الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الألْبابِ﴾ فِيهِ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى في إيجابِ القِصاصِ حَياةً لِلنّاسِ وسَبَبًا لِبَقائِهِمْ؛ لِأنَّ مَن قَصَدَ قَتْلَ إنْسانٍ رَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ. ودَلَّ عَلى وُجُوبِ القِصاصِ عُمُومًا بَيْنَ الحُرِّ والعَبْدِ والرَّجُلِ والمَرْأةِ والمُسْلِمِ والذِّمِّيِّ؛ إذْ كانَ اللَّهُ تَعالى مُرِيدًا لِتَبْقِيَةِ الجَمِيعِ، فالعِلَّةُ المُوجِبَةُ لِلْقِصاصِ بَيْنَ الحُرَّيْنِ المُسْلِمَيْنِ مَوْجُودَةٌ في هَؤُلاءِ، فَوَجَبَ اسْتِواءُ الحُكْمِ في جَمِيعِهِمْ.
وتَخْصِيصُهُ لِأُولِي الألْبابِ بِالمُخاطَبَةِ غَيْرُ نافٍ مُساواةَ غَيْرِهِمْ لَهم في الحُكْمِ؛ إذْ كانَ المَعْنى الَّذِي حُكِمَ مِن أجْلِهِ في ذَوِي الألْبابِ مَوْجُودًا في غَيْرِهِمْ، وإنَّما وجْهُ تَخْصِيصِهِ لَهم أنَّ ذَوِي الألْبابِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِما يُخاطَبُونَ بِهِ، ويَنْتَهُونَ إلى ما يُؤْمَرُونَ بِهِ، ويَزْدَجِرُونَ عَمّا يُزْجَرُونَ عَنْهُ. وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [النازعات: ٤٥] هو مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ هو إلا نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٤٦] ونَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وهو هُدًى لِلْجَمِيعِ، وخَصَّ المُتَّقِينَ لِانْتِفاعِهِمْ بِهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ في آيَةٍ أُخْرى ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥] ؟ فَعَمَّ الجَمِيعَ بِهِ. وكَقَوْلِهِ: ﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ١٨] لِأنَّ التَّقِيَّ هو الَّذِي يُعِيذُ مَنِ اسْتَعاذَ بِاللَّهِ. وقَدْ ذُكِرَ عَنْ (p-١٩٧)بَعْضِ الحُكَماءِ أنَّهُ قالَ: " قَتْلُ البَعْضِ إحْياءُ الجَمِيعِ " .
وعَنْ غَيْرِهِ: " القَتْلُ أقَلُّ لِلْقَتْلِ " و" أكْثِرُوا القَتْلَ لِيَقِلَّ القَتْلُ " وهو كَلامٌ سائِرٌ عَلى ألْسِنَةِ العُقَلاءِ، وأهْلِ المَعْرِفَةِ، وإنَّما قَصَدُوا المَعْنى الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ ثُمَّ إذا مَثَّلْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ وجَدْتَ بَيْنَهُما تَفاوُتًا بَعِيدًا مِن جِهَةِ البَلاغَةِ، وصِحَّةِ المَعْنى.
وذَلِكَ يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأمُّلِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِي القِصاصِ حَياةٌ﴾ هو نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: " قَتْلُ البَعْضِ إحْياءٌ لِلْجَمِيعِ. والقَتْلُ أقَلُّ لِلْقَتْلِ " وهو مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ ونُقْصانِها عَمّا حُكِيَ عَنِ الحُكَماءِ قَدْ أفادَ مِنَ المَعْنى الَّذِي يَحْتاجُ إلَيْهِ، ولا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الكَلامُ ما لَيْسَ في قَوْلِهِمْ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ القَتْلَ عَلى وجْهِ العَدْلِ لِذِكْرِهِ القِصاصَ، وانْتَظَمَ مَعَ ذَلِكَ الغَرَضَ الَّذِي إلَيْهِ أُجْرِيَ بِإيجابِهِ القِصاصَ، وهو الحَياةُ.
وقَوْلُهم: " القَتْلُ أقَلُّ لِلْقَتْلِ " " وقَتْلُ البَعْضِ إحْياءُ الجَمِيعِ " و" القَتْلُ أنْفى لِلْقَتْلِ " إنْ حُمِلَ عَلى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْناهُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، بَلْ ما كانَ مِنهُ عَلى وجْهِ الظُّلْمِ والفَسادِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مَنزِلَتَهُ، ولا حُكْمَهُ.
فَحَقِيقَةُ هَذا الكَلامِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ، ومَجازُهُ يَحْتاجُ إلى قَرِينَةٍ وبَيانٍ في أنَّ أيَّ قَتْلٍ هو إحْياءٌ لِلْجَمِيعِ. فَهَذا كَلامٌ ناقِصُ البَيانِ مُخْتَلُّ المَعْنى غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ في إفادَةِ حُكْمِهِ، وما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِحُكْمِهِ عَلى حَقِيقَتِهِ مِن مُقْتَضى لَفْظِهِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِي القِصاصِ حَياةٌ﴾ أقَلُّ حُرُوفًا مِن قَوْلِهِمْ: " قَتْلُ البَعْضِ إحْياءٌ لِلْجَمِيعِ " و" القَتْلُ أقَلُّ لِلْقَتْلِ، وأنْفى لِلْقَتْلِ " ؟
ومِن جِهَةٍ أُخْرى يَظْهَرُ فَضْلُ بَيانِ قَوْلِهِ: ﴿فِي القِصاصِ حَياةٌ﴾ عَلى قَوْلِهِمْ: " القَتْلُ أقَلُّ لِلْقَتْلِ، وأنْفى لِلْقَتْلِ " أنَّ في قَوْلِهِمْ تَكْرارَ اللَّفْظِ، وتِكْرارُ المَعْنى بِلَفْظِ غَيْرِهِ أحْسَنُ في حَدِّ البَلاغَةِ، أنَّهُ يَصِحُّ تَكْرارُ المَعْنى الواحِدِ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في خِطابٍ واحِدٍ، ولا يَصِحُّ مِثْلُهُ بِلَفْظٍ واحِدٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وغَرابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: ٢٧] ونَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎وألْفى قَوْلَها كَذِبًا ومَيْنًا
كَرَّرَ المَعْنى الواحِدَ بِلَفْظَيْنِ، وكانَ ذَلِكَ سائِغًا، ولا يَصِحُّ مِثْلُهُ في تَكْرارِ اللَّفْظِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ لا تَكْرارَ فِيهِ مَعَ إفادَتِهِ لِلْقَتْلِ مِن جِهَةِ القاتِلِ، إذْ كانَ ذِكْرُ القِصاصِ يُفِيدُ ذَلِكَ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَكُونُ قِصاصًا إلّا وقَدْ تَقَدَّمَهُ قَتْلٌ مِنَ المُقْتَصِّ مِنهُ ؟ وفي قَوْلِهِمْ ذِكْرٌ لِلْقَتْلِ وتِكْرارٌ لَهُ في اللَّفْظِ، وذَلِكَ نُقْصانٌ في البَلاغَةِ، فَهَذا وأشْباهُهُ مِمّا يَظْهَرُ بِهِ لِلْمُتَأمِّلِ إبانَةُ القُرْآنِ في جِهَةِ البَلاغَةِ والإعْجازِ مِن كَلامِ البَشَرِ؛ إذْ لَيْسَ يُوجَدُ في كَلامِ الفُصَحاءِ مَن جَمَعَ المَعانِيَ الكَثِيرَةَ في الألْفاظِ اليَسِيرَةِ مِثْلَ ما يُوجَدُ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى.
(p-١٩٨)
* * *
بابُ كَيْفِيَّةِ القِصاصِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿والحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقالَ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] فَأوْجَبَ بِهَذِهِ الآيِ اسْتِيفاءَ المِثْلِ لَمْ يَجْعَلْ لِأحَدٍ مِمَّنْ أوْجَبَ عَلَيْهِ أوْ عَلى ولِيِّهِ أنْ يَفْعَلَ بِالجانِي أكْثَرَ مِمّا فَعَلَ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في كَيْفِيَّةِ القِصاصِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " عَلى أيِّ وجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إلّا بِالسَّيْفِ " . وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " إنْ قَتَلَهُ بِعَصًا أوْ بِحَجَرٍ أوْ بِالنّارِ أوْ بِالتَّغْرِيقِ قَتَلَهُ بِمِثْلِهِ، فَإنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلا يَزالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ مِن جِنْسِ ما قَتَلَهُ بِهِ حَتّى يَمُوتَ، وإنْ زادَ عَلى فِعْلِ القاتِلِ الأوَّلِ " .
وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: " نَضْرِبُهُ مِثْلَ ضَرْبِهِ، ولا نَضْرِبُهُ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ، وقَدْ كانُوا يَكْرَهُونَ المُثْلَةَ ويَقُولُونَ: السَّيْفُ يُجْزِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإنْ غَمَسَهُ في الماءِ فَإنِّي لا أزالُ أغْمِسُهُ فِيهِ حَتّى يَمُوتَ " .، وقالَ الشّافِعِيُّ: " إنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتّى ماتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وإنْ حَبَسَهُ بِلا طَعامٍ ولا شَرابٍ حَتّى ماتَ حُبِسَ، فَإنْ لَمْ يَمُتْ في مِثْلِ تِلْكَ المُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ في مَفْهُومِ قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] وقَوْلِهِ: ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥] اسْتِيفاءُ المِثْلِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ عَلَيْهِ، كانَ مَحْظُورًا عَلى الوَلِيِّ اسْتِيفاءُ زِيادَةٍ عَلى فِعْلِ الجانِي، ومَتى اسْتَوْفى عَلى مَذْهَبِ مَن ذَكَرْنا في التَّحْرِيقِ والتَّغْرِيقِ والرَّضْخِ بِالحِجارَةِ والحَبْسِ أدّى ذَلِكَ إلى أنْ يَفْعَلَ بِهِ أكْثَرَ مِمّا فَعَلَ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الفِعْلِ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ أوْ زادَ عَلى جِنْسِ فِعْلِهِ، وذَلِكَ هو الِاعْتِداءُ الَّذِي زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٨]؛ لِأنَّ الِاعْتِداءَ هو مُجاوَزَةُ القِصاصِ، والقِصاصُ أنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ سَواءً إنْ أمْكَنَ، وإنْ تَعَذَّرَ فَأنْ يَقْتُلَهُ بِأوْحى وُجُوهِ القَتْلِ فَيَكُونَ مُقْتَصًّا مِن جِهَةِ إتْلافِ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ما جُعِلَ لَهُ.
وقَوْلُ مالِكٍ بِتِكْرارِ مِثْلِ ذَلِكَ الفِعْلِ عَلَيْهِ حَتّى يَمُوتَ زائِدٌ عَلى فِعْلِ القاتِلِ خارِجٌ عَنْ مَعْنى القِصاصِ، وقَوْلُ الشّافِعِيِّ إنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ ثُمَّ يَقْتُلُهُ مُخالِفٌ لِحُكْمِ الآيَةِ؛ لِأنَّ القِصاصَ إنْ كانَ مِن جِهَةِ أنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ فَقَدِ اسْتَوْفى فَقَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَدٍّ، ومُجاوَزَةٌ لِحَدِّ القِصاصِ، وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: ١]
وإنْ كانَ مَعْنى القِصاصِ هو إتْلافُ نَفْسٍ مِن غَيْرِ مُجاوَزَةٍ لِمِقْدارِ الفِعْلِ فَهو الَّذِي نَقُولُهُ، فَلا يَنْفَكُّ مُوجِبُ القِصاصِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخالِفُونا مِن مُخالَفَةِ الآيَةِ لِمُجاوَزَةِ (p-١٩٩)حَدِّ القِصاصِ؛ لِأنَّ فاعِلَ ذَلِكَ داخِلٌ في حَدِّ الِاعْتِداءِ الَّذِي أوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقَوْلُهُ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] يَمْنَعُ أنْ يُجْرَحَ أكْثَرَ مِن جِراحَتِهِ أوْ يُفْعَلَ بِهِ أكْثَرَ مِمّا فَعَلَ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ لا زائِدًا عَلَيْهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ مَن قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِن نِصْفِ السّاعِدِ أنَّهُ لا يُقْتَصُّ مِنهُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالِاقْتِصارِ عَلى مِقْدارِ حَقِّهِ، وإنْ كانَ قَدْ يَغْلِبُ في الظَّنِّ إذا اجْتَهَدَ أنَّهُ قَدْ وضَعَ السِّكِّينَ في مَوْضِعِهِ مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ، ولَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِهادِ في ذَلِكَ حَظٌّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ القِصاصُ عَلى وجْهٍ نَعْلَمُ يَقِينًا أنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِأكْثَرَ مِن حَقِّهِ وجانٍ عَلَيْهِ بِأكْثَرَ مِن جِنايَتِهِ ؟
وأيْضًا لا خِلافَ أنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أنْ يَقْتُلَهُ ولا يَحْرِقُهُ ولا يُغْرِقُهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ مُرادُهُ بِالآيَةِ، وإذا كانَ القَتْلُ بِالسَّيْفِ مُرادًا ثَبَتَ أنَّ القِصاصَ هو إتْلافُ نَفْسِهِ بِأيْسَرِ وُجُوهِ القَتْلِ.
وإذا ثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ مُرادُهُ انْتَفَتْ إرادَةُ التَّحْرِيقِ والتَّغْرِيقِ والرَّضْخِ، وما جَرى مَجْرى ذَلِكَ؛ لِأنَّ وُجُوبَ الِاقْتِصارِ عَلى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ يَنْفِي وُقُوعَ غَيْرِهِ.
فَإنْ قِيلَ: اسْمُ المِثْلِ في القِصاصِ يَقَعُ عَلى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، وعَلى أنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ، ولَهُ إنْ لَمْ يَمُتْ أنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ، ولَهُ أنْ يَقْتَصِرَ بَدِيًّا عَلى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، فَيَكُونَ تارِكًا لِبَعْضِ حَقِّهِ، ولَهُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الرَّضْخُ والتَّحْرِيقُ مُسْتَحِقًّا مَعَ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُنافِي القِصاصَ، وفِعْلَ المِثْلِ، ومِن حَيْثُ أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى القِصاصَ لا غَيْرُ فَغَيْرُ جائِزٍ حَمْلُهُ عَلى مَعْنًى يُنافِي مَضْمُونَ اللَّفْظِ وحُكْمَهُ.
وعَلى أنَّ الرَّضْخَ بِالحِجارَةِ والتَّحْرِيقَ والتَّغْرِيقَ والرَّمْيَ لا يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ القِصاصِ بِهِ؛ لِأنَّ القِصاصَ إذا كانَ هو اسْتِيفاءَ المِثْلِ فَلَيْسَ لِلرَّضْخِ حَدٌّ مَعْلُومٌ حَتّى يُعْلَمَ أنَّهُ في مَقادِيرِ أجْزاءِ رَضْخِ القاتِلِ لِلْمَقْتُولِ، وكَذَلِكَ الرَّمْيُ والتَّحْرِيقُ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرادًا بِذِكْرِ القِصاصِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ إتْلافَ نَفْسِهِ بِأوْحى الوُجُوهِ. ويَدُلُّ عَلى هَذا ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في نَفْيِ القِصاصِ في المُنَقِّلَةِ والجائِفَةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفائِهِ عَلى مَقادِيرِ أجْزاءِ الجِنايَةِ، فَكَذَلِكَ القِصاصُ بِالرَّمْيِ والرَّضْخِ غَيْرُ مُمْكِنٍ اسْتِيفاؤُهُ في مَعْنى الإيلامِ، وإتْلافِ الأجْزاءِ الَّتِي أتْلَفَها.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ المِثْلُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ، وكَذَلِكَ القِصاصُ:
أحَدُهُما إتْلافُ نَفْسِهِ كَما أتْلَفَ، فَيَكُونُ القِصاصُ والمِثْلُ في هَذا الوَجْهِ إتْلافَ نَفْسٍ بِنَفْسٍ، والآخَرُ: أنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ، اسْتَعْمَلْنا حُكْمَ اللَّفْظِ في الأمْرَيْنِ؛ لِأنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِيهِما، فَقُلْنا: نَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ما فَعَلَ فَإنْ ماتَ، وإلّا اسْتَوْفى المِثْلَ مِن جِهَةِ (p-٢٠٠)إتْلافِ النَّفْسِ قِيلَ لَهُ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالمِثْلِ والقِصاصِ جَمِيعَ الأمْرَيْنِ بِأنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ بِالمَقْتُولِ ثُمَّ يُقْتَلَ، وإنْ كانَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المَعْنَيَيْنِ عَلى الِانْفِرادِ غَيْرَ مَجْمُوعٍ إلى الآخَرِ؛ لِأنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُهُ، وهو غَيْرُ مُنافٍ لِحُكْمِ الآيَةِ وأمّا إذا جَمَعَهُما فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ مُرادًا عَلى وجْهِ الجَمْعِ؛ لِأنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ القِصاصِ والمِثْلِ بَلْ يَكُونُ زائِدًا عَلَيْهِ، وغَيْرُ جائِزٍ تَأْوِيلُ الآيَةِ عَلى مَعْنًى يُضادُّها، ويَنْفِي حُكْمَها، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرادَةُ القَتْلِ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الرَّضْخِ والتَّغْرِيقِ والحَبْسِ والإجاعَةِ.
وقَدْ رَوى سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جابِرٍ عَنْ أبِي عازِبٍ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا قَوَدَ إلّا بِالسَّيْفِ»، وهَذا الخَبَرُ قَدْ حَوى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: بَيانُ مُرادِ الآيَةِ في ذِكْرِ القِصاصِ والمِثْلِ والآخَرُ: أنَّهُ ابْتِداءُ عُمُومٍ يُحْتَجُّ بِهِ في نَفْيِ القَوَدِ بِغَيْرِهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رَوى يَحْيى بْنُ أبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا يُسْتَقادُ مِنَ الجِراحِ حَتّى تَبْرَأ»، وهَذا يَنْفِي قَوْلَ المُخالِفِ لَنا؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ الواجِبُ أنْ يُفْعَلَ بِالجانِي كَما فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِاسْتِثْنائِهِ وجْهٌ، فَلَمّا ثَبَتَ الِاسْتِثْناءُ دَلَّ عَلى أنَّ حُكْمَ الجِراحَةِ مُعْتَبَرٌ بِما يَئُولُ إلَيْهِ حالُها.
فَإنْ قِيلَ: يَحْيى بْنُ أبِي أُنَيْسَةَ لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، قِيلَ لَهُ: هَذا قَوْلُ جُهّالٍ لا يُلْتَفَتُ إلى جَرْحِهِمْ، ولا تَعْدِيلِهِمْ، ولَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الفُقَهاءِ في قَبُولِ الأخْبارِ، وعَلى أنَّ عَلِيَّ بْنَ المَدِينِيَّ قَدْ ذَكَرَ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ أنَّهُ قالَ: يَحْيى بْنُ أبِي أُنَيْسَةَ أحَبُّ إلَيَّ في حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِن حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رَوى خالِدٌ الحَذّاءُ عَنْ أبِي قِلابَةَ، عَنْ أبِي الأشْعَثِ، عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ فَإذا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذَّبْحَ» فَأوْجَبَ عُمُومُ لَفْظِهِ أنَّ مَن لَهُ قَتْلُ غَيْرِهِ أنْ يَقْتُلَهُ بِأحْسَنِ وُجُوهِ القَتْلِ، وأوْحاها وأيْسَرِها، وذَلِكَ يَنْفِي تَعْذِيبَهُ، والمُثْلَةَ بِهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ نَهى أنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنَ الحَيَوانِ غَرَضًا» فَمَنَعَ بِذَلِكَ أنْ يُقْتَلَ القاتِلُ رَمْيًا بِالسِّهامِ.
وحُكِيَ أنَّ القَسْمَ بْنَ مَعْنٍ حَضَرَ مَعَ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ بَعْضِ السَّلاطِينِ فَقالَ: ما تَقُولُ فِيمَن رَمى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ؟ قالَ: يُرْمى فَيُقْتَلُ، قالَ: فَإنْ لَمْ يَمُتْ بِالرَّمْيَةِ الأُولى ؟ قالَ: يُرْمى ثانِيًا. قالَ: أفَتَتَّخِذُهُ غَرَضًا، وقَدْ «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنَ الحَيَوانِ غَرَضًا» ؟ قالَ شَرِيكٌ لَمْ تَمْرُقْ. فَقالَ القَسْمُ: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ هَذا مَيْدانٌ إنْ سابَقْناكَ فِيهِ سَبَقْتَنا، يَعْنِي البَذاءَ، وقامَ
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رَوى عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ وغَيْرُهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ المُثْلَةِ».، وقالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: (p-٢٠١)«ما خَطَبَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً إلّا أمَرَنا فِيها بِالصَّدَقَةِ ونَهانا عَنِ المُثْلَةِ». وهَذا خَبَرٌ ثابِتٌ قَدْ تَلَقّاهُ الفُقَهاءُ بِالقَبُولِ واسْتَعْمَلُوهُ، وذَلِكَ يَمْنَعُ المُثْلَةَ بِالقاتِلِ، وقَوْلُ مُخالِفِينا فِيهِ المُثْلَةُ بِهِ، وهو يَثْنِي عَنْ مُرادِ الآيَةِ في إيجابِ القِصاصِ، واسْتِيفاءِ المِثْلِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القِصاصُ مَقْصُورًا عَلى وجْهِ المُثْلَةِ، ويَسْتَعْمِلُ الآيَةَ عَلى وجْهٍ لا يُخالِفُ مَعْنى الخَبَرِ.
وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَّلَ بِالعُرَنِيِّينَ فَقَطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وسَمَلَ أعْيُنَهم وتَرَكَهم في الحَرَّةِ حَتّى ماتُوا ثُمَّ نُسِخَ سَمْلُ الأعْيُنِ بِنَهْيِهِ عَنِ المُثْلَةِ، فَوَجَبَ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ مَعْنى آيَةِ القِصاصِ مَحْمُولًا عَلى ما لا مُثْلَةَ فِيهِ. واحْتَجَّ مُخالِفُونا في ذَلِكَ بِحَدِيثِ هَمّامٍ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» .
وهَذا الحَدِيثُ لَوْ ثَبَتَ كانَ مَنسُوخًا بِنَسْخِ المُثْلَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ النَّهْيَ عَنِ المُثْلَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الجَمِيعِ والقَوَدُ عَلى هَذا الوَجْهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ومَتى ورَدَ عَنْهُ ﷺ خَبَرانِ، واتَّفَقَ النّاسُ عَلى اسْتِعْمالِ أحَدِهِما واخْتَلَفُوا في اسْتِعْمالِ الآخَرِ كانَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنهُما قاضِيًا عَلى المُخْتَلَفِ فِيهِ خاصًّا كانَ أوْ عامًّا، ومَعَ ذَلِكَ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَتْلُ اليَهُودِيِّ عَلى وجْهِ الحَدِّ كَما رَوى شُعْبَةُ عَنْ هِشامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: «عَدا يَهُودِيٌّ عَلى جارِيَةٍ فَأخَذَ أوْضاحًا كانَتْ عَلَيْها، ورَضَخَ رَأْسَها فَأتى بِها أهْلُها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهي في آخِرِ رَمَقٍ، فَقالَ ﷺ: مَن قَتَلَكِ؛ فُلانٌ ؟ فَأشارَتْ بِرَأْسِها أيْ لا، ثُمَّ قالَ: فُلانٌ ؟ يَعْنِي اليَهُودِيَّ، قالَتْ: نَعَمْ، فَأمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» .
فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَتَلَهُ حَدًّا لَمّا أخَذَ المالَ وقَتَلَ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ جائِزًا عَلى وجْهِ المُثْلَةِ كَما سَمَلَ العُرَنِيِّينَ ثُمَّ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنِ المُثْلَةِ.
وقَدْ رَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ رَضَخَ رَأْسَ جارِيَةٍ عَلى حُلِيٍّ لَها فَأمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُرْجَمَ حَتّى قُتِلَ» فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ الرَّجْمَ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِقِصاصٍ عِنْدَ الجَمِيعِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ اليَهُودِيُّ نَقَضَ العَهْدَ ولَحِقَ بِدارِ الحَرْبِ لِقُرْبِ مَحالِّ اليَهُودِ كانَتْ حِينَئِذٍ مِنَ المَدِينَةِ، فَأُخِذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ عَلى أنَّهُ حَرْبِيٌّ ناقِضٌ لِلْعَهْدِ مُتَّهَمٌ بِقَتْلِ صَبِيٍّ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِإيماءِ الصَّبِيَّةِ وإشارَتِها أنَّهُ قَتَلَها؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُوجِبُ قَتْلَ المُدَّعى عَلَيْهِ القَتْلُ عِنْدَ الجَمِيعِ، فَلا مَحالَةَ قَدْ كانَ هُناكَ سَبَبٌ آخَرُ اسْتَحَقَّ بِهِ القَتْلَ لَمْ يَنْقُلْهُ الرّاوِي عَلى جِهَتِهِ.
ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا مِن أنَّ المُرادَ بِالقِصاصِ إتْلافُ نَفْسِهِ بِأيْسَرِ الوُجُوهِ، وهو السَّيْفُ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ لَوْ أوْجَرَهُ خَمْرًا حَتّى ماتَ لَمْ يَجُزْ أنْ يُوجِرَهُ خَمْرًا، وقُتِلَ بِالسَّيْفِ.
فَإنْ قِيلَ: لِأنَّ شُرْبَ (p-٢٠٢)الخَمْرِ مَعْصِيَةٌ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ المُثْلَةُ مَعْصِيَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ شِبْهِ العَمْدِ قالَ أبُو بَكْرٍ أصْلُ أبِي حَنِيفَةَ في ذَلِكَ أنَّ العَمْدَ ما كانَ بِسِلاحٍ أوْ ما يَجْرِي مُجْراهُ، (p-٢٠٠)مِثْلُ الذَّبْحِ بِلِيطَةِ قَصَبَةٍ أوْ شَقَّةِ العَصا أوْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ حَدٌّ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّلاحِ أوْ بِحَرْقِهِ بِالنّارِ؛ فَهَذا كُلُّهُ عِنْدَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ فِيهِ القِصاصُ؛ ولا نَعْلَمُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " ما سِوى ذَلِكَ مِنَ القَتْلِ بِالعَصا والحَجَرِ صَغِيرًا كانَ أوْ كَبِيرًا فَهو شِبْهُ العَمْدِ، وكَذَلِكَ التَّغْرِيقُ في الماءِ؛ وفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلى العاقِلَةِ وعَلَيْهِ الكَفّارَةُ " ولا يَكُونُ التَّغْلِيظُ عِنْدَهُ إلّا في أسْنانِ الإبِلِ خاصَّةً دُونَ عَدَدِها. ولِي فِيما دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ بَلْ بِأيِّ شَيْءٍ ضَرَبَهُ فَعَلَيْهِ القِصاصُ إذا أمْكَنَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَيْهِ أرْشُهُ مُغَلَّظًا إذا كانَ مِنَ الإبِلِ بِقِسْطِ ما يَجِبُ.
وأصْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ أنَّ شِبْهَ العَمْدِ ما لا يَقْتُلُ مِثْلُهُ كاللَّطْمَةِ الواحِدَةِ والضَّرْبَةِ الواحِدَةِ بِالسَّوْطِ، ولَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ حَتّى صارَ جُمْلَتُهُ مِمّا يَقْتُلُ كانَ عَمْدًا وفِيهِ القِصاصُ بِالسَّيْفِ، وكَذَلِكَ إذا غَرَّقَهُ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُهُ الخَلاصُ مِنهُ؛ وهو قَوْلُ عُثْمانَ البَتِّيِّ، إلّا أنَّهُ يَجْعَلُ دِيَةَ شِبْهِ العَمْدِ في مالِهِ. وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: " وما كانَ مِن شِبْهِ العَمْدِ فَهو عَلَيْهِ في مالِهِ، يَبْدَأُ بِمالِهِ فَيُؤْخَذُ حَتّى لا يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ، فَإنْ لَمْ يَتِمَّ كانَ ما بَقِيَ مِنَ الدِّيَةِ عَلى عاقِلَتِهِ " .
وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: " إذا ضَرَبَهُ بِعَصًا أوْ رَماهُ بِحَجَرٍ أوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَهو عَمْدٌ وفِيهِ القِصاصُ، ومِنَ العَمْدِ أنْ يَضْرِبَهُ في نائِرَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُما ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ وهو حَيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ، فَتَكُونُ فِيهِ القَسامَةُ " . وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " شِبْهُ العَمْدِ باطِلٌ، إنَّما هو عَمْدٌ أوْ خَطَأٌ " . وقالَ الأشْجَعِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ: " شِبْهُ العَمْدِ أنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا أوْ بِحَجَرٍ أوْ بِيَدِهِ فَيَمُوتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً ولا قَوَدَ فِيهِ، والعَمْدُ ما كانَ بِسِلاحٍ وفِيهِ القَوَدُ، والنَّفْسُ يَكُونُ فِيها العَمْدُ وشِبْهُ العَمْدِ والخَطَأُ، والجِراحَةُ لا يَكُونُ فِيها إلّا خَطَأٌ أوْ عَمْدٌ " .
ورَوى الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ قالَ: " إذا حَدَّدَ عُودًا أوْ عَظْمًا فَجَرَحَ بِهِ بَطْنَ حَرٍّ فَهَذا شِبْهُ عَمْدٍ لَيْسَ فِيهِ قَوَدٌ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا قَوْلٌ شاذٌّ وأهْلُ العِلْمِ عَلى خِلافِهِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ عَنْ شِبْهِ العَمْدِ: " الدِّيَةُ في مالِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ تَمامًا فَعَلى العاقِلَةِ؛ وشِبْهُ العَمْدِ أنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا أوْ سَوْطٍ ضَرْبَةً واحِدَةً فَيَمُوتَ، فَإنْ ثَنّى بِالعَصا فَماتَ مَكانَهُ فَهو عَمْدٌ يُقْتَلُ بِهِ، والخَطَأُ عَلى العاقِلَةِ " .
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا ضَرَبَهُ بِعَصًا ثُمَّ عَلا فَقَتَلَهُ مَكانَهُ مِنَ الضَّرْبَةِ الثّانِيَةِ فَعَلَيْهِ القِصاصُ، وإنْ عَلا الثّانِيَةَ فَلَمْ يَمُتْ مِنها ثُمَّ ماتَ بَعْدَها فَهو شِبْهُ العَمْدِ لا قِصاصَ فِيهِ وفِيهِ الدِّيَةُ عَلى العاقِلَةِ والخَطَأُ عَلى العاقِلَةِ " .
وقالَ اللَّيْثُ: " العَمْدُ ما تَعَمَّدَهُ إنْسانٌ، فَإنْ ضَرَبَهُ بِأُصْبُعِهِ فَماتَ مِن ذَلِكَ دُفِعَ إلى ولِيِّ المَقْتُولِ والخَطَأُ فِيهِ عَلى العاقِلَةِ " . وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّيْثَ كانَ لا يَرى شِبْهَ العَمْدِ وإنَّما يَكُونُ (p-٢٠١)خَطَأً أوْ عَمْدًا. وقالَ المُزَنِيُّ في مُخْتَصَرِهِ عَنِ الشّافِعِيِّ: " إذا عَمِدَ رِجْلٌ بِسَيْفٍ أوْ حَجَرٍ أوْ سِنانِ رُمْحٍ أوْ ما يُشَقُّ بِحَدِّهِ فَضَرَبَ بِهِ أوْ رَمى بِهِ الجِلْدَ أوِ اللَّحْمَ فَجَرَحَهُ جُرْحًا كَبِيرًا أوْ صَغِيرًا فَماتَ فَعَلَيْهِ القَوَدُ، وإنْ شَدَخَهُ بِحَجَرٍ أوْ تابَعَ عَلَيْهِ الخَنْقَ ووالى بِالسَّوْطِ عَلَيْهِ حَتّى ماتَ أوْ طَبَقَ عَلَيْهِ مُطْبِقًا بِغَيْرِ طَعامٍ ولا شَرابٍ أوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ في شِدَّةِ حَرٍّ أوْ بَرْدٍ مِمّا الأغْلَبُ أنَّهُ يَمُوتُ مِنهُ فَماتَ فَعَلَيْهِ القَوَدُ، وإنْ ضَرَبَهُ بِعَمُودٍ أوْ بِحَجَرٍ لا يَشْدَخُ أوْ بِحَدِّ سَيْفٍ ولَمْ يَجْرَحْ أوْ ألْقاهُ في بَحْرٍ قَرِيبِ البَرِّ وهو يُحْسِنُ العَوْمَ أوْ ما الأغْلَبُ أنَّهُ لا يَمُوتُ بِمِثْلِهِ فَماتَ فَلا قَوَدَ فِيهِ وفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلى العاقِلَةِ " .
والدَّلِيلُ عَلى ثُبُوتِ شِبْهِ العَمْدِ ما رَوى هُشَيْمٌ عَنْ خالِدٍ الحَذّاءِ عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أوْسٍ السَّدُوسِيِّ عَنْ رِجْلٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ ﷺ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقالَ في خُطْبَتِهِ: ألّا إنَّ قَتِيلَ خَطَإ العَمْدِ بِالسَّوْطِ والعَصا والحَجَرِ فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ مِنها أرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِها أوْلادُها» .
ورَوى إبْراهِيمُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ الخُزاعِيِّ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أنَّ امْرَأتَيْنِ ضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِعَمُودِ الفُسْطاطِ فَقَتَلْتَها، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالدِّيَةِ عَلى عَصَبَةِ القاتِلَةِ وقَضى فِيما في بَطْنِها بِالغُرَّةِ» .
ورَوى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ وأبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأتانِ مِن هُذَيْلٍ فَضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِحَجَرٍ فَقَتَلْتَها وما في بَطْنِها، فاخْتَصَمُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَضى أنَّ دِيَةَ جَنِينِها عَبْدٌ أوْ ولِيدَةٌ، وقَضى بِدِيَةِ المَرْأةِ عَلى عاقِلَتِها» فَفي أحَدِ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ أنَّها ضَرَبْتَها بِعَمُودِ فُسْطاطٍ وفي الآخَرِ أنَّها ضَرَبَتْها بِحَجَرٍ.
وقَدْ رَوى أبُو عاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينارٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ نَشَدَ النّاسَ قَضاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الجَنِينِ، فَقامَ حَمَلُ بْنُ مالِكِ بْنِ النّابِغَةِ فَقالَ: إنَّنِي كُنْتُ بَيْنَ امْرَأتَيْنِ لِي، وإنَّ إحْداهُما ضَرَبَتِ الأُخْرى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلْتَها وجَنِينَها، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الجَنِينِ بِغُرَّةٍ وأنْ تُقْتَلَ مَكانَها» .
ورَوى الحَجّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ؛ فَذَكَرَ أبُو عاصِمٍ والحَجّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ أمَرَ بِقَتْلِ المَرْأةِ.
ورَوى هَذا الحَدِيثَ هِشامُ بْنُ سُلَيْمانَ المَخْزُومِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ دِينارٍ وسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ بِإسْنادِهِ، ولَمْ يَذْكُرا فِيهِ أنَّهُ أمَرَ أنْ تُقْتَلَ، وذَكَرَ أبُو عاصِمٍ والحَجّاجُ أنَّهُ أمَرَ أنْ تُقْتَلَ المَرْأةُ، فاضْطَرَبَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ القِصَّةِ. (p-٢٠٢)ورَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أبِي المَلِيحِ عَنْ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ قالَ: «كانَتْ لَهُ امْرَأتانِ فَرَجَمَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِحَجَرٍ فَأصابَ قَلْبَها وهي حامِلٌ فَألْقَتْ جَنِينًا فَماتَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالدِّيَةِ عَلى عاقِلَةِ القاتِلَةِ وقَضى في الجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أوْ أمَةٍ» .
فَكانَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ في إيجابِ القَوَدِ عَلى المَرْأةِ مُخْتَلِفًا مُتَضادًّا؛ ورُوِيَ في بَعْضِ أخْبارِ ابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ القِصَّةِ بِعَيْنِها القِصاصُ ولَمْ يَذْكُرْهُ في بَعْضِها؛ قالَ حَمَلُ بْنُ مالِكٍ وهو صاحِبُ القِصَّةِ: " إنَّ النَّبِيَّ ﷺ أوْجَبَ الدِّيَةَ عَلى عاقِلَةِ القاتِلَةِ " فَتَضادَّتِ الأخْبارُ في قِصَّةِ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ وسَقَطَتْ وبَقِيَ حَدِيثُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ في نَفْيِ القِصاصِ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ.
وقَدْ رَوى أبُو مُعاوِيَةَ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ قَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا شِبْهُ العَمْدِ» . وإثْباتُ شِبْهِ العَمْدِ ضَرْبٌ مِنَ القَتْلِ دُونَ الخَطَإ فِيهِ اتِّفاقُ السَّلَفِ عِنْدَنا لا خِلافَ بَيْنَهم فِيهِ، وإنَّما الِاخْتِلافُ بَيْنَهم في كَيْفِيَّةِ شِبْهِ العَمْدِ؛ فَأمّا أنْ يَقُولَ مالِكٌ: " لا أعْرِفُ إلّا خَطَأً أوْ عَمْدًا " فَإنَّ هَذا قَوْلٌ خارِجٌ عَنْ أقاوِيلِ السَّلَفِ كُلِّهِمْ. ورَوى شَرِيكٌ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ عاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " شِبْهُ العَمْدِ بِالعَصا والحَجَرِ الثَّقِيلِ ولَيْسَ فِيهِما قَوَدٌ " .
ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ: " يَعْمِدُ أحَدُكم فَيَضْرِبُ أخاهُ بِمِثْلِ آكِلَةِ اللَّحْمِ وهي العَصا ثُمَّ يَقُولُ لا قَوَدَ عَلَيَّ لا أُوتى بِأحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلّا أقَدْتُهُ "، فَكانَ هَذا عِنْدَهُ مِنَ العَمْدِ؛ لِأنَّ مِثْلَهُ يَقْتُلُ في الغالِبِ عَلى ما قالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ.
ومِمّا يُبَيِّنُ إجْماعَ الصَّحابَةِ عَلى شِبْهِ العَمْدِ وأنَّهُ قِسْمٌ ثالِثٌ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ ولا خَطَأٍ مَحْضٍ اخْتِلافُ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في أسْنانِ الإبِلِ في الخَطَإ، ثُمَّ اخْتِلافُهم في أسْنانِ شِبْهِ العَمْدِ وأنَّها أغْلَظُ مِنَ الخَطَإ؛ مِنهم عَلِيٌّ وعُمَرُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وأبُو مُوسى والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، كُلُّ هَؤُلاءِ أثْبَتَ أسْنانَ الإبِلِ في شِبْهِ العَمْدِ أغْلَظُ مِنها في الخَطَإ عَلى ما سَنُبَيِّنُهُ فِيما بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ شِبْهُ العَمْدِ.
ولَمّا ثَبَتَ شِبْهُ العَمْدِ بِما قَدَّمْنا مِنَ الآثارِ واتِّفاقِ السَّلَفِ بَعْدَ اخْتِلافٍ مِنهم في كَيْفِيَّتِهِ، احْتَجْنا أنَّ نَعْتَبِرَ شِبْهَ العَمْدِ، فَوَجَدْنا عَلِيًّا قالَ: " شِبْهُ العَمْدِ بِالعَصا والحَجَرِ العَظِيمِ " ومَعْلُومٌ أنَّ شِبْهَ العَمْدِ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لا سَبِيلَ إلى إثْباتِهِ إلّا مِن جِهَةِ التَّوْقِيفِ؛ إذْ لَيْسَ في اللُّغَةِ هَذا الِاسْمُ لِضَرْبٍ مِنَ القَتْلِ؛ فَعَلِمْنا أنَّ عَلِيًّا لَمْ يُسَمِّ القَتْلَ بِالحَجَرِ العَظِيمِ شِبْهَ العَمْدِ إلّا تَوْقِيفًا، ولَمْ يَذْكُرِ الحَجَرَ العَظِيمَ إلّا والصَّغِيرُ والكَبِيرُ مُتَساوِيانِ عِنْدَهُ في سُقُوطِ القَوَدِ بِهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي (p-٢٠٣)بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا المَعْمَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقِّيُّ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ وخالِدٍ الحَذّاءِ عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «قَتِيلُ خَطَإ العَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ مِنها أرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِها أوْلادُها» فَقَدْ حَوى هَذا الخَبَرُ مَعانِيَ: مِنها إثْباتُهُ قَتِيلَ خَطَإ العَمْدِ قِسْمًا غَيْرَ العَمْدِ وغَيْرَ الخَطَإ وهو شِبْهُ العَمْدِ، ومِنها إيجابُهُ الدِّيَةَ في قَتِيلِ السَّوْطِ والعَصا مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ ما يَقْتُلُ مِثْلُهُ وبَيْنَ ما لا يَقْتُلُ مِثْلُهُ وبَيْنَ مَن يُوالِي الضَّرْبَ حَتّى يَقْتُلَهُ وبَيْنَ مَن يُقْتَلُ بِضَرْبَةٍ واحِدَةٍ، ومِنها أنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السَّوْطِ والعَصا والسَّوْطُ لا يَقْتُلُ مِثْلُهُ في الغالِبِ والعَصا يَقْتُلُ مِثْلُها في الأكْثَرِ، فَدَلَّ عَلى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ما يَقْتُلُ وبَيْنَ ما لا يَقْتُلُ.
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ بْنِ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قالَ: حَدَّثَنا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أبِي حُصَيْنٍ عَنْ إبْراهِيمَ ابْنِ بِنْتِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ شَيْءٍ سِوى الحَدِيدَةِ خَطَأٌ ولِكُلِّ خَطَأٍ أرْشٌ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الضُّبَعِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وشُعْبَةُ عَنْ جابِرٍ الجُعْفِيِّ عَنْ أبِي عازِبٍ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلّا السَّيْفَ وفي كُلِّ خَطَأٍ أرْشٌ» .
وأيْضًا لَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ بِسِكِّينٍ صَغِيرَةٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُها وحُكْمُ الكَبِيرَةِ في وُجُوبِ القِصاصِ فَوَجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ الحَجَرِ والخَشَبِ في سُقُوطِهِ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ في إيجابِ القِصاصِ مُتَعَلِّقٌ بِالآلَةِ، وهي أنْ تَكُونَ سِلاحًا أوْ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّلاحِ.
فَإنْ قِيلَ: عَلى ما رَوَيْنا مِن قَوْلِهِ ﷺ: «قَتِيلُ خَطَإ العَمْدِ» أنَّ العَمْدَ لا يَكُونُ خَطَأً ولا الخَطَأُ عَمْدًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى فَسادِ الحَدِيثِ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ سَمّاهُ خَطَأ العَمْدِ لِأنَّهُ خَطَأٌ في الحُكْمِ عَمْدٌ في الفِعْلِ، وذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحٌ لِأنَّهُ دَلَّ بِهِ عَلى التَّغْلِيظِ مِن حَيْثُ هو عَمْدٌ وعَلى سُقُوطِ القَوَدِ مِن حَيْثُ هو في حُكْمِ الخَطَإ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] وقَوْلُهُ: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] وسائِرُ الآيِ الَّتِي فِيها إيجابُ القِصاصِ يُوجِبُهُ عَلى القاتِلِ بِالحَجَرِ العَظِيمِ.
قِيلَ لَهُ: لا خِلافَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما أوْجَبَتِ القِصاصَ في العَمْدِ، وهَذا لَيْسَ بِعَمْدٍ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ الآيَةَ ورَدَتْ في إيجابِ القِصاصِ في الأصْلِ والآثارُ الَّتِي (p-٢٠٤)ذَكَرْنا وارِدَةٌ فِيما يَجِبُ فِيهِ القِصاصُ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَعْمَلٌ فِيما ورَدَ فِيهِ لا يُعْتَرَضُ بِأحَدِهِما عَلى الآخَرِ.
وأيْضًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ [النساء: ٩٢] وسَمّى النَّبِيُّ ﷺ شِبْهَ العَمْدِ قَتِيلَ خَطَإ العَمْدِ، فَلَمّا أطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الخَطَإ وجَبَ أنْ تَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ. فَإنِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ في قِصَّةِ المَرْأتَيْنِ قَتَلَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِمِسْطَحٍ فَأوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْها القِصاصَ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا اضْطِرابَ الحَدِيثِ وما عارَضَهُ مِن رِوايَةِ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ في إيجابِ الدِّيَةِ دُونَ القَوَدِ، ولَوْ ثَبَتَ القَوَدُ أيْضًا فَإنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ في شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِعُمُومٍ في جَمِيعِ مَن قُتِلَ بِمِسْطَحٍ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ كانَ فِيهِ حَدِيدٌ وأصابَها الحَدِيدُ دُونَ الخَشَبِ، فَمِن أجْلِهِ أوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ القَوَدَ. فَإنِ احْتَجُّوا بِما رُوِيَ «أنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جارِيَةٍ بِالحِجارَةِ فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ» .
قِيلَ لَهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ كانَ لَها مَرْوَةٌ، وهي الَّتِي لَها حَدٌّ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّكِّينِ، فَلِذَلِكَ أوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ قَتْلَهُ. وأيْضًا رَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قُلابَةَ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جارِيَةً مِنَ الأنْصارِ عَلى حُلِيٍّ لَها وألْقاها في نَهْرٍ ورَضَخَ رَأْسَها بِالحِجارَةِ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ حَتّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتّى ماتَ» .
ولا خِلافَ أنَّ الرَّجْمَ لا يَجِبُ عَلى وجْهِ القَوَدِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ اليَهُودِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَقَتَلَ الجارِيَةَ ولَحِقَ بِأرْضِهِ فَأُخِذَ وهو حَرْبِيٌّ لِقُرْبِ مَنازِلِهِمْ مِنَ المَدِينَةِ فَقَتَلَهُ عَلى أنَّهُ مُحارَبٌ حَرْبِيٌّ ورَجَمَهُ، كَما سَمَلَ أعْيُنَ العُرَنِيِّينَ الَّذِينَ اسْتاقُوا الإبِلَ وقَتَلُوا الرّاعِيَ وقَطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وتَرَكَهم حَتّى ماتُوا، ثُمَّ نُسِخَ القَتْلُ عَلى وجْهِ المُثْلَةِ.
* * *
مَسْألَةٌ: في قَتْلِ الحُرِّ بِالعَبْدِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في القِصاصِ بَيْنَ الأحْرارِ والعَبِيدِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: " لا قِصاصَ بَيْنَ الأحْرارِ والعَبِيدِ إلّا في الأنْفُسِ ويُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ والعَبْدُ بِالحُرِّ " وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: " القِصاصُ واجِبٌ بَيْنَهم في جَمِيعِ الجِراحاتِ الَّتِي نَسْتَطِيعُ فِيها القِصاصَ " . وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: " لَيْسَ بَيْنَ الحُرِّ والعَبْدِ قَوَدٌ في شَيْءٍ مِنَ الجِراحِ، والعَبْدُ يُقْتَلُ بِالحُرِّ، ولا يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ " .
وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " إذا كانَ العَبْدُ هو الجانِيَ اقْتُصُّ مِنهُ، ولا يُقْتَصُّ مِنَ الحُرِّ لِلْعَبْدِ " وقالَ: " إذا قَتَلَ العَبْدُ الحُرَّ فَلِوَلِيِّ المَقْتُولِ أنْ يَأْخُذُ بِها نَفْسَ العَبْدِ القاتِلِ فَيَكُونَ لَهُ، وإذا جَنى عَلى الحُرِّ فِيما دُونَ النَّفْسِ فَلِلْمَجْرُوحِ القِصاصُ إنْ شاءَ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ: مَن جَرى عَلَيْهِ القِصاصُ في النَّفْسِ جَرى عَلَيْهِ في الجِراحِ، ولا يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ، ولا يُقْتَصُّ لَهُ مِنهُ فِيما دُونَ النَّفْسِ، وجْهُ دَلالَةِ الآيَةِ في وُجُوبِ القِصاصِ بَيْنَ الأحْرارِ والعَبِيدِ في النَّفْسِ، أنَّ الآيَةَ مَقْصُورَةُ الحُكْمِ عَلى ذِكْرِ القَتْلى، ولَيْسَ فِيهِمْ ذِكْرٌ لِما دُونَ النَّفْسِ مِنَ الجِراحِ، وسائِرُ ما ذَكَرْنا مِن عُمُومِ آيِ القُرْآنِ في بَيانِ القَتْلى والعُقُوبَةِ والِاعْتِداءِ يَقْتَضِي قَتْلَ الحُرِّ بِالعَبْدِ، ومِن حَيْثُ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى قَتْلِ العَبْدِ بِالحُرِّ وجَبَ قَتْلُ الحُرِّ بِالعَبْدِ؛ لِأنَّ العَبْدَ قَدْ ثَبَتَ أنَّهُ مُرادٌ بِالآيَةِ، والآيَةُ لَمْ يُفَرِّقْ مُقْتَضاها بَيْنَ العَبْدِ المَقْتُولِ والقاتِلِ، فَهي عُمُومٌ فِيهِما جَمِيعًا.
ويَدُلُّ أيْضًا عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الألْبابِ﴾ فَأخْبَرَ أنَّهُ أوْجَبَ القِصاصَ؛ لِأنَّ فِيهِ حَياةً لَنا. وذَلِكَ خِطابٌ شامِلٌ لِلْحُرِّ والعَبْدِ؛ لِأنَّ صِفَةَ أُولِي الألْبابِ تَشْمَلُهم جَمِيعًا، فَإذا كانَتِ العِلَّةُ مَوْجُودَةً في الجَمِيعِ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصارُ بِحُكْمِها عَلى بَعْضِ مَن هي مَوْجُودَةٌ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» وهو عامٌّ في العَبِيدِ والأحْرارِ فَلا يُخَصُّ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بِدَلالَةٍ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن وجْهٍ آخَرَ: وهو اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ العَبْدَ إذا كانَ هو القاتِلَ فَهو مُرادٌ بِهِ، كَذَلِكَ إذا كانَ مَقْتُولًا؛ لِأنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ إذا كانَ قاتِلًا أوْ مَقْتُولًا.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ في سِياقِ الحَدِيثِ: «، ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ أدْناهم» وهو العَبْدُ، يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ بِأوَّلِ الخِطابِ ؟ . قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن قِبَلِ أنَّهُ لا خِلافَ أنَّ العَبْدَ إذا كانَ قاتِلًا فَهو مُرادٌ، ولَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ: «ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ أدْناهم» (p-١٦٨)أنْ يَكُونَ مُرادًا إذا كانَ قاتِلًا، كَذَلِكَ لا يَمْنَعُ إرادَتَهُ إذا كانَ مَقْتُولًا، عَلى أنَّ قَوْلَهُ: «ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ أدْناهم» لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ العَبْدِ مِن غَيْرِهِ، وإنَّما المُرادُ أدْناهم عَدَدًا، هو كَقَوْلِهِ: واحِدٌ مِنهم، فَلا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ في إيجابِ اقْتِصارِ حُكْمِ أوَّلِ اللَّفْظِ عَلى الحُرِّ دُونَ العَبْدِ.
وعَلى أنَّهُ لَوْ قالَ: ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ عَبْدُهم، لَمْ يُوجِبْ تَخْصِيصَ حُكْمِهِ في مُكافَأةِ دَمِهِ لِدَمِ الحُرِّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا، وخَصَّ بِهِ العَبْدَ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ غَيْرَ العَبْدِ أوْلى بِالسَّعْيِ بِذِمَّتِهِمْ. فَإذا كانَ تَخْصِيصُ العَبْدِ بِالذِّكْرِ في هَذا الحُكْمِ لَمْ يُوجِبْ أنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ الآخَرِ، فَلَأنْ لا يُوجِبَ تَخْصِيصَ حُكْمِ القِصاصِ أوْلى.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» يَقْتَضِي التَّماثُلَ في الدِّماءِ، ولَيْسَ العَبْدُ مِثْلًا لِلْحُرِّ. قِيلَ لَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِثْلًا لَهُ في الدَّمِ؛ إذْ عَلَّقَ حُكْمَ التَّكافُؤِ مِنهم بِالإسْلامِ، ومَن قالَ لَيْسَ بِمُكافِئٍ لَهُ فَهو خارِجٌ عَلى حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ مُخالِفٌ بِغَيْرِ دَلالَةٍ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ الأعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلّا في إحْدى ثَلاثٍ: التّارِكُ لِلْإسْلامِ المُفارِقُ لِلْجَماعَةِ، والثَّيِّبُ الزّانِي، والنَّفْسُ بِالنَّفْسِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الحُرِّ والعَبْدِ، وأوْجَبَ القِصاصَ في النَّفْسِ بِالنَّفْسِ» .
وذَلِكَ مُوافِقٌ لِما حَكى اللَّهُ مِمّا كَتَبَهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ فَحَوى هَذا الخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّ ما كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِن ذَلِكَ فَحُكْمُهُ باقٍ عَلَيْنا، والثّانِي: أنَّهُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ في إيجابِ القِصاصِ عامًّا في سائِرِ النُّفُوسِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا مِن جِهَةِ السُّنَّةِ، ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ زَكَرِيّا التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سَهْلُ بْنُ عُثْمانَ العَسْكَرِيُّ أبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ طاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «العَمْدُ قَوَدٌ إلّا أنْ يَعْفُوَ ولِيُّ المَقْتُولِ» فَقَدْ دَلَّ هَذا الخَبَرُ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: إيجابُ القَوَدِ في كُلِّ عَمْدٍ، وأوْجَبَ ذَلِكَ القَوَدَ عَلى قاتِلِ العَبْدِ.
والثّانِي: نَفى بِهِ وُجُوبَ المالِ؛ لِأنَّهُ لَوْ وجَبَ المالُ مَعَ القَوَدِ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ لَما اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ القَوَدِ دُونَهُ. ويَدُلُّ أيْضًا عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ العَبْدَ مَحْقُونُ الدَّمِ حَقْنًا لا يَرْفَعُهُ مُضِيُّ الوَقْتِ، ولَيْسَ بِوَلَدٍ لِلْقاتِلِ، ولا مِلْكٍ لَهُ، فَأشْبَهَ الحُرُّ الأجْنَبِيَّ، فَوَجَبَ القِصاصُ بَيْنَهُما كَما يَجِبُ عَلى العَبْدِ إذا قَتَلَ حُرًّا بِهَذِهِ العِلَّةِ، كَذَلِكَ إذا قَتَلَهُ الحُرُّ لِوُجُودِ العِلَّةِ فِيهِ.
وأيْضًا فَمَن مَنَعَ أنْ يُقادَ الحُرُّ بِالعَبْدِ، فَإنَّما مَنَعَهُ لِنُقْصانِ الرِّقِّ الَّذِي (p-١٦٩)فِيهِ، ولا اعْتِبارَ بِالمُساواةِ في الأنْفُسِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيما دُونَها، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا واحِدًا قُتِلُوا بِهِ، ولَمْ تُعْتَبَرِ المُساواةُ، كَذَلِكَ لَوْ أنَّ رَجُلًا صَحِيحَ الجِسْمِ سَلِيمَ الأعْضاءِ قَتَلَ رَجُلًا مَفْلُوجًا مَرِيضًا مُدْنَفًا مَقْطُوعَ الأعْضاءِ قُتِلَ بِهِ، وكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ بِالمَرْأةِ مَعَ نُقْصانِ عَقْلِها ودِينِها، ودِيَتُها ناقِصَةٌ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنْ لا اعْتِبارَ بِالمُساواةِ في إيجابِ القِصاصِ في الأنْفُسِ، وأنَّ الكامِلَ يُقادُ مِنهُ لِلنّاقِصِ، ولَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ ما دُونَ النَّفْسِ؛ لِأنَّهم لا يَخْتَلِفُونَ في أنَّهُ لا تُؤْخَذُ اليَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلّاءِ، وتُؤْخَذُ النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالسَّقِيمَةِ.
ورَوى اللَّيْثُ عَنِ الحَكَمِ، أنَّ عَلِيًّا وابْنَ مَسْعُودٍ قالا: " مَن قَتَلَ عَبْدًا عَمْدًا فَهو قَوَدٌ " .
{"ayah":"وَلَكُمۡ فِی ٱلۡقِصَاصِ حَیَوٰةࣱ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق