الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: " الَّتِي هي أحْسَنُ التِّجارَةُ " . وقالَ الضَّحّاكُ: يَبْتَغِي بِهِ مِن فَضْلِ اللَّهِ ولا يَكُونُ لِلَّذِي يَبْتَغِي فِيهِ شَيْءٌ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: (p-٢٦)إنَّما خَصَّ اليَتِيمَ بِالذِّكْرِ وإنْ كانَ ذَلِكَ واجِبًا في أمْوالِ سائِرِ النّاسِ لِأنَّ اليَتِيمَ إلى ذَلِكَ أحْوَجُ والطَّمَعُ في مِثْلِهِ أكْثَرُ، وقَدِ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ جَوازَ التَّصَرُّفِ في مالِ اليَتِيمِ لِلْوالِي عَلَيْهِ مِن جَدٍّ أوْ وصِيِّ أبٍ لِسائِرِ ما يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ لِأنَّ الأحْسَنَ ما كانَ فِيهِ حِفْظُ مالِهِ وتَثْمِيرُهُ، فَجائِزٌ عَلى ذَلِكَ أنْ يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ لِلْيَتِيمِ بِما لا ضَرَرَ عَلى اليَتِيمِ فِيهِ وبِمِثْلِ القِيمَةِ وأقَلَّ مِنها مِمّا يَتَغابَنُ النّاسُ فِيهِ لِأنَّ النّاسَ قَدْ يَرَوْنَ ذَلِكَ حَطًّا لِما يَرْجُونَ فِيهِ مِنَ الرِّبْحِ والزِّيادَةِ ولِأنَّ هَذا القَدْرَ مِنَ النُّقْصانِ مِمّا يَخْتَلِفُ المُقَوِّمُونَ فِيهِ، فَلَمْ تَثْبُتْ هُناكَ حَطِيطَةٌ في الحَقِيقَةِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِيَ بِأكْثَرَ مِنَ القِيمَةِ بِما لا يَتَغابَنُ النّاسُ فِيهِ لِأنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلى اليَتِيمِ وذَلِكَ ظاهِرٌ مُتَيَقَّنٌ، وقَدْ نَهى اللَّهُ أنْ يُقْرَبَ مالُ اليَتِيمِ إلّا بِاَلَّتِي هي أحْسَنُ. وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى جَوازِ إجارَةِ مالِ اليَتِيمِ والعَمَلِ بِهِ مُضارَبَةً لِأنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اليَتِيمُ إنَّما يَحْصُلُ لَهُ بِعَمَلِ المُضارِبِ، فَذَلِكَ أحْسَنُ مِن تَرْكِهِ وقَدْ رَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ابْتَغُوا بِأمْوالِ الأيْتامِ خَيْرًا لا تَأْكُلْها الصَّدَقَةُ»، قِيلَ: مَعْناهُ النَّفَقَةُ لِأنَّ النَّفَقَةَ تُسَمّى صَدَقَةً. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «ما أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلى نَفْسِهِ وعِيالِهِ فَهو لَهُ صَدَقَةٌ» . وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ وجَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ أنَّ لِلْوَصِيِّ أنْ يَتَّجِرَ بِمالِ اليَتِيمِ وأنْ يَدْفَعَهُ مُضارَبَةً ويَدُلُّ عَلى أنَّ لِلْأبِ أنْ يَشْتَرِيَ مالِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ ويَبِيعَ مِنهُ وعَلى أنَّ لِلْوَصِيِّ أنْ يَشْتَرِيَ مالَ اليَتِيمِ لِنَفْسِهِ إذا كانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ قالَ: " وإنِ اشْتَرى بِمِثْلِ القِيمَةِ لَمْ يَجُزْ حَتّى يَكُونَ ما يَأْخُذُهُ اليَتِيمُ أكْثَرَ قِيمَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " لا يَجُوزُ ذَلِكَ بِحالٍ " . وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ ورَبِيعَةُ: " الحُلُمَ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: ٦] فَذَكَرَ الكِبَرَ هَهُنا وذَكَرَ الأشُدَّ في هَذِهِ الآيَةِ، وقالَ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] فَذَكَرَ في إحْدى الآياتِ الكِبَرَ مُطْلَقًا وفي الأُخْرى الأشُدَّ وفي الأُخْرى بُلُوغَ النِّكاحِ مَعَ إيناسِ الرُّشْدِ. ورَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمانَ بْنِ خَثِيمٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿حَتّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] ثَلاثٌ وثَلاثُونَ سَنَةً، ﴿واسْتَوى﴾ [القصص: ١٤] أرْبَعُونَ سَنَةً، ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ [فاطر: ٣٧] قالَ: العُمُرُ الَّذِي أعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إلى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً. وقالَ تَعالى: ﴿حَتّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أوْزِعْنِي﴾ [الأحقاف: ١٥] فَذَكَرَ في قِصَّةِ مُوسى بُلُوغَ الأشُدِّ والِاسْتِواءِ. وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بُلُوغَ الأشُدِّ، (p-٢٧)وفِي الأُخْرى بُلُوغَ الأشُدِّ وبُلُوغَ أرْبَعِينَ سَنَةً، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِبُلُوغِ الأشُدِّ قِيلَ أرْبَعِينَ سَنَةً وقِيلَ الِاسْتِواءُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالأشُدُّ لَيْسَ لَهُ مِقْدارٌ مَعْلُومٌ في العادَةِ لا يَزِيدُ عَلَيْهِ ولا يُنْقَصُ مِنهُ، وقَدْ يَخْتَلِفُ أحْوالُ النّاسِ فِيهِ فَيَبْلُغُ بَعْضُهُمُ الأشُدَّ في مُدَّةٍ لا يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ في مِثْلِها لِأنَّهُ إنْ كانَ بُلُوغُ الأشُدِّ هو اجْتِماعُ الرَّأْيِ واللُّبِّ بَعْدَ الحُلُمِ فَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ في العادَةِ وإنْ كانَ بُلُوغُهُ اجْتِماعَ القُوى وكَمالِ الجِسْمِ فَهو مُخْتَلِفٌ أيْضًا، وكُلُّ ما كانَ حُكْمُهُ مَبْنِيًّا عَلى العاداتِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ القَطْعُ بِهِ عَلى وقْتٍ لا يَتَجاوَزُهُ ولا يَقْصُرُ عَنْهُ إلّا بِتَوْقِيفٍ أوْ إجْماعٍ، فَلَمّا قالَ في آيَةٍ: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ اقْتَضى ذَلِكَ دَفْعَ المالِ إلَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِ الأشُدِّ مِن غَيْرِ شَرْطِ إيناسِ الرُّشْدِ، ولَمّا قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] شَرَطَ فِيها بَعْدَ بُلُوغِ النِّكاحِ إيناسَ الرُّشْدِ ولَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ في بُلُوغِ الأشُدِّ ولا بُلُوغِ حَدِّ الكِبَرِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: ٦] فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " لا يَدْفَعُ إلَيْهِ مالَهُ بَعْدَ البُلُوغِ حَتّى يُؤْنِسَ مِنهُ رُشْدًا ويَكْبُرَ ويَبْلُغَ الأشُدَّ وهو خَمْسٌ وعِشْرُونَ سَنَةً ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِ مالَهُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ عاقِلًا " فَجائِزٌ أنْ تَكُونَ هَذِهِ مُدَّةَ بُلُوغِ الأشُدِّ عِنْدَهُ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْفُوا بِالعَهْدِ﴾ يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمُ إيجابَ الوَفاءِ بِما عاهَدَ اللَّهَ عَلى نَفْسِهِ مِنَ النُّذُورِ والدُّخُولِ في القُرَبِ، فَألْزَمَهُ اللَّهُ تَعالى إتْمامَها، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنهم مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [التوبة: ٧٥] ﴿فَلَمّا آتاهم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [التوبة: ٧٦] ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ٧٧] وقِيلَ: أوْفُوا بِالعَهْدِ في حِفْظِ مالِ اليَتِيمِ مَعَ قِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْكم بِوُجُوبِ حِفْظِهِ وكُلُّ ما قامَتْ بِهِ الحُجَّةُ مِن أوامِرِ اللَّهِ وزَواجِرِهِ فَهو عَهْدٌ. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولا﴾ مَعْناهُ: مَسْؤُولًا عَنْهُ لِلْجَزاءِ، فَحُذِفَ اكْتِفاءً بِدَلالَةِ الحالِ وعِلْمِ المُخاطَبِ بِالمُرادِ. وقِيلَ: إنَّ العَهْدَ يُسْألُ فَيُقالُ لِمَ نُقِضْتَ ؟ كَما تُسْألُ المَوْءُودَةُ بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وذَلِكَ يَرْجِعُ إلى مَعْنى الأوَّلِ لِأنَّهُ تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ لِناقِضِ العَهْدِ كَما أنَّ سُؤالَ المَوْءُودَةِ تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ لِقائِلِها بِأنَّهُ قَتَلَها بِغَيْرِ ذَنْبٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب