قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ، أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمَّنه «لهم» والتقديرُ: وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ. وقيل: العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه: يُعََّذبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ. وقيل: العاملُ فيه «عظيم» وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم. وهذا التضعيفُ ضعيفٌ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ ففي غيره أَوْلى، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم. وقيل: العاملُ «عذاب» . وهذا ممتنعٌ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [بعدَ] وَصْفِه.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي: «تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ» بكسر التاء وهي لغةُ تميم، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصنِ وأبو الجوزاء: «تَبياضُّ وتَسوادُّ» بألف فيهما، وهي أبلغ فإنَّ «ابياضَّ» أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من ابيضَّ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد.
قوله: {أَكْفَرْتُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23-24] {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} [الزمر: 3] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله:
1378 - فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ ... ولكنَّ سيراً في عِراضِ المواكبِ
أي: فلا قتالَ.
وقال صاحب «أسرار التنزيل» : «بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم:» لَمَّا حُذِف «يُقال» حُذِفت الفاءُ «بقولِه تعالى: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] فَحَذَف» يُقال «ولم يَحْذِفِ الفاء، فلمَّا بَطَل هذا تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فوقعَ ذلك جواباً له، ولقولِهِ: {أَكَفَرْتُم} ، ومِنْ نَظْمِ العربِ إذا ذَكَروا حرفاً يقتضي جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ، فقوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جوابٌ للشرطين معاً، وليس» أفلم «جوابَ» أمَّا «بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ، والتقدير: أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي» .
قال الشيخ: «وهو كلامُ أديبٍ لا كلامُ نحوي، أمَّا قولُه:» قد اعتُرِض على النحاة «فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب: وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه.
فأمَّا ما اعترض به من قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} وأنه قَدَّروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فَحَذَف «فيقال» ولم يَحْذِف الفاءَ فَدَلَّ على بُطْلان هذه التقدير «فليس بصحيحٍ، بل هذه الفاءُ التي بعد الهمزة في» أفلم «ليست فاءَ» فيقال «التي هي جوابُ» أمَّا «حتى يُقَالَ حَذَف» يقال «وبقيت الفاءُ، بل الفاءُ التي هي جواب» أمّا «و» يقال «بعدها محذوفٌ، وفاء» أفلم «تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون زائدة، وقد أنشد النحويون على زيادةِ الفاء قولَ الشاعر:
1379 - يموتُ أُناسُ أو يَشيبُ فتاهُمُ ... ويَحْدُثُ ناسٌ والصغيرُ فكيبُرُ
أي: والصغيرُ يَكْبُرُ، وقولَ الآخر:
1380 - لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جِرْمُها ... فَتركْتُ ضاحِي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي: تركت، وقال زهير:
1381 - أراني إذا ما بِتُّ بِتُّ على هوى ... فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غادِيا
يريد: ثم إذا، وقال الأخفش:» وزعموا أنهم يقولون: «أخوك فوجَد» يريدون: أخوك وجَدَ «. والوجه الثاني: أن تكونَ الفاءُ تفسيريةً. والتقدير:» فيقالُ لهم ما يَسُوْءُهم فألم تكن آياتي «ثم اعتُنِي بحرف الاستفهام فقُدِّم على الفاءِ التفسيرية، فَقُدِّم كما تَقَدَّم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [يوسف: 109] وهذا على رأي مَنْ يُثْبِتُ أنَّ الفاءَ تفسيرية نحو:» توضَّأ زيدٌ فَغَسَل وجهَه ويديه إلى آخر أفعالِ الوضوء «فالفاءُ هنا ليسَتْ مُرَتِّبةً وإنَّما هي مفسِّرةٌ للوضوءِ، كذلك تكونُ في {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} مفسرةً للقولِ الذي يَسُوْءُهم.
وقولُ هذا الرجلِ:» فَلَمَّا بَطَلَ هذا تعيَّن أن يكون الجوابُ: فذوقوا «أي تعيَّن بطلانُ حَذْف ما قدَّره النحويون من قوله» فيقال لهم «لوجودِ هذه الفاء في» أفلم تكن «وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب» أمَّا «هو:» فيقال «في الموضعين ومعنى الكلام عليه. وأمْا تقديره:» أأهملتكم فلم تكن آياتي تُتْلَى «فهذه بدعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يُقَدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يَصِح عطفُ ما بعدها عليه، ولا يَعْتقد أنَّ الفاء والواو وثم إذا دَخَلَتْ عليها الهمزةُ أَصلُهُنَّ التقديمُ على الهمزة، لكن اعتُنِيَ بالاستفهامِ فَقُدِّم على حرف العطف، كما ذهب إليه سيبويه وغيرُه من النحويين. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة/ في ذلك، وبُطْلانُ قولِه الأول مذكورٌ في النحو، وقد تقدم في هذا الكتاب حكايةُ مذهبِ الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل» أهملتكم «فلا بد من إضمارِ القولِ وتقديرِه: فيقال أأهملتكم، لأنَّ هذا المقدَّرَ هو خبر المبتدأ، والفاءُ جوابُ أمَّا، وهو الذي يدل عليه الكلامُ ويقتضيه ضرورةً، وقولُ هذا الرجل:» فوقع ذلك جواباً له ولقولِهِ: أكفرتم «يعني أنَّ» فذوقوا العذاب «جوابٌ ل» أمَّا «ولقولِهِ» أكفرتم «والاستفهامُ هنا لا جوابَ له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإِرذال بهم.
وأمَّا قولُ هذا الرجل: «ومِنْ نظم العرب إلى آخره» فليس كلامُ العرب على ما زعم بل يُجْعل لكلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدرٌ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} الآية وزعمُه أنَّ قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جوابٌ للشرطين فقولٌ رُوِيَ عن الكسائي، وزعم بعضُ الناسِ أنَّ جوابَ الشرط الأول محذوفٌ تقديرُه: فاتبعوه، والصحيح أنَّ الشرط الثاني وجوابَه جوابُ الشرط الأول، وتقدَّمت هذه الأقوالُ الثلاثة عند قوله تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} انتهى.
وقوله: {أَكْفَرْتُمْ} الهمزةُ فيه للإِنكارِ عليهم والتوبيخِ لهم والتعجيب من حالهم، وفي قوله: {أَكْفَرْتُمْ} نوعٌ من الالتفاتِ وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوينِ الخطاب، وذلك أنَّ قولَه: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة، وقولُه بعد ذلك: {أَكْفَرْتُمْ} خطابُ مواجهة.
{"ayah":"یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ"}