الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ قِيلَ: أمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أصْحابِهِ بِأنْ يَجْعَلَ الصّاعَ في رَحْلِ أخِيهِ، ثُمَّ قالَ قائِلٌ مِنَ المُوَكَّلِينَ بِالصِّيعانِ، وقَدْ فَقَدُوهُ ولَمْ يَدْرُوا مَن أخَذَهُ: ﴿أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ عَلى ظَنٍّ مِنهم أنَّهم كَذَلِكَ، ولَمْ يَأْمُرْهم يُوسُفُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذا القائِلِ كَذِبًا؛ إذْ كانَ مَرْجِعُهُ إلى غالِبِ ظَنِّهِ وما هو عِنْدَهُ. وفِيما تَوَصَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهِ إلى أخْذِ أخِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ جائِزٌ لِلْإنْسانِ التَّوَصُّلُ إلى أخْذِ حَقِّهِ مِن غَيْرِهِ بِما يُمْكِنُهُ الوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضا مَن عَلَيْهِ الحَقُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِمَن جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٢] رُوِيَ عَنْ يَحْيى بْنِ يَمانٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ: ﴿وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٢] قالَ: " كَفِيلٌ " . قالَ أبُو بَكْرٍ ظَنَّ بَعْضُ النّاسِ أنَّ ذَلِكَ كَفالَةٌ عَنْ إنْسانٍ ولَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ قائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ حِمْلَ بَعِيرٍ أُجْرَةً لِمَن جاءَ بِالصّاعِ وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: "أنا بِهِ زَعِيمٌ" يَعْنِي ضامِنٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنِّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْتُ مُسْلِمًا بِسَيْرٍ يُرى مِنهُ الفَرانِقُ أزْوَرا أيْ ضامِنٌ لِذَلِكَ. فَهَذا القائِلُ لَمْ يَضْمَن عَنْ إنْسانٍ شَيْئًا، وإنَّما ألْزَمَ نَفْسَهُ ضَمانَ الأُجْرَةِ لِرَدِّ الصّاعِ، وهَذا أصْلٌ في جَوازِ قَوْلِ القائِلِ: " مَن حَمَلَ هَذا المَتاعَ إلى مَوْضِعِ كَذا فَلَهُ دِرْهَمٌ " وأنَّ هَذِهِ إجارَةٌ جائِزَةٌ وإنْ لَمْ يَكُنْ يُشارِطُ عَلى ذَلِكَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وكَذَلِكَ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ في السِّيَرِ الكَبِيرِ إذا قالَ أمِيرُ الجَيْشِ: " مَن ساقَ هَذِهِ الدَّوابَّ إلى مَوْضِعِ كَذا " أوْ قالَ: " مَن حَمَلَ هَذا المَتاعَ إلى مَوْضِعِ كَذا فَلَهُ كَذا " أنَّ هَذا جائِزٌ ومَن حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الأجْرَ (p-٣٩١)وهَذا مَعْنى ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ. وقَدْ ذَكَرَ هِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أيْضًا فِيمَن كانَتْ في يَدِهِ دارٌ لِرَجُلٍ يَسْكُنْها فَقالَ: " إنْ أقَمْتَ فِيها بَعْدَ يَوْمِكَ هَذا فَأجْرُهُ كُلَّ يَوْمٍ عَشَرَةُ دَراهِمَ عَلَيْكَ " أنَّ هَذا جائِزٌ، وإنْ أقامَ فِيها بَعْدَ هَذا القَوْلِ لَزِمَهُ لِكُلِّ يَوْمٍ ما سَمّى، فَجَعَلَ سُكْناهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا، وكانَ ذَلِكَ إجارَةً وإنْ لَمْ يُقاوِلْهُ بِاللِّسانِ. وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ أنَّ مَن رَدَّ الصّاعَ اسْتَحَقَّ الأجْرَ وإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما عَقْدُ إجارَةٍ، بَلْ فِعْلُهُ لِذَلِكَ بِمَنزِلَةِ قَبُولِ الإجارَةِ. وعَلى هَذا قالُوا فِيمَن قالَ لِآخَرَ: " قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ عَلى حَمْلِ هَذا المَتاعِ إلى مَوْضِعِ كَذا بِدِرْهَمٍ " أنَّهُ إنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ وإنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقَبُولِها. فَإنْ قِيلَ: إنَّ هَذا لَمْ يَكُنْ إجارَةً؛ لِأنَّ الإجارَةَ لا تَصِحُّ عَلى حِمْلِ بَعِيرٍ، وإنْ كانَتْ إجارَةً فَهي مَنسُوخَةٌ؛ لِأنَّ الإجارَةَ لا تَجُوزُ في شَرِيعَةِ نَبِيِّنا ﷺ إلّا بِأجْرٍ مَعْلُومٍ. قِيلَ لَهُ: هو أجْرٌ مَعْلُومٌ؛ لِأنَّ حِمْلَ بَعِيرٍ اسْمٌ لِمِقْدارٍ ما مِنَ الكَيْلِ والوَزْنِ، كَقَوْلِهِمْ كارَّةٌ ووِقْرٌ ووَسْقٌ ونَحْوُ ذَلِكَ، ولَمّا لَمْ يُنْكِرْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ دَلَّ عَلى صِحَّتِهِ، وشَرائِعُ مَن قَبْلَنا مِنَ الأنْبِياءِ حُكْمُها ثابِتٌ عِنْدَنا ما لَمْ تُنْسَخْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب