الباحث القرآني
بابُ الرِّبا
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ﴾؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: أصْلُ الرِّبا في اللُّغَةِ هو الزِّيادَةُ؛ ومِنهُ الرّابِيَةُ؛ لِزِيادَتِها عَلى ما حَوالَيْها مِنَ الأرْضِ؛ ومِنهُ الرَّبْوَةُ مِنَ الأرْضِ؛ وهي المُرْتَفِعَةُ؛ ومِنهُ قَوْلُهُمْ: أرْبى فُلانٌ عَلى فُلانٍ في القَوْلِ؛ أوِ الفِعْلِ؛ إذا زادَ عَلَيْهِ؛ وهو في الشَّرْعِ يَقَعُ عَلى مَعانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَها في اللُّغَةِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمّى النَّساءَ رِبًا؛ في حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ فَقالَ: «إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ»؛ وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: "إنَّ مِنَ الرِّبا أبْوابًا لا تَخْفى؛ مِنها السَّلَمُ في السِّنِّ"؛ يَعْنِي الحَيَوانَ؛ وقالَ عُمَرُ أيْضًا: "إنَّ آيَةَ الرِّبا مِن آخِرِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ؛ وإنَّ النَّبِيَّ ﷺ قُبِضَ قَبْلَ أنْ يُبَيِّنَهُ لَنا؛ فَدَعُوا الرِّبا؛ والرِّيبَةَ"؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الرِّبا قَدْ صارَ اسْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ باقِيًا عَلى حُكْمِهِ في أصْلِ اللُّغَةِ لَما خَفِيَ عَلى عُمَرَ؛ لِأنَّهُ كانَ عالِمًا بِأسْماءِ اللُّغَةِ؛ لِأنَّهُ مِن أهْلِها.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ العَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ؛ والفِضَّةِ بِالفِضَّةِ؛ نَساءً؛ رِبًا؛ وهو رِبًا في الشَّرْعِ؛ وإذا كانَ ذَلِكَ عَلى ما وصَفْنا؛ صارَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ الأسْماءِ المُجْمَلَةِ المُفْتَقِرَةِ إلى البَيانِ؛ وهي الأسْماءُ المَنقُولَةُ مِنَ اللُّغَةِ إلى الشَّرْعِ؛ لِمَعانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَها في اللُّغَةِ؛ نَحْوَ الصَّلاةِ؛ والصَّوْمِ؛ والزَّكاةِ؛ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى البَيانِ؛ ولا يَصِحُّ الِاسْتِدْلالُ بِعُمُومِهِ في تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنَ العُقُودِ؛ إلّا فِيما قامَتْ دَلالَتُهُ أنَّهُ مُسَمًّى في الشَّرْعِ (p-١٨٤)بِذَلِكَ؛ وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مِن مُرادِ اللَّهِ (تَعالى) بِالآيَةِ؛ نَصًّا وتَوْقِيفًا؛ ومِنهُ ما بَيَّنَهُ دَلِيلًا؛ فَلَمْ يَخْلُ مُرادُ اللَّهِ (تَعالى) مِن أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ بِالتَّوْقِيفِ؛ والِاسْتِدْلالِ؛ والرِّبا الَّذِي كانَتِ العَرَبُ تَعْرِفُهُ؛ وتَفْعَلُهُ؛ إنَّما كانَ قَرْضَ الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ إلى أجَلٍ؛ بِزِيادَةٍ عَلى مِقْدارِ ما اسْتُقْرِضَ؛ عَلى ما يَتَراضَوْنَ بِهِ؛ ولَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ البَيْعَ بِالنَّقْدِ؛ وإذا كانَ مُتَفاضِلًا مِن جِنْسٍ واحِدٍ؛ هَذا كانَ المُتَعارَفَ المَشْهُورَ بَيْنَهُمْ؛ ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وما آتَيْتُمْ مِن رِبًا لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٩]؛ فَأخْبَرَ أنَّ تِلْكَ الزِّيادَةَ المَشْرُوطَةَ؛ إنَّما كانَتْ رِبًا في المالِ العَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا عِوَضَ لَها مِن جِهَةِ المُقْرِضِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ [آل عمران: ١٣٠]؛ إخْبارًا عَنِ الحالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْها الكَلامُ مِن شَرْطِ الزِّيادَةِ أضْعافًا مُضاعَفَةً؛ فَأبْطَلَ اللَّهُ (تَعالى) الرِّبا الَّذِي كانُوا يَتَعامَلُونَ بِهِ؛ وأبْطَلَ ضُرُوبًا أُخَرَ مِنَ البِياعاتِ؛ وسَمّاها "رِبًا"؛ فانْتَظَمَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وحَرَّمَ الرِّبا﴾؛ تَحْرِيمَ جَمِيعِها؛ لِشُمُولِ الِاسْمِ عَلَيْها مِن طَرِيقِ الشَّرْعِ؛ ولَمْ يَكُنْ تَعامُلُهم بِالرِّبا إلّا عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا؛ مِن قَرْضِ دَراهِمَ؛ أوْ دَنانِيرَ؛ إلى أجَلٍ؛ مَعَ شَرْطِ الزِّيادَةِ.
واسْمُ الرِّبا في الشَّرْعِ يَعْتَوِرُهُ مَعانٍ؛ أحَدُها: اَلرِّبا الَّذِي كانَ عَلَيْهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ؛ والثّانِي: اَلتَّفاضُلُ في الجِنْسِ الواحِدِ مِنَ المَكِيلِ؛ والمَوْزُونِ؛ عَلى قَوْلِ أصْحابِنا؛ ومالِكُ بْنُ أنَسٍ يَعْتَبِرُ مَعَ الجِنْسِ أنْ يَكُونَ مُقْتاتًا؛ مُدَّخَرًا؛ والشّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الأكْلَ مَعَ الجِنْسِ؛ فَصارَ الجِنْسُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الجَمِيعِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ عِنْدَ انْضِمامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ؛ عَلى ما قَدَّمْنا؛ والثّالِثُ: اَلنَّساءُ؛ وهو عَلى ضُرُوبٍ؛ مِنها: في الجِنْسِ الواحِدِ مِن كُلِّ شَيْءٍ لا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَساءٌ؛ سَواءٌ كانَ مِنَ المَكِيلِ؛ أوْ مِنَ المَوْزُونِ؛ أوْ مِن غَيْرِهِ؛ فَلا يَجُوزُ عِنْدَنا بَيْعُ ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ؛ نَساءً؛ لِوُجُودِ الجِنْسِ؛ ومِنها وُجُودُ المَعْنى المَضْمُومِ إلَيْهِ الجِنْسُ في شَرْطِ تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ؛ وهو الكَيْلُ؛ والوَزْنُ؛ في غَيْرِ الأثْمانِ الَّتِي هي الدَّراهِمُ؛ والدَّنانِيرُ؛ فَلَوْ باعَ حِنْطَةً بِجِصٍّ نَساءً لَمْ يَجُزْ؛ لِوُجُودِ الكَيْلِ؛ ولَوْ باعَ حَدِيدًا بِصُفْرٍ نَساءً لَمْ يَجُزْ؛ لِوُجُودِ الوَزْنِ؛ واللَّهُ (تَعالى) المُوَفِّقُ.
* * *
ومِن أبْوابِ الرِّبا الشَّرْعِيِّ السَّلَمُ في الحَيَوانِ
قالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "إنَّ مِنَ الرِّبا أبْوابًا لا تَخْفى؛ مِنها السَّلَمُ في السِّنِّ"؛ ولَمْ تَكُنِ العَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ رِبًا؛ فَعُلِمَ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا؛ فَجُمْلَةُ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّبا في الشَّرْعِ النَّساءُ؛ والتَّفاضُلُ؛ عَلى شَرائِطَ قَدْ تَقَرَّرَ مَعْرِفَتُها عِنْدَ الفُقَهاءِ؛ والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (p-١٨٥)«"اَلْحِنْطَةُ بِالحِنْطَةِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ يَدًا بِيَدٍ؛ والفَضْلُ رِبًا؛ والشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ يَدًا بِيَدٍ؛ والفَضْلُ رِبًا"؛» وذَكَرَ التَّمْرَ؛ والمِلْحَ؛ والذَّهَبَ؛ والفِضَّةَ؛ فَسَمّى الفَضْلَ في الجِنْسِ الواحِدِ مِنَ المَكِيلِ؛ والمَوْزُونِ؛ رِبًا؛ وقالَ ﷺ في حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ الَّذِي رَواهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبّاسٍ: «"إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ"؛» وفي بَعْضِ الألْفاظِ: «"لا رِبًا إلّا في النَّسِيئَةِ"؛» فَثَبَتَ أنَّ اسْمَ الرِّبا في الشَّرْعِ يَقَعُ عَلى التَّفاضُلِ تارَةً؛ وعَلى النَّساءِ أُخْرى؛ وقَدْ كانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: " لا رِبًا إلّا في النَّسِيئَةِ؛ ويَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ؛ والفِضَّةِ بِالفِضَّةِ؛ مُتَفاضِلًا"؛ ويَذْهَبُ فِيهِ إلى حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ ثُمَّ لَمّا تَواتَرَ عِنْدَهُ الخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِتَحْرِيمِ التَّفاضُلِ في الأصْنافِ السِّتَّةِ؛ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ؛ قالَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ: رَجَعَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ في الصَّرْفِ؛ وعَنْ قَوْلِهِ في المُتْعَةِ؛ وإنَّما مَعْنى حَدِيثِ أُسامَةَ: اَلنَّساءُ في الجِنْسَيْنِ؛ كَما رَوى في حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ؛ وغَيْرِهِ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"اَلْحِنْطَةُ بِالحِنْطَةِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ يَدًا بِيَدِ"؛» وذَكَرَ الأصْنافَ السِّتَّةَ؛ ثُمَّ قالَ: «بِيعُوا الحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ؛ يَدًا بِيَدٍ»؛ وفي بَعْضِ الأخْبارِ: «وإذا اخْتَلَفَ النَّوْعانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ؛ يَدًا بِيَدٍ»؛ فَمَنَعَ النَّساءَ في الجِنْسَيْنِ مِنَ المَكِيلِ؛ والمَوْزُونِ؛ وأباحَ التَّفاضُلَ؛ فَحَدِيثُ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلى هَذا؛ ومِنَ الرِّبا المُرادِ بِالآيَةِ شِراءُ ما يُباعُ بِأقَلَّ مِن ثَمَنِهِ؛ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ ذَلِكَ رِبًا حَدِيثُ يُونُسَ بْنِ إسْحاقَ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ عائِشَةَ؛ فَقالَتْ لَها امْرَأةٌ: إنِّي بِعْتُ زَيْدَ بْنَ أرْقَمَ جارِيَةً لِي إلى عَطائِهِ بِثَمانِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ وإنَّهُ أرادَ أنْ يَبِيعَها فاشْتَرَيْتُها مِنهُ بِسِتِّمِائَةٍ؛ فَقالَتْ: "بِئْسَما شَرَيْتِ؛ وبِئْسَما اشْتَرَيْتِ؛ أبْلِغِي زِيدَ بْنَ أرْقَمَ أنَّهُ قَدْ أبْطَلَ جِهادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنْ لَمْ يَتُبْ"؛ فَقالَتْ: يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ؛ أرَأيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلّا رَأْسَ مالِي؟ فَقالَتْ: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾؛ فَدَلَّتْ تِلاوَتُها لِآيَةِ الرِّبا عِنْدَ قَوْلِها: أرَأيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلّا رَأْسَ مالِي؟ أنَّ ذَلِكَ كانَ عِنْدَها مِنَ الرِّبا؛ وهَذِهِ التَّسْمِيَةُ طَرِيقُها التَّوْقِيفُ؛ وقَدْ رَوى ابْنُ المُبارَكِ عَنْ حَكَمِ بْنِ زُرَيْقٍ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: سَألْتُهُ عَنْ رَجُلٍ باعَ طَعامًا مِن رَجُلٍ إلى أجَلٍ؛ فَأرادَ الَّذِي اشْتَرى الطَّعامَ أنْ يَبِيعَهُ بِنَقْدٍ مِنَ الَّذِي باعَهُ مِنهُ؛ فَقالَ: هو رِبًا؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ أرادَ شِراءَهُ بِأقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الأوَّلِ؛ إذْ لا خِلافَ عَلى أنَّ شِراءَهُ بِمِثْلِهِ؛ أوْ أكْثَرَ مِنهُ؛ جائِزٌ؛ فَسَمّى سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ ذَلِكَ رِبًا؛ وقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ والقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ ومُجاهِدٍ؛ وإبْراهِيمَ؛ والشَّعْبِيِّ؛ وقالَ الحَسَنُ؛ وابْنُ سِيرِينَ؛ في آخَرِينَ: "إنْ باعَهُ بِنَقْدٍ جازَ أنْ يَشْتَرِيَهُ؛ فَإنْ كانَ باعَهُ بِنَسِيئَةٍ لَمْ (p-١٨٦)يَشْتَرِهِ بِأقَلَّ مِنهُ إلّا بَعْدَ أنْ يَحِلَّ الأجَلُ"؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ إذا باعَهُ؛ ثُمَّ اشْتَراهُ بِأقَلَّ مِن ثَمَنِهِ جازَ؛ ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَبْضَ الثَّمَنِ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ إذا قَبَضَ الثَّمَنَ؛ فَدَلَّ قَوْلُ عائِشَةَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ ذَلِكَ رِبًا؛ فَعَلِمْنا أنَّهُما لَمْ يُسَمِّياهُ رِبًا إلّا تَوْقِيفًا؛ إذْ لا يُعْرَفُ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ مِن طَرِيقِ اللُّغَةِ؛ فَلا يُسَمّى بِهِ إلّا مِن طَرِيقِ الشَّرْعِ؛ وأسْماءُ الشَّرْعِ تَوْقِيفٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
ومِن أبْوابِ الرِّبا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ
وقَدْ رَوى مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ نَهى عَنِ الكالِئِ بِالكالِئِ»؛ وفي بَعْضِ الألْفاظِ: «عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ»؛ وهُما سَواءٌ؛ وقالَ في حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «"إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ"؛» إلّا أنَّهُ في العَقْدِ عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ وأنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِمِقْدارِ المَجْلِسِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ لَهُ أنْ يُسَلِّمَ دَراهِمَ في كُرِّ حِنْطَةٍ؛ وهُما دَيْنٌ بِدَيْنٍ؛ إلّا أنَّهُما إذا افْتَرَقا قَبْلَ قَبْضِ الدَّراهِمِ بَطَلَ العَقْدُ؛ وكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّراهِمِ بِالدَّنانِيرِ جائِزٌ؛ وهُما دَيْنانِ وإنِ افْتَرَقا قَبْلَ التَّقابُضِ بَطَلَ.
* * *
بابُ البَيْعِ
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾؛ عُمُومٌ في إباحَةِ سائِرِ البِياعاتِ؛ لِأنَّ لَفْظَ البَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ في اللُّغَةِ؛ وهو تَمْلِيكُ المالِ بِمالٍ؛ بِإيجابٍ؛ وقَبُولٍ؛ عَنْ تَراضٍ مِنهُما؛ وهَذا هو حَقِيقَةُ البَيْعِ في مَفْهُومِ اللِّسانِ؛ ثُمَّ مِنهُ جائِزٌ؛ ومِنهُ فاسِدٌ؛ إلّا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مانِعٍ مِنَ اعْتِبارِ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ مَتى اخْتَلَفْنا في جَوازِ بَيْعٍ؛ أوْ فَسادِهِ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ؛ وإنْ كانَ مُخْرَجُها مُخْرَجَ العُمُومِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ؛ لِأنَّهم مُتَّفِقُونَ عَلى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنَ البِياعاتِ؛ نَحْوَ بَيْعِ ما لَمْ يُقْبَضْ؛ وبَيْعِ ما لَيْسَ عِنْدَ الإنْسانِ؛ وبَيْعِ الغَرَرِ؛ والمَجاهِيلِ؛ وعَقْدِ البَيْعِ عَلى المُحَرَّماتِ مِنَ الأشْياءِ؛ وقَدْ كانَ لَفْظُ الآيَةِ يُوجِبُ جَوازَ هَذِهِ البِياعاتِ؛ وإنَّما خُصَّتْ مِنها بِدَلائِلَ؛ إلّا أنَّ تَخْصِيصَها غَيْرُ مانِعٍ اعْتِبارَ عُمُومِ لَفْظِ الآيَةِ فِيما لَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ عَلى تَخْصِيصِهِ؛ وجائِزٌ أنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلى جَوازِ البَيْعِ المَوْقُوفِ؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾؛ والبَيْعُ اسْمٌ لِلْإيجابِ؛ والقَبُولِ؛ ولَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ وُقُوعَ المِلْكِ بِهِ لِلْعاقِدِ؛ ألا تَرى أنَّ البَيْعَ المَعْقُودَ عَلى شَرْطِ خِيارِ المُتَبايِعَيْنِ لَمْ يُوجِبْ مِلْكًا؟ وهو بَيْعٌ؛ والوَكِيلانِ يَتَعاقَدانِ البَيْعَ؛ ولا يَمْلِكانِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وحَرَّمَ الرِّبا﴾؛ حُكْمُهُ ما قَدَّمْناهُ مِنَ الإجْمالِ؛ والوَقْفِ عَلى وُرُودِ البَيانِ؛ فَمِنَ الرِّبا ما هو بَيْعٌ؛ ومِنهُ ما لَيْسَ بِبَيْعٍ؛ وهو رِبا أهْلِ الجاهِلِيَّةِ؛ وهو القَرْضُ المَشْرُوطُ فِيهِ الأجَلُ؛ وزِيادَةُ مالٍ عَلى المُسْتَقْرِضِ؛ وفي سِياقِ الآيَةِ ما أوْجَبَ تَخْصِيصَ ما هو رِبًا مِنَ البِياعاتِ؛ مِن عُمُومِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾؛ وظَنَّ الشّافِعِيُّ أنَّ لَفْظَ الرِّبا لَمّا كانَ مُجْمَلًا أنَّهُ يُوجِبُ إجْمالَ لَفْظِ البَيْعِ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنا؛ لِأنَّ ما لا يُسَمّى رِبًا مِنَ البِياعاتِ فَحُكْمُ (p-١٩٠)العُمُومِ جارٍ فِيهِ؛ وإنَّما يَجِبُ الوُقُوفُ فِيما شَكَكْنا أنَّهُ رِبًا؛ أوْ لَيْسَ بِرِبًا؛ فَأمّا ما تَيَقَّنّا أنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا فَغَيْرُ جائِزٍ الِاعْتِراضُ عَلَيْهِ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الرِّبا؛ وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في أُصُولِ الفِقْهِ.
وأمّا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾ - حِكايَةً عَنِ المُعْتَقِدِينَ لِإباحَتِهِ مِنَ الكُفّارِ - فَزَعَمُوا أنَّهُ لا فارِقَ بَيْنَ الزِّيادَةِ المَأْخُوذَةِ عَلى وجْهِ الرِّبا؛ وبَيْنَ سائِرِ الأرْباحِ المُكْتَسَبَةِ بِضُرُوبِ البِياعاتِ؛ وجَهِلُوا ما وضَعَ اللَّهُ (تَعالى) أمْرَ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ؛ مِن مَصالِحِ الدِّينِ؛ والدُّنْيا؛ فَذَمَّهُمُ اللَّهُ (تَعالى) عَلى جَهْلِهِمْ؛ وأخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ؛ وما يَحِلُّ بِهِمْ مِن عِقابِهِ.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾؛ يُحْتَجُّ بِهِ في جَوازِ بَيْعِ ما لَمْ يَرَهُ المُشْتَرِي؛ ويُحْتَجُّ بِهِ فِيمَنِ اشْتَرى حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ بِعَيْنِها مُتَساوِيَةً؛ أنَّهُ لا يَبْطُلُ بِالِافْتِراقِ قَبْلَ القَبْضِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ مِن وُرُودِ اللَّفْظِ لُزُومُ أحْكامِ البَيْعِ؛ وحُقُوقِهِ؛ مِنَ القَبْضِ؛ والتَّصَرُّفِ؛ والمِلْكِ؛ وما جَرى مُجْرى ذَلِكَ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ بَقاءَ هَذِهِ الأحْكامِ مَعَ تَرْكِ التَّقايُضِ؛ وهو كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]؛ اَلْمُرادُ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتاعِ بِهِنَّ؛ ويُحْتَجُّ أيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]؛ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما ما اقْتَضاهُ مِن إباحَةِ الأكْلِ قَبْلَ الِافْتِراقِ؛ وبَعْدَهُ؛ مِن غَيْرِ قَبْضٍ؛ والآخَرُ إباحَةُ أكْلِهِ لِمُشْتَرِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الآخَرِ بَعْدَ الفُرْقَةِ.
وأمّا قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾؛ فالمَعْنى فِيهِ أنَّ مَنِ انْزَجَرَ بَعْدَ النَّهْيِ فَلَهُ ما سَلَفَ مِنَ المَقْبُوضِ؛ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الرِّبا؛ ولَمْ يُرِدْ بِهِ ما لَمْ يَقْبِضْ؛ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ حَظْرَ ما لَمْ يَقْبِضْ مِنهُ؛ وإبْطالَهُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨]؛ فَأبْطَلَ اللَّهُ (تَعالى) مِنَ الرِّبا ما لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا؛ وإنْ كانَ مَعْقُودًا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ؛ ولَمْ يَتَعَقَّبْ بِالفَسْخِ ما كانَ مِنهُ مَقْبُوضًا؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ﴾؛ وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السُّدِّيِّ؛ وغَيْرِهِ مِنَ المُفَسِّرِينَ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨]؛ فَأبْطَلَ مِنهُ ما بَقِيَ مِمّا لَمْ يُقْبَضْ؛ ولَمْ يُبْطِلِ المَقْبُوضَ؛ ثُمَّ قالَ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ وهو تَأْكِيدٌ لِإبْطالِ ما لَمْ يُقْبَضْ مِنهُ؛ وأخْذِ رَأْسِ المالِ الَّذِي لا رِبا فِيهِ؛ ولا زِيادَةَ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ وجابِرٍ؛ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ - في خُطْبَتِهِ يَوْمَ حَجَّةِ الوَداعِ بِمَكَّةَ؛ (وقالَ جابِرٌ: بِعَرَفاتٍ) -: "إنَّ كُلَّ رِبًا كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَهو مَوْضُوعٌ؛ وأوَّلُ رِبًا أضَعُهُ رِبا العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ "؛» فَكانَ فِعْلُهُ ﷺ مُواطِئًا لِمَعْنى الآيَةِ؛ في إبْطالِ اللَّهِ (تَعالى) مِنَ الرِّبا ما لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا؛ وإمْضائِهِ ما كانَ (p-١٩١)مَقْبُوضًا؛ وفِيما رُوِيَ في خُطْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ ضُرُوبٌ مِنَ الأحْكامِ؛ أحَدُها أنَّ كُلَّ ما طَرَأ عَلى عَقْدِ البَيْعِ قَبْلَ القَبْضِ مِمّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ؛ فَهو كالمَوْجُودِ في حالِ وُقُوعِهِ؛ وما طَرَأ بَعْدَ القَبْضِ مِمّا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ العَقْدِ؛ لَمْ يُوجِبْ فَسْخَهُ؛ وذَلِكَ نَحْوَ النَّصْرانِيَّيْنِ إذا تَبايَعا عَبْدًا بِخَمْرٍ؛ فالبَيْعُ جائِزٌ عِنْدَنا؛ وإنْ أسْلَمَ أحَدُهُما قَبْلَ قَبْضِ الخَمْرِ بَطَلَ العَقْدُ؛ وكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرى رَجُلٌ مُسْلِمٌ صَيْدًا؛ ثُمَّ أحْرَمَ البائِعَ؛ أوِ المُشْتَرِي؛ بَطَلَ البَيْعُ؛ لِأنَّهُ قَدْ طَرَأ عَلَيْهِ ما يُوجِبُ تَحْرِيمَ العَقْدِ قَبْلَ القَبْضِ؛ كَما أبْطَلَ اللَّهُ (تَعالى) مِنَ الرِّبا ما لَمْ يُقْبَضْ؛ لِأنَّهُ طَرَأ عَلَيْهِ ما يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ قَبْلَ القَبْضِ؛ وإنْ كانَتِ الخَمْرُ مَقْبُوضَةً؛ ثُمَّ أسْلَما؛ أوْ أحْرَما؛ لَمْ يَبْطُلِ البَيْعُ؛ كَما لَمْ يُبْطِلِ اللَّهُ (تَعالى) الرِّبا المَقْبُوضَ حِينَ أنْزَلَ التَّحْرِيمَ؛ فَهَذا جائِزٌ في نَظائِرِهِ مِنَ المَسائِلِ؛ ولا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أنْ يَقْتُلَ العَبْدَ المَبِيعَ قَبْلَ القَبْضِ؛ ولا يَبْطُلَ البَيْعُ؛ ولِلْمُشْتَرِي اتِّباعُ الجانِي مِن قِبَلِ أنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلى العَقْدِ ما يُوجِبُ تَحْرِيمَ العَقْدِ؛ لِأنَّ العَقْدَ باقٍ عَلى هَيْئَتِهِ الَّتِي كانَ عَلَيْها؛ والقِيمَةُ قائِمَةٌ مَقامَ المَبِيعِ؛ وإنَّما يُعْتَبَرُ المَبِيعُ؛ ولِلْمُشْتَرِي الخِيارُ فَحَسْبُ.
وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ هَلاكَ المَبِيعِ في يَدِ البائِعِ؛ وسُقُوطَ القَبْضِ فِيهِ؛ يُوجِبُ بُطْلانَ العَقْدِ؛ وهو قَوْلُ أصْحابِنا؛ والشّافِعِيِّ؛ وقالَ مالِكٌ: لا يَبْطُلُ؛ والثَّمَنُ لازِمٌ لِلْمُشْتَرِي إذا لَمْ يَمْنَعْهُ؛ ودَلالَةُ الآيَةِ ظاهِرَةٌ عَلى أنَّ قَبْضَ المَبِيعِ مِن تَمامِ البَيْعِ؛ وأنَّ سُقُوطَ القَبْضِ يُوجِبُ بُطْلانَ العَقْدِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمّا أسْقَطَ قَبْضَ الرِّبا أبْطَلَ العَقْدَ الَّذِي عَقَداهُ؛ وأمَرَ بِالِاقْتِصارِ عَلى رَأْسِ المالِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قَبْضَ المَبِيعِ مِن شَرائِطِ صِحَّةِ العَقْدِ؛ وأنَّهُ مَتى طَرَأ عَلى العَقْدِ ما يُسْقِطُهُ أوْجَبَ ذَلِكَ بُطْلانَهُ.
وفِيها الدَّلالَةُ عَلى أنَّ العُقُودَ الواقِعَةَ في دارِ الحَرْبِ؛ إذا ظَهَرَ عَلَيْها الإمامُ؛ لا يَعْتَرِضُ عَلَيْها بِالفَسْخِ؛ وإنْ كانَتْ مَعْقُودَةً عَلى فَسادٍ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ قَدْ كانَ بَيْنَ نُزُولِ الآيَةِ؛ وبَيْنَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ؛ ووَضْعِهِ الرِّبا؛ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا؛ عُقُودٌ مِن عُقُودِ الرِّبا بِمَكَّةَ؛ قَبْلَ الفَتْحِ؛ ولَمْ يَتَعَقَّبْها بِالفَسْخِ؛ ولَمْ يُمَيِّزْ ما كانَ مِنها قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ مِمّا كانَ مِنها بَعْدَ نُزُولِها؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العُقُودَ الواقِعَةَ في دارِ الحَرْبِ بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ إذا ظَهَرَ عَلَيْها الإمامُ لا يَفْسَخُ مِنها ما كانَ مَقْبُوضًا؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ﴾؛ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا؛ لِأنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ ما كانَ مَقْبُوضًا مِنهُ قَبْلَ الإسْلامِ.
وقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَلَهُ ما سَلَفَ﴾؛ مِن ذُنُوبِهِ؛ عَلى مَعْنى أنَّ اللَّهَ (تَعالى) يَغْفِرُها لَهُ؛ ولَيْسَ هَذا كَذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ قالَ: ﴿وأمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾؛ يَعْنِي فِيما يَسْتَحِقُّهُ مِن عِقابٍ؛ أوْ ثَوابٍ؛ (p-١٩٢)فَلَمْ يُعْلِمْنا حُكْمَهُ في الآخِرَةِ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لَوْ كانَ هَذا مُرادًا لَمْ يَنْتَفِ بِهِ ما ذَكَرْنا؛ فَيَكُونُ عَلى الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ لِاحْتِمالِهِ لَهُما؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ (تَعالى) ذُنُوبَهُ؛ ويَكُونُ لَهُ المَقْبُوضُ مِن ذَلِكَ قَبْلَ إسْلامِهِ؛ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ بِياعاتِ أهْلِ الحَرْبِ كُلَّها ماضِيَةٌ؛ إذا أسْلَمُوا بَعْدَ التَّقابُضِ فِيها؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَلَهُ ما سَلَفَ وأمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾ .
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨] ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدَهُما: إنْ لَمْ تَقْبَلُوا أمْرَ اللَّهِ (تَعالى)؛ ولَمْ تَنْقادُوا لَهُ؛ والثّانِي: إنْ لَمْ تَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا بَعْدَ نُزُولِ الأمْرِ بِتَرْكِهِ؛ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ (تَعالى) ورَسُولِهِ؛ وإنِ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَهُ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وقَتادَةَ؛ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ - فِيمَن أرْبى - أنَّ الإمامَ يَسْتَتِيبُهُ؛ فَإنْ تابَ؛ وإلّا قَتَلَهُ؛ وهَذا مَحْمُولٌ عَلى أنْ يَفْعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِكافِرٍ إذا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ لا يُوجِبُ إكْفارَهُمْ؛ لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ عَلى ما دُونَ الكُفْرِ مِنَ المَعاصِي؛ قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ؛ عَنْ أبِيهِ: «إنَّ عُمَرَ رَأى مُعاذًا يَبْكِي؛ فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "اَلْيَسِيرُ مِنَ الرِّياءِ شِرْكٌ؛ ومَن عادى أوْلِياءَ اللَّهِ فَقَدْ بارَزَ اللَّهَ بِالمُحارَبَةِ"؛» فَأطْلَقَ اسْمَ المُحارَبَةِ عَلَيْهِ؛ وإنْ لَمْ يَكْفُرْ؛ ورَوى أسْباطٌ عَنِ السُّدِّيِّ؛ عَنْ صُبَيْحٍ؛ مَوْلى أُمِّ سَلَمَةَ؛ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ؛ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعَلِيٍّ؛ وفاطِمَةَ؛ والحَسَنِ؛ والحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: "أنا حَرْبٌ لِمَن حارَبْتُمْ؛ سِلْمٌ لِمَن سالَمْتُمْ"؛» وقالَ (تَعالى): ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ [المائدة: ٣٣]؛ والفُقَهاءُ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ جارٍ في أهْلِ المِلَّةِ؛ وأنَّ هَذِهِ السِّمَةَ تَلْحَقُهم بِإظْهارِهِمْ قَطْعَ الطَّرِيقِ؛ وقَدْ دَلَّ عَلى أنَّهُ جائِزٌ إطْلاقُ اسْمِ المُحارَبَةِ لِلَّهِ (تَعالى) ورَسُولِهِ؛ عَلى مَن عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ؛ وفَعَلَها مُجاهِرًا بِها؛ وإنْ كانَتْ دُونَ الكُفْرِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ إخْبارٌ مِنهُ بِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِ؛ وأنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِها المُحارَبَةَ عَلَيْها؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ كافِرًا؛ وكانَ مُمْتَنِعًا عَلى الإمامِ؛ فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عاقَبَهُ الإمامُ بِمِقْدارِ ما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّعْزِيرِ؛ والرَّدْعِ؛ وكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُ سائِرِ المَعاصِي الَّتِي أوْعَدَ اللَّهُ (تَعالى) عَلَيْها العِقابَ؛ إذا أصَرَّ الإنْسانُ عَلَيْها؛ وجاهَرَ بِها؛ وإنْ كانَ مُمْتَنِعًا حُورِبَ عَلَيْها؛ هو ومُتَّبِعُوهُ؛ وقُوتِلُوا حَتّى يَنْتَهُوا؛ وإنْ كانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ عاقَبَهُمُ الإمامُ بِمِقْدارِ ما يَرى مِنَ العُقُوبَةِ؛ وكَذَلِكَ حُكْمُ مَن يَأْخُذُ أمْوالَ النّاسِ مِنَ المُتَسَلِّطِينَ الظَّلَمَةِ؛ وآخِذِي الضَّرائِبِ؛ واجِبٌ عَلى كُلِّ المُسْلِمِينَ قِتالُهُمْ؛ وقَتْلُهم إذا كانُوا (p-١٩٣)مُمْتَنِعِينَ؛ وهَؤُلاءِ أعْظَمُ جُرْمًا مِن آكِلِي الرِّبا؛ لِانْتِهاكِهِمْ حُرْمَةَ النَّهْيِ؛ وحُرْمَةَ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا؛ وآكِلُ الرِّبا إنَّما انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ (تَعالى) في أخْذِ الرِّبا؛ ولَمْ يَنْتَهِكْ لِمَن يُعْطِيهِ ذَلِكَ حُرْمَةً؛ لِأنَّهُ أعْطاهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ؛ وآخِذُو الضَّرائِبِ في مَعْنى قُطّاعِ الطَّرِيقِ المُنْتَهِكِينَ لِحُرْمَةِ نَهْيِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وحُرْمَةِ المُسْلِمِينَ؛ إذا كانُوا يَأْخُذُونَهُ جَبْرًا؛ وقَهْرًا؛ لا عَلى تَأْوِيلٍ؛ ولا شُبْهَةٍ؛ فَجائِزٌ لِمَن عَلِمَ مِنَ المُسْلِمِينَ إصْرارَ هَؤُلاءِ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِن أخْذِ أمْوالِ النّاسِ؛ عَلى وجْهِ الضَّرِيبَةِ؛ أنْ يَقْتُلَهم كَيْفَ أمْكَنَهُ قَتْلُهُمْ؛ وكَذَلِكَ أتْباعُهُمْ؛ وأعْوانُهُمُ الَّذِينَ بِهِمْ يَقُومُونَ عَلى أخْذِ الأمْوالِ؛ وقَدْ كانَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاتَلَ مانِعِي الزَّكاةِ؛ لِمُوافَقَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ إيّاهُ عَلى شَيْئَيْنِ؛ أحَدُهُما الكُفْرُ؛ والآخَرُ مَنعُ الزَّكاةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِن قَبُولِ فَرْضِ الزَّكاةِ؛ ومِن أدائِها؛ فانْتَظَمُوا بِهِ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما الِامْتِناعُ مِن قَبُولِ أمْرِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وذَلِكَ كُفْرٌ؛ والآخَرُ الِامْتِناعُ مِن أداءِ الصَّدَقاتِ المَفْرُوضَةِ في أمْوالِهِمْ إلى الإمامِ؛ فَكانَ قِتالُهُ إيّاهم لِلْأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ ولِذَلِكَ قالَ: "لَوْ مَنَعُونِي عِقالًا - وفي بَعْضِ الأخْبارِ: "عِناقًا" - مِمّا كانُوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقاتَلَتُهم عَلَيْهِ"؛ فَإنَّما قُلْنا: إنَّهم كانُوا كُفّارًا؛ مُمْتَنِعِينَ مِن قَبُولِ فَرْضِ الزَّكاةِ؛ لِأنَّ الصَّحابَةَ سَمَّوْهم أهْلَ الرِّدَّةِ؛ وهَذِهِ السِّمَةُ لازِمَةٌ لَهم إلى يَوْمِنا هَذا؛ وكانُوا سَبَوْا نِساءَهم وذَرارِيِّهِمْ؛ ولَوْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ لَما سارَ فِيهِمْ هَذِهِ السِّيرَةَ؛ وذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الصَّدْرُ الأوَّلُ؛ ولا مَن بَعْدَهم مِنَ المُسْلِمِينَ؛ أعْنِي في أنَّ القَوْمَ الَّذِينَ قاتَلَهم أبُو بَكْرٍ كانُوا أهْلَ الرِّدَّةِ؛ فالمُقِيمُ عَلى أكْلِ الرِّبا؛ إنْ كانَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهو كافِرٌ؛ وإنْ كانَ مُمْتَنِعًا بِجَماعَةٍ تُعَضِّدُهُ سارَ فِيهِمُ الإمامُ بِسِيرَتِهِ في أهْلِ الرِّدَّةِ؛ إنْ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ أهْلِ المِلَّةِ؛ وإنِ اعْتَرَفُوا بِتَحْرِيمِهِ؛ وفَعَلُوهُ غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ؛ قاتَلَهُمُ الإمامُ إنْ كانُوا مُمْتَنِعِينَ؛ حَتّى يَتُوبُوا؛ وإنْ لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ رَدَعَهم عَنْ ذَلِكَ بِالضَّرْبِ؛ والحَبْسِ؛ حَتّى يَنْتَهُوا.
وقَدْ رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إلى أهْلِ نَجْرانَ؛ وكانُوا ذِمَّةً نَصارى: "إمّا أنْ تَذَرُوا الرِّبا؛ وإمّا أنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ"؛» ورَوى أبُو عُبَيْدٍ القاسِمُ بْنُ سَلامٍ قالَ: حَدَّثَنِي أيُّوبُ الدِّمَشْقِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي سَعْدانُ بْنُ يَحْيى؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي حُمَيْدٍ؛ عَنْ أبِي مَلِيحٍ الهُذَلِيِّ؛ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صالَحَ أهْلَ نَجْرانَ؛ فَكَتَبَ كِتابًا في آخِرِهِ: "عَلى ألّا تَأْكُلُوا الرِّبا؛ فَمَن أكَلَ الرِّبا فَذِمَّتِي مِنهُ بَرِيئَةٌ"؛» فَقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٨]؛ هو عائِدٌ عَلَيْهِما جَمِيعًا؛ مِن رَدِّ الأمْرِ عَلى حالِهِ؛ ومِنَ الإقامَةِ عَلى أكْلِ الرِّبا؛ مَعَ قَبُولِ الأمْرِ؛ (p-١٩٤)فَمَن رَدَّ الأمْرَ قُوتِلَ عَلى الرِّدَّةِ؛ ومَن قَبِلَ الأمْرَ؛ وفَعَلَهُ مُحَرِّمًا لَهُ قُوتِلَ عَلى تَرْكِهِ؛ إنْ كانَ مُمْتَنِعًا؛ ولا يَكُونُ مُرْتَدًّا؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عُزِّرَ بِالحَبْسِ؛ والضَّرْبِ؛ عَلى ما يَرى الإمامُ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ إعْلامٌ بِأنَّهم إنْ لَمْ يَفْعَلُوا ما أُمِرُوا بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ؛ فَهم مُحارِبُونَ لِلَّهِ (تَعالى) ورَسُولِهِ؛ وذَلِكَ إخْبارٌ مِنهُ بِمِقْدارِ عِظَمِ الجُرْمِ؛ وأنَّهم يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ السِّمَةَ؛ وهي أنْ يُسَمَّوْا مُحارِبِينَ لِلَّهِ (تَعالى) ورَسُولِهِ؛ وهَذِهِ السِّمَةُ يَعْتَوِرُها مَعْنَيانِ؛ أحَدُهُما الكُفْرُ؛ إذا كانَ مُسْتَحِلًّا؛ والآخَرُ الإقامَةُ عَلى أكْلِ الرِّبا؛ مَعَ اعْتِقادِ التَّحْرِيمِ؛ عَلى ما بَيَّنّا؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَحْمِلُهُ عَلى أنَّهُ إعْلامٌ مِنهُ بِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) يَأْمُرُ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ بِمُحارَبَتِهِمْ؛ ويَكُونُ إيذانًا لَهم بِالحَرْبِ؛ حَتّى لا يُؤْتَوْا عَلى غِرَّةٍ قَبْلَ العِلْمِ بِها؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخائِنِينَ﴾ [الأنفال: ٥٨]؛ فَإذا حُمِلَ عَلى هَذا الوَجْهِ كانَ الخِطابُ بِذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِمْ؛ إذا كانُوا ذَوِي مَنعَةٍ؛ وإذا حَمَلْناهُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ دَخَلَ كُلُّ واحِدٍ مِن فاعِلِي ذَلِكَ في الخِطابِ؛ وتَناوَلَهُ الحُكْمُ المَذْكُورُ فِيهِ؛ فَهو أوْلى.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ فِيهِ تَأْوِيلانِ؛ أحَدُهُما: "وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ؛ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ"؛ والثّانِي: عَلى أنَّ "كانَ" اَلْمُكْتَفِيَةَ بِاسْمِها عَلى مَعْنى: "وإنْ وقَعَ ذُو عُسْرَةٍ"؛ أوْ: "إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ"؛ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎فَدى لُبْنى شَيْبانَ رَحْلِي وناقَتِي ∗∗∗ إذا كانَ يَوْمٌ ذُو كَواكِبَ أشْهَبُ
مَعْناهُ: إذا وُجِدَ يَوْمٌ كَذَلِكَ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وشُرَيْحٍ؛ وإبْراهِيمَ؛ أنَّهُ في الرِّبا خاصَّةً؛ وكانَ شُرَيْحٌ يَحْبِسُ المُعْسِرَ في غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ؛ ورُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ؛ والحَسَنِ؛ والرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ؛ والضَّحّاكِ؛ أنَّهُ في سائِرِ الدُّيُونِ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَةٌ أُخْرى مِثْلُ ذَلِكَ.
وقالَ آخَرُونَ: إنَّ الَّذِي في الآيَةِ إنْظارُ المُعْسِرِ في الرِّبا؛ وسائِرُ الدُّيُونِ في حُكْمِهِ قِياسًا عَلَيْهِ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ مُحْتَمِلًا أنْ يَكُونَ شامِلًا لِسائِرِ الدُّيُونِ؛ عَلى ما بَيَّنّا مِن وجْهِ الِاحْتِمالِ؛ ولِتَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَهُ مِنَ السَّلَفِ عَلى ذَلِكَ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونُوا تَأوَّلُوهُ عَلى ما لا احْتِمالَ فِيهِ؛ وجَبَ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ؛ وألّا يَقْتَصِرَ بِهِ عَلى الرِّبا؛ إلّا بِدَلالَةٍ؛ لِما فِيهِ مِن تَخْصِيصِ لَفْظِ العُمُومِ مِن غَيْرِ دَلالَةٍ؛ فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ غَيْرَ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ في إفادَةِ الحُكْمِ؛ وكانَ مُتَضَمِّنًا لِما (p-١٩٥)قَبْلَهُ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ قِيلَ: هو كَلامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ؛ لِما في فَحْواهُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى مَعْناهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ ذِكْرَ الإعْسارِ؛ والإنْظارِ؛ قَدْ دَلَّ عَلى دَيْنٍ تَجِبُ المُطالَبَةُ بِهِ؛ والإنْظارُ لا يَكُونُ إلّا في حَقٍّ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ؛ وصَحَّتِ المُطالَبَةُ بِهِ؛ إمّا عاجِلًا؛ وإمّا آجِلًا؛ فَإذا كانَ في مَضْمُونِ اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلى دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ في حُكْمِ الإنْظارِ؛ إذا كانَ ذُو عُسْرَةٍ؛ كانَ اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ؛ ووَجَبَ اعْتِبارُهُ عَلى عُمُومِهِ؛ ولَمْ يَجِبْ الِاقْتِصارُ بِهِ عَلى الرِّبا دُونَ غَيْرِهِ؛ وزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ؛ مِمَّنْ نَصَرَ هَذا القَوْلَ الَّذِي ذَكَرْناهُ؛ أنَّ هَذا لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الرِّبا؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أبْطَلَهُ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ مُنْظَرًا بِهِ؟ قالَ: فالواجِبُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ عامَّةً في سائِرِ الدُّيُونِ؛ وهَذا الحِجاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) إنَّما أبْطَلَ الرِّبا؛ وهو الزِّيادَةُ المَشْرُوطَةُ؛ ولَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ المالِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٨]؛ والرِّبا هو الزِّيادَةُ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٩]؛ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]؛ يَعْنِي سائِرَ الدُّيُونِ؛ ورَأْسُ المالِ أحَدُها؛ وإبْطالُ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لَمْ يُبْطِلْ رَأْسَ المالِ؛ بَلْ هو دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ يَجِبُ أداؤُهُ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الإنْظارُ مَأْمُورًا بِهِ في رَأْسِ المالِ؛ فَهو وسائِرُ الدُّيُونِ عَلَيْهِ سَواءٌ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّما كَلامُنا فِيما شَمِلَهُ العُمُومُ مِن حُكْمِ الآيَةِ؛ فَإنْ كانَ ذَلِكَ في رَأْسِ مالِ الرِّبا فَلَمْ يَتَناوَلْ غَيْرَهُ مِن طَرِيقِ النَّصِّ؛ وإنَّما يَتَناوَلُهُ مِن جِهَةِ العُمُومِ لِلْمَعْنى؛ فَيَحْتاجُ حِينَئِذٍ إلى دَلالَةٍ مِن غَيْرِهِ في إثْباتِ حُكْمِهِ؛ ورَدِّهِ إلى المَذْكُورِ في الآيَةِ بِمَعْنًى يَجْمَعُهُما؛ ولَيْسَ الكَلامُ بَيْنَكَ وبَيْنَ الخَصْمِ مِن جِهَةِ القِياسِ؛ وإنَّما اخْتَلَفْتُما في عُمُومِ الآيَةِ؛ وخُصُوصِها؛ والكَلامُ في القِياسِ ورَدِّ غَيْرِ المَذْكُورِ إلى المَذْكُورِ؛ مَسْألَةٌ أُخْرى.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡبَیۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰا۟ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ فَمَن جَاۤءَهُۥ مَوۡعِظَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق