الباحث القرآني

* بابُ الشّاهِدُ والوَصِيُّ إذا عَلِما الجَوْرَ في الوَصِيَّةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهم فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ قالَ أبُو (p-٢١٢)بَكْرٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ قالَ: " هو الرَّجُلُ يُوصِي فَيَجْنَفُ في وصِيَّتِهِ فَيَرُدُّها الوَلِيُّ إلى العَدْلِ والحَقِّ " . ورَوى أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ قالَ: " الجَنَفُ الخَطَأُ والإثْمُ العَمْدُ " . ورَوى ابْنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ، وابْنُ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ قالَ: " هو المُوصِي لِابْنِ ابْنِهِ يُرِيدُ لِبَنِيهِ " . ورَوى المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ عَنْ أبِيهِ عَنِ الحَسَنِ في الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأباعِدِ ويَتْرُكُ الأقارِبَ قالَ: " يَجْعَلُ وصِيَّتَهُ ثَلاثَةَ أثْلاثٍ: لِلْأقارِبِ الثُّلُثَيْنِ، ولِلْأباعِدِ الثُّلُثُ " . ورُوِيَ عَنْ طاوُسٍ في الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأباعِدِ قالَ: " يُنْتَزَعُ مِنهم فَيُدْفَعُ لِلْأقارِبِ إلّا أنْ يَكُونَ فِيهِمْ فَقِيرٌ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: " الجَنَفُ المَيْلُ عَنِ الحَقِّ، وقَدْ حَكَيْنا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ أنَّهُ قالَ: " الجَنَفُ الخَطَأُ " ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ المَيْلَ عَنِ الحَقِّ عَلى وجْهِ الخَطَأِ، والإثْمُ مَيْلُهُ عَنْهُ عَلى وجْهِ العَمْدِ؛ وهو تَأْوِيلٌ مُسْتَقِيمٌ. وتَأوَّلَهُ الحَسَنُ عَلى الوَصِيَّةِ لِلْأجْنَبِيِّ، ولَهُ أقْرِباءُ أنَّ ذَلِكَ جَنَفٌ ومَيْلٌ عَنِ الحَقِّ؛ لِأنَّ الوَصِيَّةَ كانَتْ عِنْدَهُ لِلْأقارِبِ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ. وتَأوَّلَهُ طاوُسٌ عَلى مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: الوَصِيَّةُ لِلْأباعِدِ فَتُرَدُّ إلى الأقارِبِ، والآخَرُ: أنَّ مَن يُوصِي لِابْنِ ابْنَتِهِ يُرِيدُ ابْنَتَهُ. وقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ الوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ غَيْرَ مُوجِبٍ أنْ يَكُونَ هَذا الحُكْمُ مَقْصُورًا عَلى الوَصِيَّةِ المَذْكُورَةِ قَبْلَها؛ لِأنَّهُ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِداءُ الخِطابِ بِهِ غَيْرَ مُضَمَّنٍ بِما قَبْلَهُ، فَهو عامٌّ في سائِرِ الوَصايا إذا عَدَلَ بِها عَنْ جِهَةِ العَدْلِ إلى الجَوْرِ، مُنْتَظِمَةً لِلْوَصِيَّةِ الَّتِي كانَتْ واجِبَةً لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ في حالِ بَقاءِ وُجُوبِها، وشامِلَةً لِسائِرِ الوَصايا غَيْرِها؛ فَمَن خافَ مِن سائِرِ النّاسِ مِن مُوصٍ مَيْلًا عَنِ الحَقِّ وعُدُولًا إلى الجَوْرِ فالواجِبُ عَلَيْهِ إرْشادُهُ إلى العَدْلِ والصَّلاحِ. ولا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشّاهِدُ والوَصِيُّ والحاكِمُ دُونَ سائِرِ النّاسِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِن بابِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. فَإنْ قِيلَ: فَما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ والخَوْفُ إنَّما يَخْتَصُّ بِما يُمْكِنُ وُقُوعُهُ في المُسْتَقْبَلِ، وأمّا الماضِي فَلا يَكُونُ فِيهِ خَوْفٌ ؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مِن أحْوالِ المُوصِي ما يَغْلِبُ مَعَهُ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ يُرِيدُ الجَوْرَ وصَرْفَ المِيراثِ عَنِ الوارِثِ، فَعَلى مَن خافَ ذَلِكَ مِنهُ رَدُّهُ إلى العَدْلِ ويُخَوِّفُهُ ذَمِيمَ عاقِبَةِ الجَوْرِ أوْ يَدْخُلُ بَيْنَ المُوصى لَهُ وبَيْنَ الوَرَثَةِ عَلى وجْهِ الصَّلاحِ. وقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَمَن خافَ﴾ أنَّهُ عَلِمَ أنَّ (p-٢١٣)فِيها جَوْرًا فَيَرُدُّها إلى العَدْلِ. وإنَّما قالَ تَعالى: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] ولَمْ يَقُلْ " فَعَلَيْهِ رَدُّها إلى العَدْلِ والصَّلاحِ " ولا ذَكَرَ لَهُ فِيهِ اسْتِحْقاقَ الثَّوابِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ أحْوالِ الدّاخِلِينَ بَيْنَ الخُصُومِ عَلى وجْهِ الإصْلاحِ أنْ يَسْألُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ، فَيَسْبِقُ مَعَ هَذِهِ الحالِ إلى ظَنِّ المُصْلِحِ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سائِغٍ لَهُ؛ ولِأنَّهُ إنَّما يَعْمَلُ في كَثِيرٍ مِنهُ عَلى غالِبِ ظَنِّهِ دُونَ الحَقِيقَةِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ تَعالى في الإصْلاحِ بَيْنَهم، وأزالَ ظَنَّ الظّانِّ لِامْتِناعِ جَوازِ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] في هَذا المَوْضِعِ، وقَدْ وعَدَ بِالثَّوابِ عَلى مِثْلِهِ في غَيْرِهِ، فَقالَ تَعالى: ﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهم إلا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٤] ورُوِيَ في تَغْلِيظِ الجَنَفِ في الوَصِيَّةِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسّانَ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: الإضْرارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبائِرِ ثُمَّ قَرَأ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾ [البقرة: ٢٢٩] وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا القاسِمُ بْنُ زَكَرِيّا ومُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قالا: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ المُغِيرَةِ عَنْ داوُدَ بْنِ أبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الإضْرارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبائِرِ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا طاهِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحاقَ القاضِي: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ مَعِينٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ أشْعَثَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذا أوْصى حافَ في وصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ في وصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ» . وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوارِثِ قالَ: حَدَّثَنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الحُدّانِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي الأشْعَثُ بْنُ جابِرٍ قالَ: حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، أنَّ أبا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ الرَّجُلَ والمَرْأةَ لَيَعْمَلانِ بِطاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُما المَوْتُ فَيُضارّانِ في الوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُما النّارُ ثُمَّ قَرَأ عَلَيَّ أبُو هُرَيْرَةَ مِن هاهُنا: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ﴾ [النساء: ١٢] حَتّى بَلَغَ: ﴿وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [النساء: ١٣]» فَهَذِهِ الأخْبارُ مَعَ ما قَدَّمْنا تُوجِبُ عَلى مَن عَلِمَ جَنَفًا في الوَصِيَّةِ مِن مُوصٍ أنْ يَرُدَّهُ إلى العَدْلِ إذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: عَلى ماذا يَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ؟ قِيلَ (p-٢١٤)لَهُ: لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ المُوصِي أفادَ بِفَحْوى الخِطابِ أنَّ هُناكَ مُوصًى لَهُ ووارِثًا تَنازَعُوا، فَعادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِمْ بِفَحْوى الخِطابِ في الإصْلاحِ بَيْنَهم؛ وأنْشُدَ الفَرّاءُ: ؎وأدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضًا أُرِيدُ الخَيْرَ أيَّهُما يَلِينِي ؎الخَيْرُ الَّذِي أنا أبْتَغِيهِ ∗∗∗ أمِ الشَّرُّ الَّذِي هو يَبْتَغِينِي فَكَنّى في البَيْتِ الأوَّلِ عَنِ الشَّرِّ بَعْدَ ذِكْرِ الخَيْرِ وحْدَهُ لِما في فَحْوى اللَّفْظِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الخَيْرِ وغَيْرِهِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى المَذْكُورِينَ في ابْتِداءِ الخِطابِ، وهُمُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ. وقَدْ أفادَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ عَلى الوَصِيِّ والحاكِمِ والوارِثِ وكُلِّ مَن وقَفَ عَلى جَوْرٍ في الوَصِيَّةِ مِن جِهَةِ الخَطَأِ أوِ العَمْدِ رَدَّها إلى العَدْلِ، ودَلَّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ [البقرة: ١٨١] خاصٌّ في الوَصِيَّةِ العادِلَةِ دُونَ الجائِرَةِ. وفِيها الدَّلالَةُ عَلى جَوازِ اجْتِهادِ الرَّأْيِ والعَمَلِ عَلى غالِبِ الظَّنِّ؛ لِأنَّ الخَوْفَ مِنَ المَيْلِ يَكُونُ في غالِبِ ظَنِّ الخائِفِ. وفِيها رُخْصَةٌ في الدُّخُولِ بَيْنَهم عَلى وجْهِ الإصْلاحِ مَعَ ما فِيهِ مِن زِيادَةٍ أوْ نُقْصانٍ عَنِ الحَقِّ بَعْدَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَراضِيهِمْ. واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب