قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام «قُلْ» وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش، وهو تسهيل مطرَّد، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني، ولها أحكام تختص بها، اضطربت أقوال الناس فيها، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول:
«أرأيْتَ» إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم: «رَأَيْتُ الطائر» أي: أصبت رِئَته، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها، بل تُحَقَّق ليس إلا، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر، ويكون ضميراً فاعلاً نحو: أرأيتم، أرأيتما أرأيتنَّ، ويدخلها التعليق والإِلغاء.
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها: أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين. قال بعضهم: «هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه» أي على نافع. وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها. قلت: وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة.
وقال مكي، بن أبي طالب: «وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية، والمدُّ لا يتمكَّن، إلا مع البدل، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن» وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله «أأنذرتهم» . ومنها: أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً، فَمِنَ النظم قوله:
191 - 1- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا ... مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا ... وقال آخر:
191 - 2- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ ... رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ وأنشد الكسائي لأبي الأسود:
191 - 3- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ ... أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب، قال: «في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان، أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي: أعلمت، فهذه مهموزة، وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى أَخْبِرْني، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين» انتهى.
وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف، والثالث: أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: «وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل» يعني في يرى وبابه. ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف، وأنشد:
191 - 4- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا ... وأنشد لأبي الأسود:
191 - 5- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم: {وَيْلُمِّه} وقوله:
191 - 6- وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً:
191 - 7- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ ... إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ
أي: ومن رأى
ومنها: أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني، و «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه: «وتقول: أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في» زيد «ألا ترى أنك لو قلت:» أرأيت أو مَنْ انت؟ «لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها، وبقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم} [العلق: 1314] ، وبقوله:
191 - 8- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا ... وهذا لا يَرِد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً.
ومنها: أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى «أخبرني» فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها.
ومنها: أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما. وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ التاء، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة، الأولُ قولُ البصريِّين، والثاني قول الفراء، والثالثُ قولُ الكسائي.
ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق.
قال أبو علي: «قولهم» : «أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل» بفتح التاء في جميع الأحوال، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب. ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء، وممَّا كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم «.
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك: «أرأيتك زيداً ما شأنه» لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه، وهذا مُحالٌ «ثم ذكر مذهبَ البصريين. وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع: أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع، لأن الكاف هو المخاطب، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائب آخر، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت، وهذا كلُّه لا يجوزُ، ولو قلت: «أرأيتك عالماً بزيد» لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى «رأى» إلى مفعولين «.
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين:» والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت: إمَّا مجرورةً - وهو باطل، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين، أحدهما: أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع، والثاني: أنها لا رافعَ لها، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه، أحدُها: أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً.
والثاني: أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيت زيداً، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ «ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال:» وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه «.
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال:» لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء، كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد. ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها «. وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ، ومع ذلك هي حرف.
وقال الفراء:» موضعُ الكاف نصب، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في «دونك» إذا أغري بها، كما تقول: «دونكَ زيداً» فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً، لأنها مأمورةٌ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع «. قلت: وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم، والخلاف في» دونك «و» إليك «وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة.
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع، قال:» للعرب في «أرأيْتَ» لغتان ومعنيان، أحدُهما رؤيةُ العين، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال، تقول للرجل: «أرأيتك على غير هذه الحال» تريد: هل رأيتَ نفسَك، ثم تثنِّي وتجمع فتقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ، والمعنى الآخر: أن تقول «أرأيتك» وأنت تريد معنى أخبرني، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي: أخبرني، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول: أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟
قال: والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتُني وأريتُني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتَك بمعنى: قتلتَ نفسَك، ولا أحسنتَ إليك، كما يقولون: متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول:» أنا أظنُّ خارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى:
{أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] ولم يَقُلْ: رأى نفسه. وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص:
قال جران العود:
191 - 9- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني ... وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول: عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام «انتهى.
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو: أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن» زيداً «مفعول أول، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان:» إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك «وقال الأخفش:» إن لا بد بعد «أرأيت» التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن « أخبرني» موافق لمعنى الاستفهام «وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى» أما «أو» تنبَّه «، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد، وجعل من ذلك: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} [الكهف: 63] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك.
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق: اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال، أحدُها: أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم» أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك: فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني: والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب.
الثاني: أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه، فإنْ عَنَى بقوله: «سَدَّا مَسَدَّه» أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى.
والثالث: أن المفعول الأول محذوفٌ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ «العذاب» . وهذا اختيار الشيخ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال: «فنقول: الذي نختاره: أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية.
فإذا تقرَّر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع «أرأيتكم» والشرط على «عذاب الله» ، فأعمل الثاني وهو «أتاكم» فارتفع «عذاب» به، ولو أعمل الأول لكان التركيب: «عذاب» بالنصب، ونظير ذلك: «اضرب إنْ جاءك زيد» على إعمال «جاءك» ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأول. وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام: «أغيرَ الله تَدْعُون» والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره: أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه، والمعنى: قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها «انتها. والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح، وتقديره: قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً.
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري:» إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون «قال الشيخ:» وإصلاحُه أن يقول: «فَمَنْ تدعون» بالفاء، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء. الثاني: أنه «أرأيتكم» ، قاله الحوفي، وهو فاسِدٌ لوجهين، أحدهما: أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني: أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب «هل» أو اسمٍ من أسماء الاستفهام، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو: أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً، ولا جائز أن تأتي بها لأنك: إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو: إن قمت فأزيد منطلق «، أو بعدها نحو:» أفزيد منطلق «، وكلاهما ممتنعٌ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها، وهذا بخلاف» هل «فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول: إن قمت فهل زيد قائم، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة.
الثالث: أنه» أغير الله «وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال:» ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله «قال الشيخ:» ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب «هل» وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال: «ولا يجوز أيضاً من وجه آخر، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ» أرأيتك «متعدِّية إلى اثنين، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ، وأنه من باب التنازع، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ» أرأيتَكم «متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز» قلت: وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه.
قوله «يلزم تعدِّيها لواحد» قلنا: لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام، كما قدَّره غيرُه: بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم، ثم قال: «وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 47] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} [الأنعام: 46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 72] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50] {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205] {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر:
192 - 0- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا ... وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط» . انتهى.
ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله: {أغير الله} سأل سؤالاً وأجابَ عنه، قال: «فإنْ قلت: إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله:» فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه «مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله» إنْ شاء «إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه» قال الشيخ: «وهذا مبنيٌّ على أن الشرط متعلقٌ ب» أغير الله «. وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز» قلت: تَرَك الشيخُ التبنيهَ على ماهو أهمُّ من ذلك وهو قوله: «إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه» وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، لا يُسأل عما يَفعل، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً.
الرابع: أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم، ودَلَّ عليه قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} الخامس: أن محذوف أيضاً، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى، تقديرُه: إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به» أي: إن جاءَك فأخبرني عنه، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُه: أنت ظالمُ إن فعلت، أي: فأنت ظالم، فحذف «فأنت ظالمٌ» لدلالةِ ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختاره الشيخ. قال: «وهو جارٍ على قواعد العربية» وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره.
قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} «غيرَ» مفعول مقدم ل «تَدْعون» وتقديمُه: إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري: «بَكَّتهم بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء، ألا ترى أنك إذا قلت» أزيداً تضربُ «إنما تُنْكِرُ كونَ» زيد «مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] .
قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ» صادقين «والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟
{"ayah":"قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}