قوله: {وَيَتَّقْهِ} : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين: الأُولى تسكينُ القافِ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ: الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي. الثانيةُ: تسكينُها قولاً واحداً. وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم. الثالثةُ: إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ. الرابعةُ: تحريكها من غير صلةٍ. وبها قرأ قالون وحفص. الخامسةُ: تحريكُها موصولةً أو مقصورةً. وبها قرأ هشامٌ.
فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ من هذا التصنيفِ. وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ: وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون: كَبْد وكَتْف وصَبْر في: كَبِد وكَتِف وصَبِر، لأنها كلمةٌ واحدة، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛ فإنَّ «يَتَّقْهِ» صار منه «تَقِهِ» بمنزلة «كَتِف» فَسُكِّن كما تُسَكَّن. ومنه:
3461 - قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا ... بسكونِ الراءِ، كما سَكَّن الآخرُ:
3462 - فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا ... والآخر:
3463 - عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان
يريد: مُنْتَصِباً، ولم يَلِدْه. وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله: {فَهِيَ كالحجارة} [الآية: 74] ، وهي وهو ونحوها.
وقال مكي: «كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو: مِنْهُ وعَنْهُ. ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ، ولم يَصِلْها بياءٍ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه» . وقال الفارسي: «الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه، ولمَّا أُجْرِيَ» تَقْهِ «مجرى» كَتْف «وسكَّن القافَ التقى ساكنان، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما: فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني. لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما. وأصلُ التقاءِ الساكنين [الكسر] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . لم يَلْدَه أَبَوانِ
وذلك أنَّ أصلَه» لَمْ يلِده «بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ.
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول:» لا يَصِحُّ قولُه: إنه كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط «.
وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: «وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «وإذا قرأه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «احتمل أن يَكونَ» يَتَّقْهِ «عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف» .
قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنما عَنَى هاءَ «يَتَّقْهِ» بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ: «تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ» يُؤَدِّهي «وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبد الله:» وهو وإنْ قَرَأ «يؤدِّهي» وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ «يَرْضَهُ» بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي «يَتَّقْهِ» ب «يَرْضَهُ» وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا على ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.
{"ayah":"وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَخۡشَ ٱللَّهَ وَیَتَّقۡهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ"}