الباحث القرآني

* بابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قالَ: «قَرَأْتُ عِنْدَ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ فَقُلْتُ: لا أُبالِي أنْ لا أفْعَلَ، قالَتْ: بِئْسَما قُلْتَ يا ابْنَ أُخْتِي قَدْ طافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وطافَ المُسْلِمُونَ فَكانَتْ سُنَّةً إنَّما كانَ مَن أهَلَّ لِمَناةَ الطّاغِيَةِ لا يَطَّوَّفُ بِهِما، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ كَرِهُوا أنْ يَطُوفُوا بِهِما حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَطافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكانَتْ سُنَّةً قالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنَ، فَقالَ: إنَّ هَذا لَعِلْمٌ، ولَقَدْ كانَ رِجالٌ مِن أهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّما سَألَ عَنْ هَذا الرِّجالُ الَّذِينَ كانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، فَأحْسَبُها نَزَلَتْ في الفَرِيقَيْنِ» . ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ قالَ: كانَ عَلى الصَّفا تَماثِيلُ وأصْنامٌ وكانَ المُسْلِمُونَ لا يَطُوفُونَ عَلَيْها لِأجْلِ الأصْنامِ والتَّماثِيلِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ: كانَ السَّبَبُ في نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ عائِشَةَ سُؤالُ مَن كانَ لا يَطُوفُ بِهِما في الجاهِلِيَّةِ لِأجْلِ إهْلالِهِ لِمَناةَ، وعَلى ما ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ ذَلِكَ كانَ لِسُؤالِ مَن كانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، وقَدْ كانَ عَلَيْهِما الأصْنامُ، فَتَجَنَّبَ النّاسُ الطَّوافَ بِهِما بَعْدَ الإسْلامِ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ سُؤالَ الفَرِيقَيْنِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في السَّعْيِ بَيْنَهُما، فَرَوى هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ، وأيُّوبُ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، جَمِيعًا عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «ما أتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِامْرِئِ حَجًّا ولا عُمْرَةً ما لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ» . وذَكَرَ أبُو الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما سُنَّةٌ وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَهُ» . ورَوى عاصِمٌ الأحْوَلُ عَنْ أنَسٍ قالَ: " كُنّا نَكْرَهُ الطَّوافَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، والطَّوافُ بَيْنَهُما تَطَوُّعٌ " . ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: " مَن شاءَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ " . ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ ومُجاهِدٍ: " إنَّ مَن تَرَكَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ " وقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ في ذَلِكَ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ ومالِكٌ: " إنَّهُ واجِبٌ في الحَجِّ والعُمْرَةِ وتَرْكُهُ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ إذا تَرَكَهُ وعَلَيْهِ أنْ يَرْجِعَ فَيَطُوفَ " قالَ أبُو بَكْرٍ: هو عِنْدَ أصْحابِنا مِن تَوابِعِ الحَجِّ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ لِمَن رَجَعَ إلى أهْلِهِ مِثْلُ الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ ورَمْيِ الجِمارِ وطَوافِ الصَّدْرِ. والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن فُرُوضِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ (p-١١٩)فِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطّائِيِّ قالَ: أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالمُزْدَلِفَةِ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ مِن جَبَلِ طَيِّئٍ ما تَرَكْتُ جَبَلًا إلّا وقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِن حَجٍّ ؟ فَقالَ ﷺ: «مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ ووَقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ وقَدْ أدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أوْ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ» . فَهَذا القَوْلُ مِنهُ ﷺ يَنْفِي كَوْنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَرْضًا في الحَجِّ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: إخْبارُهُ بِتَمامِ حَجَّتِهِ ولَيْسَ فِيهِ السَّعْيُ بَيْنَهُما. والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ لَوْ كانَ مِن فُرُوضِهِ لَبَيَّنَهُ لِلسّائِلِ لِعِلْمِهِ بِجَهْلِهِ بِالحُكْمِ. فَإنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ طَوافَ الزِّيارَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِن فُرُوضِهِ قِيلَ لَهُ: ظاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وإنَّما أثْبَتْناهُ فَرْضًا بِدَلالَةٍ. فَإنْ قِيلَ: فَهَذا يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ مَسْنُونًا ويَكُونَ تَطَوُّعًا، كَما رُوِيَ عَنْ أنَسٍ وابْنِ الزُّبَيْرِ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظاهِرُ اللَّفْظِ، وإنَّما أثْبَتْناهُ مَسْنُونًا في تَوابِعِ الحَجِّ بِدَلالَةٍ. ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ لِوُجُوبِهِ أنَّ فَرْضَ الحَجِّ مُجْمَلٌ في كِتابِ اللَّهِ؛ لِأنَّ الحَجَّ في اللُّغَةِ القَصْدُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎يَحُجُّ مَأْمُومَةَ في قَعْرِها لَجَفَّ يَعْنِي أنَّهُ يَقْصِدُ ثُمَّ نُقِلَ في الشَّرْعِ إلى مَعانٍ أُخَرِ لَمْ يَكُنِ اسْمًا مَوْضُوعًا لَها في اللُّغَةِ وهو مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلى البَيانِ فَمَهْما ورَدَ مِن فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ فَهو بَيانٌ لِلْمُرادِ بِالجُمْلَةِ. وفِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ إذا ورَدَ مَوْرِدَ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ، فَلَمّا سَعى بَيْنَهُما النَّبِيُّ ﷺ كانَ ذَلِكَ دَلالَةَ الوُجُوبِ حَتّى تَقُومَ دَلالَةُ النَّدْبِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» وذَلِكَ أمْرٌ يَقْتَضِي إيجابَ الِاقْتِداءِ بِهِ في سائِرِ أفْعالِ المَناسِكِ، فَوَجَبَ الِاقْتِداءُ بِهِ في السَّعْيِ بَيْنَهُما. وقَدْ رَوى طارِقُ بْنُ شِهابٍ عَنْ أبِي مُوسى قالَ: «قَدِمْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو بِالبَطْحاءِ فَقالَ: بِمَ أهْلَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: أهْلَلْتُ بِإهْلالِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: أحْسَنْتَ طُفْ بِالبَيْتِ والصَّفا والمَرْوَةِ ثُمَّ أحَلَّ» فَأمَرَهُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُما، وهَذا أمْرٌ يَقْتَضِي الإيجابَ. وقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ والمَتْنِ جَمِيعًا مَجْهُولُ الرّاوِي، وهو ما رَواهُ مَعْمَرٌ عَنْ واصِلٍ مَوْلى أبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ مُوسى بْنِ أبِي عُبَيْدِ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، «عَنِ امْرَأةٍ سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ يَقُولُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فاسْعَوْا فَذَكَرَتْ في هَذا الحَدِيثِ أنَّها سَمِعَتْهُ يَقُولَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ» ولَمْ تَذْكُرِ اسْمَ الرّاوِيَةِ. وقَدْ رَوى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ قالَ: حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنِ «امْرَأةٍ يُقالَ لَها حَبِيبَةُ بِنْتُ أبِي تُجْزَءَةَ قالَتْ: دَخَلْتُ دارَ أبِي حُسَيْنٍ ومَعِي نِسْوَةٌ مِن قُرَيْشٍ والنَّبِيُّ ﷺ يَطُوفُ بِالبَيْتِ حَتّى إنَّ ثَوْبَهُ لَيَدُورُ بِهِ وهو يَقُولُ لِأصْحابِهِ: اسْعَوْا فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» (p-١٢٠)فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ ذَلِكَ وهو في الطَّوافِ، فَظاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُرادُهُ السَّعْيَ في الطَّوافِ وهو الرَّمْيُ والطَّوافُ نَفْسُهُ؛ لِأنَّ المَشْيَ يُسَمّى سَعْيًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩] ولَيْسَ المُرادُ إسْراعَ المَشْيِ، وإنَّما هو المَصِيرُ إلَيْهِ. والخَبَرُ الأوَّلُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ ذَلِكَ وهو يَسْعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهُ أرادَ السَّعْيَ بَيْنَهُما؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ الطَّوافَ بِالبَيْتِ والرَّمَيَ فِيهِ، وهو سَعْيٌ لِأنَّهُ إسْراعُ المَشْيِ. وأيْضًا فَإنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوازَ أيِّ سَعْيٍ كانَ، وهو إذا رَمَلَ فَقَدْ سَعى، ووُجُوبُ التَّكْرارِ لا دَلالَةَ عَلَيْهِ. فالأخْبارُ الأُوَلُ الَّتِي ذَكَرْناها دالَّةٌ عَلى وُجُوبِ السَّعْيِ لِأنَّهُ سُنَّةٌ لا يَنْبَغِي تَرْكُها، ولا دَلالَةَ فِيها عَلى أنَّ مَن تَرَكَها لا يَنُوبُ عَنْهُ دَمٌ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الدَّمَ يَنُوبُ عَنْهُ لِمَن تَرَكَهُ حَتّى يَرْجِعَ إلى أهْلِهِ اتِّفاقُ السَّلَفِ عَلى جَوازِ السَّعْيِ بَعْدَ الإحْلالِ مِن جَمِيعِ الإحْرامِ كَما يَصِحُّ الرَّمْيُ وطَوافُ الصَّدْرِ، فَوَجَبَ أنْ يَنُوبَ عَنْهُ الدَّمُ كَما نابَ عَنِ الرَّمْيِ وطَوافِ الصَّدْرِ. فَإنْ قِيلَ طَوافُ الزِّيارَةِ يُفْعَلُ بَعْدَ الإحْلالِ ولا يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ بَقاءَ طَوافِ الزِّيارَةِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مُحْرِمًا عَنِ النِّساءِ، وإذا طافَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ بِلا خِلافٍ بَيْنَ الفُقَهاءِ، ولَيْسَ لِبَقاءِ السَّعْيِ تَأْثِيرٌ في بَقاءِ شَيْءٍ مِنَ الإحْرامِ كالرَّمْيِ وطَوافِ الصَّدْرِ فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَإنَّ الشّافِعِيَّ يَقُولُ: إذا طافَ لِلزِّيارَةِ لَمْ يَحِلَّ مِنَ النِّساءِ وكانَ حَرامًا حَتّى يَسْعى بِالصَّفا والمَرْوَةِ قِيلَ لَهُ: قَدِ اتَّفَقَ الصَّدْرُ الأوَّلُ مِنَ التّابِعِينَ والسَّلَفِ بَعْدَهم أنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوافِ بِالبَيْتِ؛ لِأنَّهم عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ بَعْدَ الحَلْقِ، فَقالَ قائِلُونَ: هو مُحْرِمٌ مِنَ اللِّباسِ والصَّيْدِ والطَّيِّبِ حَتّى يَطُوفَ بِالبَيْتِ وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: هو مُحْرِمٌ مِنَ النِّساءِ والطِّيبِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ وغَيْرُهُ: هو مُحْرِمٌ مِنَ النِّساءِ حَتّى يَطُوفَ فَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلى أنَّهُ يَحِلُّ مِنَ النِّساءِ بِالطَّوافِ بِالبَيْتِ دُونَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ. وأيْضًا فَإنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما لا يُفْعَلُ إلّا تَبَعًا لِلطَّوافِ، ألا تَرى أنَّ مَن لا طَوافَ عَلَيْهِ لا سَعْيَ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لا يَتَطَوَّعُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُما كَما لا يَتَطَوَّعُ بِالرَّمْيِ ؟ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مِن تَوابِعِ الحَجِّ والعُمْرَةِ. فَإنْ قِيلَ: الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لا يُفْعَلُ إلّا بَعْدَ الإحْرامِ، وطَوافُ الزِّيارَةِ لا يُفْعَلُ إلّا بَعْدَ الوُقُوفِ، وهُما مِن فُرُوضِ الحَجِّ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ مَن لا يُفْعَلُ إلّا بَعْدَ غَيْرِهِ فَهو تَبَعٌ فَيَلْزَمُنا ما ذَكَرْتَ، وإنَّما قُلْنا: ما لا يُفْعَلُ إلّا عَلى وجْهِ التَّبَعِ لِأفْعالِ الحَجِّ أوِ العُمْرَةِ فَهو تابِعٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأمّا الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَإنَّهُ غَيْرُ مَفْعُولٍ عَلى وجْهِ التَّبَعِ لِغَيْرِهِ بَلْ يُفْعَلُ مُنْفَرِدًا (p-١٢١)بِنَفْسِهِ، ولَكِنْ مِن شُرُوطِهِ شَيْئانِ: الإحْرامُ والوَقْتُ، وما كانَ شَرْطُهُ الإحْرامَ أوِ الوَقْتَ فَلا دَلالَةَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ عَلى وجْهِ التَّبَعِ، وكَذَلِكَ ما تَعَلَّقَ جَوازُهُ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهُ تَبَعُ فَرْضٍ غَيْرِهِ. وطَوافُ الزِّيارَةِ إنَّما يَتَعَلَّقُ جَوازُهُ بِالوَقْتِ. والوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إنَّما يَتَعَلَّقُ جَوازُهُ بِالإحْرامِ والوَقْتِ ولَيْسَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلى وُقُوعِ فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الإحْرامِ، فَلَيْسَ هو إذًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وأمّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَإنَّهُ مَعَ حُضُورِ وقْتِهِ هو مَوْقُوفٌ عَلى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ وهو الطَّوافُ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مِن تَوابِعِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وأنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأشْبَهَ طَوافَ الصَّدْرِ لَمّا كانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلى طَوافِ الزِّيارَةِ كانَ تَبَعًا في الحَجِّ يَنُوبُ عَنْ تَرْكِهِ دَمٌ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ قَدْ دَلَّ عَلى أنَّهُ قُرْبَةٌ لِأنَّ الشَّعائِرَ هي مَعالِمُ الطّاعاتِ والقُرَبِ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الإشْعارِ الَّذِي هو الإعْلامُ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُكَ شَعَرْتُ بِكَذا وكَذا أيْ عَلِمْتُهُ. ومِنهُ إشْعارُ البَدَنَةِ أيْ إعْلامُها لِلْقُرْبَةِ، وشِعارُ الحَرْبِ عَلاماتُها الَّتِي يَتَعارَفُونَ بِها فالشَّعائِرُ هي المَعالِمُ لِلْقُرَبِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ [الحج: ٣٢] وشَعائِرُ الحَجِّ مَعالِمُ نُسُكِهِ، ومِنهُ المَشْعَرُ الحَرامُ فَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ بِفَحْواها عَلى أنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما قُرْبَةٌ إلى اللَّهِ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ فَقَدْ أخْبَرَتْ عائِشَةُ وغَيْرُها أنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الجَوابِ لِمَن سَألَ عَنْهُما، وأنَّ ظاهِرَ هَذا اللَّفْظِ لَمْ يَنْفِ إرادَةَ الوُجُوبِ وإنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ مِن غَيْرِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِهِ وهو ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في السَّعْيِ في بَطْنِ الوادِي، ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ أخْبارٌ مُخْتَلِفَةٌ، ومَذْهَبُ أصْحابِنا أنَّ السَّعْيَ فِيهِ مَسْنُونٌ لا يَنْبَغِي تَرْكُهُ كالرَّمَيِ في الطَّوافِ. ورَوى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جابِرٍ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ لَمّا تَصَوَّبَتْ قَدَماهُ في الوادِي سَعى حَتّى خَرَجَ مِنهُ» . ورَوى سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ قالَ: «سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: أرَأيْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَرْمَلُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ؟ قالَ: كانَ في النّاسِ فَرَمَلُوا ولا أراهم فَعَلُوا إلّا بِرَمَلِهِ» وقالَ نافِعٌ: " كانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْعى في بَطْنِ الوادِي " . ورَوى مَسْرُوقٌ " أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَعى في بَطْنِ الوادِي " . ورَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " مَن شاءَ يَسْعى بِمَسِيلِ مَكَّةَ ومَن شاءَ لَمْ يَسْعَ " وإنَّما يَعْنِي الرَّمَلَ في بَطْنِ الوادِي. ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قالَ: «رَأيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وقالَ: إنْ مَشَيْتُ فَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْشِي، وإنْ سَعَيْتُ فَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْعى» . ورَوى عَمْرٌو عَنْ عَطاءٍ عَنِ (p-١٢٢)ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «إنَّما سَعى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لِيُرِيَ المُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ فَأتَيْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَقالَ سَعى النَّبِيُّ ﷺ في بَطْنِ الوادِي» وذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي مِن أجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ وهو إظْهارُ الجَلَدِ والقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وتَعَلُّقُ فِعْلِهِ بِهَذا السَّبَبِ لا يَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً مَعَ زَوالِهِ عَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا في الرَّمَلِ في الطَّوافِ فِيما تَقَدَّمَ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ السَّبَبَ في رَمْيِ الجِمارِ كانَ رَمْيَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إبْلِيسَ لَمّا عَرَضَ لَهُ بِمِنًى، وصارَ سُنَّةً بَعْدَ ذَلِكَ. وكَذَلِكَ كانَ سَبَبُ الرَّمَلِ في الوادِي أنَّ هاجَرَ لَمّا طَلَبَتِ الماءَ لِابْنِها إسْماعِيلَ وجَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَكانَتْ إذا نَزَلَتِ الوادِيَ غابَ الصَّبِيُّ عَنْ عَيْنِها، فَأسْرَعَتِ المَشْيَ. ورَوى أبُو الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ المَناسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطانُ عِنْدَ المَسْعى فَسَبَقَهُ إبْراهِيمُ، فَكانَ ذَلِكَ سَبَبَ سُرْعَةِ المَشْيِ هُناكَ. وهو سُنَّةٌ كَنَظائِرِهِ مِمّا وصَفْنا. والرَّمَلُ في بَطْنِ الوادِي في الطَّوافِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ مِمّا قَدْ نَقَلَتْهُ الأُمَّةُ قَوْلًا وفِعْلًا ولَمْ يُخْتَلَفْ في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَهُ، وإنَّما اخْتُلِفَ في كَوْنِهِ مَسْنُونًا بَعْدَهُ، وظُهُورُ نَقْلِهِ فِعْلًا إلى هَذِهِ الغايَةِ دَلالَةٌ عَلى بَقاءِ حُكْمِهِ عَلى ما قَدَّمْنا مِنَ الدَّلالَةِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. * * * بابُ طَوافِ الرّاكِبِ قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتُلِفَ في طَوافِ الرّاكِبِ بَيْنَهُما، فَكَرِهَ أصْحابُنا ذَلِكَ إلّا مِن عُذْرٍ، وذَكَرَ أبُو الطُّفَيْلِ أنَّهُ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: «إنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أنَّ الطَّوافَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ عَلى الدّابَّةِ سُنَّةٌ وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقالَ: صَدَقُوا وكَذَبُوا، إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهُ كانَ لا يُدْفَعُ عَنْهُ أحَدٌ ولَيْسَتْ بِسُنَّةٍ» . ورَوى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «، أنَّها شَكَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنِّي أشْتَكِي فَقالَ: طُوفِي مِن وراءِ النّاسِ وأنْتِ راكِبَةٌ» وكانَ عُرْوَةُ إذا رَآهم يَطُوفُونَ عَلى الدَّوابِّ نَهاهم فَيَتَعَلَّلُونَ بِالمَرَضِ، فَيَقُولُ: " خابَ هَؤُلاءِ وخَسِرُوا " . ورَوى ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: " ما مَنَعَنِي مِنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، وإنِّي لَأكْرَهُ الرُّكُوبَ " ورُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي زِيادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ جاءَ وقَدِ اشْتَكى فَطافَ عَلى بَعِيرٍ ومَعَهُ مِحْجَنٌ كُلَّما مَرَّ عَلى الحَجَرِ اسْتَلَمَهُ فَلَمّا فَرَغَ مِن طَوافِهِ أناخَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ» ولَمّا ثَبَتَ مِن سُنَّةِ الطَّوافِ بِهِما السَّعْيُ في بَطْنِ الوادِي عَلى ما وصَفْنا وكانَ الرّاكِبُ تارِكًا لِلسَّعْيِ كانَ فِعْلُهُ خِلافَ السُّنَّةِ إلّا أنْ يَكُونَ مَعْذُورًا عَلى نَحْوِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ والصَّحابَةِ، فَيَجُوزُ. * * * (p-١٢٣)فَصْلٌ رَوى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جابِرٍ، وذَكَرَ حَجَّ النَّبِيِّ ﷺ وطَوافَهُ بِالبَيْتِ إلى قَوْلِهِ: «فاسْتَلَمَ الحَجَرَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّفا حَتّى بَدا لَهُ البَيْتُ فَقالَ: نَبْدَأُ بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ» يَدُلُّ عَلى أنَّ لَفْظَ الآيَةِ لا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ؛ إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا مِنَ الآيَةِ لَمْ يَحْتَجْ أنْ يَقُولَ: " نَبْدَأُ بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ " فَإنَّما بُدِئَ بِالصَّفا قَبْلَ المَرْوَةِ لِقَوْلِهِ ﷺ: " نَبْدَأُ بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ " ونَفْعَلُهُ كَذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» . ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ المَسْنُونَ عَلى التَّرْتِيبِ أنْ يَبْدَأ بِالصَّفا قَبْلَ المَرْوَةِ، فَإنْ بَدَأ بِالمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفا لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ في الرِّوايَةِ المَشْهُورَةِ عَنْ أصْحابِنا. ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ: " أنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُعِيدَ ذَلِكَ الشَّوْطَ، فَإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ " وجَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ في أعْضاءِ الطَّهارَةِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ عَقِيبَ ذِكْرِ الطَّوافِ بِهِما يَحْتَجُّ بِهِ مَن يَراهُ تَطَوُّعًا، وذَلِكَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ رُجُوعُ الكَلامِ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الطَّوافِ بِهِما، ومَعْلُومٌ مَعَ ذَلِكَ أنَّ الطَّوافَ لا يُتَطَوَّعُ بِهِ عِنْدَ مَن يَراهُ واجِبًا في الحَجِّ والعُمْرَةِ وعِنْدَ مَن لا يَراهُ في غَيْرِهِما فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ إخْبارًا بِأنَّ مَن فَعَلَهُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ فَإنَّما يَفْعَلُهُ تَطَوُّعًا، إذْ لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لِفِعْلِهِ في غَيْرِهِما لا تَطَوُّعًا ولا غَيْرَهُ وهَذا لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى ما ذَكَرُوا؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ مَن تَطَوَّعَ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِما في الخِطابِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب