الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ «أنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: أنَهَيْتَ عَنْ قِتالِنا في الشَّهْرِ الحَرامِ ؟ قالَ: نَعَمْ» وأرادَ المُشْرِكُونَ أنْ يُغَيِّرُوهُ في الشَّهْرِ الحَرامِ فَيُقاتِلُوهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ يَعْنِي إنِ اسْتَحَلُّوا مِنكم في الشَّهْرِ الحَرامِ شَيْئًا فاسْتَحِلُّوا مِنهم مِثْلَهُ. ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ: «أنَّ قُرَيْشًا لَمّا رَدَّتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ مُحْرِمًا في ذِي القِعْدَةِ عَنِ البَلَدِ الحَرامِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَأدْخَلَهُ اللَّهُ مَكَّةَ في العامِ المُقْبِلِ في ذِي القِعْدَةِ، فَقَضى عُمْرَتَهُ وأقَصَّهُ بِما حِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ في يَوْمِ الحُدَيْبِيَةِ». ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأمْرَيْنِ، فَيَكُونُ إخْبارًا بِما أقَصَّهُ اللَّهُ مِنَ الشَّهْرِ الحَرامِ الَّذِي صَدَّهُ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ بِشَهْرٍ مِثْلِهِ في العامِ القابِلِ. وقَدْ تَضَمَّنَ مَعَ ذَلِكَ إباحَةُ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ إذا قاتَلَهُمُ المُشْرِكُونَ؛ لِأنَّ لَفْظًا واحِدًا لا يَكُونُ خَبَرًا وأمْرًا، ومَتى حَصَلَ عَلى أحَدِ المَعْنَيَيْنِ انْتَفى الآخَرُ. إلّا أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ إخْبارًا بِما عَوَّضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِن فَواتِ العُمْرَةِ في الشَّهْرِ الحَرامِ الَّذِي صَدَّهُ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ شَهْرًا مِثْلَهُ في العامِ القابِلِ، وكانَتْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ الَّذِي أُبْدِلَ كَحُرْمَةِ الشَّهْرِ الَّذِي فاتَ؛ فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ ثُمَّ عَقَّبَ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ فَأفادَ أنَّهم إذا قاتَلُوهم في الشَّهْرِ الحَرامِ فَعَلَيْهِمْ أنْ يُقاتِلُوهم فِيهِ وإنْ لَمْ يَجُزْ لَهم أنْ يَبْتَدِئُوهم بِالقِتالِ. وسَمّى الجَزاءَ اعْتِداءً لِأنَّهُ مِثْلُهُ في الجِنْسِ وقَدْرُ الِاسْتِحْقاقِ عَلى ما يُوجِبُهُ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلى وجْهِ المَجازِ؛ لِأنَّ المُعْتَدِيَ في الحَقِيقَةِ هو الظّالِمُ. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: (p-٣٢٦)﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ عُمُومٌ في أنَّ مِنَ اسْتَهْلَكَ لِغَيْرِهِ مالًا كانَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ وذَلِكَ المِثْلُ يَنْقَسِمُ إلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مِثْلُهُ في جِنْسِهِ وذَلِكَ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ والمَعْدُودِ، والآخَرُ: مِثْلُهُ في قِيمَتِهِ؛ لِأنَّ «النَّبِيَّ ﷺ قَضى في عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أعْتَقَهُ أحَدُهُما وهو مُوسِرٌ أنَّ عَلَيْهِ ضَمانَ نِصْفَ قِيمَتِهِ» فَجَعَلَ المِثْلَ اللّازِمَ بِالِاعْتِداءِ هو القِيمَةَ، فَصارَ أصْلًا في هَذا البابِ وفي أنَّ المِثْلَ قَدْ يَقَعُ عَلى القِيمَةِ ويَكُونُ اسْمًا لَها. ويَدُلُّ عَلى أنَّ المِثْلَ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِما لَيْسَ هو مِن جِنْسِهِ إذا كانَ في وِزانِهِ وعُرُوضِهِ في المِقْدارِ المُسْتَحَقِّ مِنَ الجَزاءِ، أنَّ مَنِ اعْتَدى عَلى غَيْرِهِ بِقَذْفٍ لَمْ يَكُنِ المِثْلُ المُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أنْ يُقْذَفَ بِمِثْلِ قَذْفِهِ بَلْ يَكُونُ المِثْلُ المُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هو جَلْدُ ثَمانِينَ، وكَذَلِكَ لَوْ شَتَمَهُ بِما دُونَ القَذْفِ كانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وذَلِكَ مِثْلٌ لِما نالَ مِنهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ اسْمَ المِثْلِ قَدْ يَقَعُ عَلى ما لَيْسَ مِن جِنْسِهِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ في وِزانِهِ وعُرُوضِهِ في المِقْدارِ المُسْتَحَقِّ مِن طَرِيقِ الجَزاءِ. ويُحْتَجُّ بِذَلِكَ في أنَّ مِن غَصَبَ ساجَةً فَأدْخَلَها في بِنائِهِ أنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَها لِأنَّ القِيمَةَ قَدْ تَناوَلَها اسْمُ المِثْلِ، فَمِن حَيْثُ كانَ الغاصِبُ مُعْتَدِيًا بِأخْذِها كانَ عَلَيْهِ مِثْلُها لِحَقِّ العُمُومِ. فَإنْ قِيلَ: إذا نَقَصْنا بِناءَهُ وأخَذْناها بِعَيْنِها فَقَدِ اعْتَدَيْنا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى. قِيلَ لَهُ: أخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ لا يَكُونُ اعْتِداءً عَلى الغاصِبِ، كَما أنَّ مَن لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ ودِيعَةً فَأخَذَها لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِيًا عَلَيْهِ، وإنَّما الِاعْتِداءُ عَلَيْهِ أنْ يُزِيلَ مِن مِلْكِهِ مِثْلَ ما أزالَ أوْ يُزِيلَ يَدَهُ عَنْ مِثْلِ ما أزالَ عَنْهُ يَدَ المَغْصُوبِ مِنهُ، فَأمّا أخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ اعْتِداءٌ عَلى أحَدٍ ولا فِيهِ أخْذُ المِثْلِ. ويُحْتَجُّ بِهِ في إيجابِ القِصاصِ فِيما يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ المُماثَلَةِ والمُساواةِ فِيهِ دُونَ ما لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ اسْتِيفاءُ المُماثَلَةِ، وذَلِكَ نَحْوُ قَطْعِ اليَدِ مِن نِصْفِ السّاعِدِ والجائِفَةِ والآمَّةِ في سُقُوطِ القِصاصِ فِيها لِتَعَذُّرِ اسْتِيفاءِ المِثْلِ؛ إذْ كانَ اللَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَنا بِاسْتِيفاءِ المِثْلِ. ويَحْتَجُّ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ فِيمَن قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وقَتَلَهُ أنَّ لِوَلِيِّهِ أنْ يَقْطَعَ يَدَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ، لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ فَلَهُ أنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ ما فَعَلَ بِمُقْتَضى الآيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب