَيْتَنِي؛ فانْتَهَرَهُ الصَّحابَةُ؛ فَقالُوا لَهُ: ويْحَكَ؛ أتَدْرِي مَن تُكَلِّمُ؟ فَقالَ لَهُمْ: إنِّي طالِبُ حَقٍّ؛ فَقالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: "هَلّا مَعَ صاحِبِ الحَقِّ كُنْتُمْ؟"؛ ثُمَّ أرْسَلَ إلى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ فَقالَ لَها: "إنْ كانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأقْرِضِينا حَتّى يَأْتِيَنا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ"؛ فَقالَتْ: نَعَمْ؛ بِأبِي أنْتَ وأُمِّي يا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأقْرَضَتْهُ؛ فَقَضى الأعْرابِيَّ؛ وأطْعَمَهُ؛ فَقالَ: أوْفَيْتَنا؛ أوْفى اللَّهُ لَكَ؛ فَقالَ: "أُولَئِكَ خِيارُ النّاسِ؛ إنَّها لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ مِنها حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ"؛» فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ما يَقْضِيهِ؛ ولَمْ يُنْكِرْ عَلى الأعْرابِيِّ مُطالَبَتَهُ؛ واقْتِضاءَهُ بِذَلِكَ؛ بَلْ أنْكَرَ عَلى الصَّحابَةِ انْتِهارَهم إيّاهُ؛ وقالَ: «"هَلّا مَعَ صاحِبِ الحَقِّ كُنْتُمْ؟"؛» وهَذا يُوجِبُ ألّا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الإعْسارِ دُونَ أنْ يُنْظِرَهُ الطّالِبُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ (p-٢٠١)أيْضًا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ العَبّاسِ المُؤَدِّبُ قالَ: حَدَّثَنا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحادَةَ؛ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ؛ عَنْ أبِيهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «"مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ؛ ومَن أنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ"؛ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: "مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ صَدَقَةٌ"؛ ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: "لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ"؛ قالَ: "مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا قَبْلَ أنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ؛ فَلَهُ صَدَقَةٌ؛ ومَن أنْظَرَهُ إذا حَلَّ الدَّيْنُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ"؛» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ السَّرّاجِ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الهَرَوِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ حُجْنَةَ الأسَدِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي عُبادَةُ بْنُ الوَلِيدِ بْنِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ؛ أنَّهُ سَمِعَ أبا اليُسْرِ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا؛ أوْ وضَعَ لَهُ؛ أظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ"؛» فَقَوْلُهُ في الحَدِيثِ الأوَّلِ: «"مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ"؛» يُوجِبُ ألّا يَكُونَ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الإعْسارِ دُونَ إنْظارِ الطّالِبِ إيّاهُ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُنْظَرًا بِغَيْرِ إنْظارِهِ لَما صَحَّ القَوْلُ بِأنَّ «"مَن أنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ"؛» إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوابَ إلّا عَلى فِعْلِهِ؛ فَأمّا مَن قَدْ صارَ مُنْظِرًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوابَ بِالإنْظارِ؛ وحَدِيثُ أبِي اليُسْرِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما ما أخْبَرَ عَنْهُ مِنَ اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ بِإنْظارِهِ؛ والثّانِي أنَّهُ جَعَلَ الإنْظارَ بِمَنزِلَةِ الحَطِّ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ الحَطَّ لا يَقَعُ إلّا بِفِعْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ الإنْظارُ؛ وهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ يَنْصَرِفُ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ؛ إمّا أنْ يَكُونَ وُقُوعُ الإنْظارِ هو تَخْلِيَتَهُ مِنَ الحَبْسِ؛ وتَرْكَ عُقُوبَتِهِ؛ إذْ كانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَها؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّما جَعَلَ مَطْلَ الغَنِيِّ ظُلْمًا؛ فَإذا ثَبَتَ إعْسارُهُ فَهو غَيْرُ ظالِمٍ بِتَرْكِ القَضاءِ؛ فَأمَرَ اللَّهُ (تَعالى) بِإنْظارِهِ مِنَ الحَبْسِ؛ فَلا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ لُزُومِهِ؛ أوْ أنْ يَكُونَ المُرادُ النَّدْبَ؛ والإرْشادَ إلى إنْظارِهِ بِتَرْكِ لُزُومِهِ؛ ومُطالَبَتِهِ؛ فَلا يَكُونُ مُنْظَرًا إلّا بِنَظِرَةِ الطّالِبِ؛ بِدَلالَةِ الأخْبارِ الَّتِي أوْرَدْناها.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: اَللُّزُومُ بِمَنزِلَةِ الحَبْسِ لا فارِقَ بَيْنَهُما؛ لِأنَّهُ في الحالَيْنِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ؛ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ اللُّزُومَ لا يَمْنَعُهُ التَّصَرُّفَ؛ فَإنَّما مَعْناهُ أنْ يَكُونَ مَعَهُ مِن قِبَلِ الطّالِبِ مَن يُراعِي أمْرَهُ في كَسْبِهِ؛ وما يَسْتَفِيدُهُ؛ فَيَتْرُكَ لَهُ مِقْدارَ القُوتِ؛ ويَأْخُذَ الباقِي قَضاءً مِن دَيْنِهِ؛ ولَيْسَ في ذَلِكَ إيجابُ حَبْسٍ؛ ولا عُقُوبَةٍ؛ ورَوى مَرْوانُ بْنُ مُعاوِيَةَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مالِكٍ الأشْجَعِيُّ؛ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِراشٍ؛ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِعَبْدٍ (p-٢٠٢)مِن عِبادِهِ: (ما عَمِلْتَ؟)"؛ قالَ: ما عَمِلْتُ لَكَ كَثِيرَ عَمَلٍ أرْجُوكَ بِهِ مِن صَلاةٍ؛ ولا صَوْمٍ؛ غَيْرَ أنَّكَ كُنْتَ أعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِن مالٍ فَكُنْتُ أُخالِطُ النّاسَ؛ فَأُيَسِّرُ عَلى المُوسِرِ؛ وأُنْظِرُ المُعْسِرَ؛ فَقالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: (نَحْنُ أحَقُّ بِذَلِكَ مِنكَ؛ تَجاوَزُوا عَنْ عَبْدِي)؛ فَغَفَرَ لَهُ"؛» فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَكَذا سَمِعْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ.
وهَذا الحَدِيثُ أيْضًا يَدُلُّ عَلى مِثْلِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأخْبارُ المُتَقَدِّمَةُ مِن أنَّ الإنْظارَ لا يَقَعُ بِنَفْسِ الإعْسارِ؛ لِأنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إنْظارِ المُعْسِرِ؛ والتَّيْسِيرِ عَلى المُوسِرِ؛ وذَلِكَ كُلُّهُ مَندُوبٌ إلَيْهِ؛ غَيْرُ واجِبٍ؛ واحْتَجَّ مَن حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ لُزُومِهِ إذا أعْسَرَ؛ وجَعَلَهُ مُنْظَرًا بِنَفْسِ الإعْسارِ؛ بِما رَواهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ؛ عَنْ بُكَيْرٍ؛ عَنْ عِياضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ «أنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ثِمارٍ ابْتاعَها؛ فَكَثُرَ دَيْنُهُ؛ فَقالَ ﷺ: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"؛ فَتَصَدَّقَ النّاسُ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وفاءَ دَيْنِهِ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خُذُوا ما وجَدْتُمْ؛ لَيْسَ لَكم إلّا ذَلِكَ"؛» فاحْتَجَّ القائِلُ بِما وصَفْنا بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَيْسَ لَكم إلّا ذَلِكَ»؛ وأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ اللُّزُومِ؛ فَيُقالُ لَهُ: مَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ سُقُوطَ دُيُونِهِمْ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ مَتى وُجِدَ كانَ الغُرَماءُ أحَقَّ بِما فَضُلَ عَنْ قُوتِهِ؛ وإذا لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ بَقاءَ حُقُوقِهِمْ في ذِمَّتِهِ؛ فَكَذَلِكَ لا يَمْنَعُ بَقاءَ لُزُومِهِمْ لَهُ لِيَسْتَوْفُوا دُيُونَهم مِمّا يَكْسِبُهُ فاضِلًا عَنْ قُوتِهِ؛ وهَذا هو مَعْنى اللُّزُومِ؛ لِأنّا لا نَخْتَلِفُ في ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِيما يَكْسِبُهُ في المُسْتَقْبَلِ؛ فَقَدِ اقْتَضى ذَلِكَ ثُبُوتَ حَقِّ اللُّزُومِ لَهُمْ؛ ولَمْ يَنْتَفِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﷺ: «"لَيْسَ لَكم إلّا ذَلِكَ"؛» كَما لَمْ يَنْتَفِ بَقاءُ حُقُوقِهِمْ فِيما يَسْتَفِيدُهُ.
وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في الأخْبارِ الَّتِي ذَكَرْنا؛ مِن إنْظارِ المُعْسِرِ؛ وما ذُكِرَ مِن تَرْغِيبِ الطّالِبِ في إنْظارِهِ؛ يَدُلُّ عَلى جَوازِ التَّأْجِيلِ في الدُّيُونِ الحالَّةِ الواجِبَةِ عَنِ الغُصُوبِ؛ والبُيُوعِ؛ وزَعَمَ الشّافِعِيُّ أنَّهُ إذا كانَ حالًّا في الأصْلِ لا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ بِهِ؛ وذَلِكَ خِلافُ الآثارِ الَّتِي قَدَّمْنا؛ لِأنَّها قَدِ اقْتَضَتْ جَوازَ تَأْجِيلِهِ؛ وبَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِيمَن أجَّلَ قَبْلَ أنْ يَحِلَّ أوْ بَعْدَما حَلَّ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدُهُ؛ وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الأحْوَصِ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ سَمْعانَ؛ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قالَ: «خَطَبَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: "هَهُنا أحَدٌ مِن بَنِي فُلانٍ؟"؛ فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ؛ ثُمَّ قالَ: "هَهُنا أحَدٌ مِن بَنِي فُلانٍ؟"؛ فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ؛ ثُمَّ قالَ: "هَهُنا أحَدٌ مِن بَنِي فُلانٍ؟"؛ فَقامَ رَجُلٌ فَقالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ما مَنَعَكَ أنْ تُجِيبَنِي في المَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ؟ إنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكم إلّا خَيْرًا؛ إنَّ صاحِبَكم مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ"؛» فَلَقَدْ رَأيْتُهُ أدّى عَنْهُ حَتّى (p-٢٠٣)ما أحَدٌ يُطالِبُهُ بِشَيْءٍ؛ وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ المُهْرِيُّ النَّهْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا وهْبٌ قالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أبِي أيُّوبَ أنَّهُ سَمِعَ أبا عَبْدِ اللَّهِ القُرَشِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا بُرْدَةَ بْنَ أبِي مُوسى الأشْعَرِيَّ يَقُولُ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"إنَّ أعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أنْ يَلْقاهُ عَبْدٌ؛ بَعْدَ الكَبائِرِ الَّتِي نَهاهُ اللَّهُ عَنْها؛ أنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وعَلَيْهِ دَيْنٌ لا يَدَعُ لَهُ قَضاءً"؛» وفي هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُطالَبَةَ؛ واللُّزُومَ؛ لا يَسْقُطانِ عَنِ المُعْسِرِ؛ كَما لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ المُطالَبَةُ بِالمَوْتِ؛ وإنْ لَمْ يَدَعْ لَهُ وفاءً.
فَإنْ قِيلَ: لا يَخْلُوَ هَذا الرَّجُلُ المَدِينُ؛ إذا ماتَ مُفْلِسًا؛ مِن أنْ يَكُونَ مُفَرِّطًا في قَضاءِ دَيْنِهِ؛ أوْ غَيْرَ مُفَرِّطٍ؛ فَإنْ كانَ مُفَرِّطًا فَإنَّما هو مُطالَبٌ عِنْدَ اللَّهِ (تَعالى) بِتَفْرِيطِهِ؛ كَسائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنها؛ وإنْ كانَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ فاللَّهُ (تَعالى) لا يُؤاخِذُهُ بِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يُؤاخِذُ أحَدًا إلّا بِذَنْبِهِ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّما ذَلِكَ فِيمَن فَرَّطَ في قَضاءِ دَيْنِهِ؛ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِن تَفْرِيطِهِ حَتّى ماتَ مُفْلِسًا؛ فَيَكُونُ مُؤاخَذًا بِهِ؛ وهَذا حُكْمُ المُعْسِرِ بِدَيْنِ الآدَمِيِّ؛ لِأنّا لا نَعْلَمُ تَوْبَتَهُ مِن تَفْرِيطِهِ؛ فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ مُطالَبًا بِهِ في الدُّنْيا؛ كَما كانَ مُؤاخَذًا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ (تَعالى).
فَإنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ المُفَرِّطِ في قَضاءِ دَيْنِهِ؛ المُصِرِّ عَلى تَفْرِيطِهِ؛ وبَيْنَ مَن لَمْ يُفَرِّطْ أصْلًا؛ أوْ فَرَّطَ ثُمَّ تابَ مِن تَفْرِيطِهِ؛ فَتُوجِبُوا لَهُ لُزُومَ مَن فَرَّطَ ولَمْ يَتُبْ؛ ولا تَجْعَلُوا لَهُ ذَلِكَ فِيمَن لَمْ يُفَرِّطْ؛ أوْ فَرَّطَ ثُمَّ تابَ؛ قِيلَ لَهُ: لَوْ وقَفْنا عَلى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ مِن تَفْرِيطِهِ؛ أوْ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا في قَضائِهِ؛ لَخالَفْنا بَيْنَ حُكْمِهِ وحُكْمِ مَن ظَهَرَ تَفْرِيطُهُ في بابِ اللُّزُومِ؛ كَما اخْتَلَفَ حُكْمُهُما عِنْدَ اللَّهِ (تَعالى)؛ ولَكِنّا لا نَعْلَمُ أنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ في الحَقِيقَةِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ لَهُ مالٌ مَخْبُوءٌ؛ وقَدْ أظْهَرَ الإعْسارَ؛ وكَذَلِكَ المُظْهِرُ لِتَوْبَتِهِ مِن تَفْرِيطِهِ؛ مَعَ ظُهُورِ عُسْرَتِهِ؛ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِأداءِ دَيْنِهِ؛ ولا تَكُونُ لِما أظْهَرُهُ حَقِيقَةٌ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ اللُّزُومِ والمُطالَبَةِ قائِمٌ عَلَيْهِ؛ كَما تَثْبُتُ عَلَيْهِ المُطالَبَةُ لِلَّهِ (تَعالى) بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وحَدِيثُ أبِي قَتادَةَ أيْضًا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُتَوَكِّلِ العَسْقَلانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: حَدَّثَنا مَعْمَرٌ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ جابِرٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يُصَلِّي عَلى رَجُلٍ ماتَ وعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَأُتِيَ بِمَيِّتٍ فَقالَ: "أعَلَيْهِ دَيْنٌ؟"؛ فَقالُوا: نَعَمْ؛ دِينارانِ؛ فَقالَ: "صَلُّوا عَلى صاحِبِكُمْ"؛ فَقالَ أبُو قَتادَةَ الأنْصارِيُّ: هُما عَلَيَّ يا رَسُولَ اللَّهِ؛ قالَ: فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: "أنا أوْلى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِن نَفْسِهِ؛ فَمَن تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضاؤُهُ؛ ومَن تَرَكَ مالًا فَلِوَرَثَتِهِ"؛» فَلَوْ لَمْ تَكُنِ (p-٢٠٤)المُطالَبَةُ قائِمَةً عَلَيْهِ إذا ماتَ مُفْلِسًا؛ كانَ لا يَتْرُكُ الصَّلاةَ عَلَيْهِ إذا ماتَ مُفْلِسًا؛ لِأنَّهُ كانَ يَكُونُ بِمَنزِلَةِ مَن لا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإعْسارَ لا يُسْقِطُ عَنْهُ اللُّزُومَ؛ والمُطالَبَةَ؛ وقَدْ رَوى إسْماعِيلُ بْنُ المُهاجِرِ؛ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: كانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ إذا أتاهُ رَجُلٌ بِغَرِيمِهِ قالَ: هاتِ بَيِّنَةً عَلى مالٍ أحْبِسْهُ؛ فَإنْ قالَ: فَإنِّي إذًا ألْزَمُهُ؛ قالَ: وما مَنَعَكَ مِن لُزُومِهِ؟ وأمّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؛ في إجازَتِهِما الحَدَّ واسْتِيفاءَ الدَّيْنِ مِن أُجْرَتِهِ؛ فَخِلافُ الآيَةِ؛ والآثارِ المَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ أمّا الآيَةُ فَقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ ولَمْ يَقُلْ: "فَلْيُؤاجَرْ بِما عَلَيْهِ"؛ وسائِرُ الأخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنها إجارَتُهُ؛ وإنَّما فِيها لُزُومُهُ أوْ تَرْكُهُ؛ وحَدِيثُ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: "لَيْسَ لَكم إلّا ذَلِكَ"؛ حِينَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ غَيْرَ ما أخَذُوا.
{"ayah":"فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُوا۟ فَأۡذَنُوا۟ بِحَرۡبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَ ٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق