الباحث القرآني

وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} : كقوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39] و «مَنْ» يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي: مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه، و «أن يهديه» مفعول الإِرادة. والشرح: البسط والسَّعة قاله الليث، وقال ابن قتيبة: «هو الفتحُ ومنه: شَرَحْتُ اللحم أي فتحته» وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان. و «للإِسلام» أي: لقبوله. وقوله: «يَجْعَلْ» يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية، وأن تكون بمعنى سمَّى، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا، فعلى الأول يكون «ضيقاً» مفعولاً عند مَنْ شدَّد ياءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها ساكنة ويكون فيه لغتان: التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيْت وهيِّن وهين. وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضَِيقاً كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} [النحل: 27] يقال: ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو: رجل عدل، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي: يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً، والذي يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان. وقال الكسائي: / «الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام، وبالتخفيف في المعاني» . ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره. قال الفارسي: «والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم» اتَّسر «من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد» . وقال ابن الأنباري: «الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن أن يلتبس فعيل ب» فَعْل، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين فعيل وفَعْل. والذين خَفَّفُوا الياء قالوا: أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس. وقال البصريون: وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف. قال: «وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين، وقالوا: لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً» قلت: قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فليُراجَعْ ثَمة. وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية؟ خلاف مرَّت له نظائره. وإذا كانت «يَجْعَل» بمعنى يخلق فيكون «ضيقاً» حالاً، وإن كانت بمعنى «سَمَّى» كانت مفعولاً ثانياً، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً. وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها: هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال: رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر: 2052 - لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الفراء: «هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف» . وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل. قال الزجاج: «الحَرَج أضيق الضيق، فَمَنْ قال: رجل حرَج يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف» . وقال الفارسي: «مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو: فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين» . وقيل: الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب، والمكسور صفة كدَنِف، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج: 2053 - عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ ... الحِراج: جمع حِرْج، وحِرْج جمع حَرَجة. ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: فهكذا قلب الكافر، هذه رواية عبيد بن عمير. وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب فقال: «قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً، فأتَوْه به فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال: الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها/ راعيةٌ ولا وحشية. فقال عمر: «وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير» . وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال: «قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال: يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال: شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير. قال الشيخ:» وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر «قلت: ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو: حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي: صار كالناقة، واستحجر الطين أي: صار كالحجر، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة، وأنت إذا قلت: حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول: صار كالحَرَجة، بل معناه تزايدَ ضيقُه، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم» حَرِجاً «بكسر الراء، والباقون بتفحها، وقد عُرِفا. فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل. ونصبه على القراءتين: إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول:» زيدٌ كاتب شاعر فقيه «ثم تقول: ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً، فتقول:» زيداً «مفعول أول» كاتباً «مفعول ثان» شاعراً «مفعول ثالث» فقيهاً «مفعول رابع، كما تقول: خبر ثان وثالث ورابع، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ، فليس هذا كقولك في: أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله» ضيقاً حَرَجاً «ليس فيه تكرار. وقال مكي:» ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد «قلت: إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول: كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] [وقوله] : 2054 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا [وقوله] : 2055 -. . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك. وقال أبو البقاء: «وقيل هو جمع» حَرَجَة «مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة» ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟ وقوله: «كأنما» «ما» هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} [آل عمران: 185] . وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» ساكنَ الصاد مخفَّف العين، مضارع صَعِد أي ارتفع، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف، وأصلها يتصاعد أي: يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل: يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود. وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما: أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها، والثاني: أن يكون حالاً، وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: هو الضميرُ المستكنُّ في «ضيِّقا» ، والثاني: هو الضمير في «حَرَجا» و «في السماء» متعلِّق بما قبله. قوله: {كذلك يَجْعَلُ} هو كنظائِرِه، وقدَّره الزجاج: مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل، أي: فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف، فلك أن ترفعَ «مثل» وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب كما قدَّره الناس وهو: مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس، كذا قدَّره مكي وغيره، و «يجعل» يُحتمل أن تكونَ بمعنى «ألقى» وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على، والمعنى: كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي: يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم، والتقدير الصناعي: مستقراً عليهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب