قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ} : العاملُ في «إذ» محذوفٌ دلَّ عليه قولُه: «فَسَجَدوا» تقديرُه: «فَسَجَدوا» تقديرُه: أطاعوا وانقادُوا فسجدوا، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ، وقيل: العاملُ «اذكُرْ» مقدرةً، وقيل: [إذ] زائدةٌ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين. وقال ابنُ عطية: «وإذ قلنا معطوفٌ على» إذ «المتقدمةِ» لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين، وقيل: «إذ» بدلٌ من «إذ» الأولى، ولا يَصِحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ، وجملةُ «قلنا» في محلِّ خفضٍ بالظرفِ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلمِ للعظمة، واللامُ للتبليغ كنظائِرها.
والمشهورُ جَرُّ تاءِ «الملائكة» بالحرفِ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً لضمةِ الجيم، ولم يَعْتَدَّ بالساكن، وغَلَّطه الزجَّاج، وخطّأه الفارسي، وشَبَّهه بعضُهم بقولِه تعالى: {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها، والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ. وقال الزمخشري: «لا يجوزُ استهلاكُ الحركةِ الإِعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ: {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 1] يعني بكسر الدال» ، قلتُ: وهذا أكثرُ شذوذاً، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من الضعفِ المتقدِّم، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً، وقال أبو البقاء: «وهي قراءةٌ ضعيفةٌ جداً، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإِشارَةَ. وقيل: إنه نوى الوقفَ على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم، وهذا من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ. ومثلُه: ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت:» أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه «نوتِ الوقف على» سَوْءَة «فسكَّنَتِ التاءَ ثم ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ» أنتنَّ «. قلت» فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ التقاءِ ساكنين، وحينئذٍ يكونُ كقوله: {قَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] وبابه، وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارِئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ، وترجمتُهما مشهورةٌ.
و «اسجُدوا» في محلِّ نصبٍ بالقولِ، واللامُ في «لآدمَ» الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل: بمعنى إلى، أي: إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم، والسجودُ لله. وقيل: بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ، وقيل: اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك.
و «فسجدوا» الفاءُ للتعقيبِ، والتقديرُ: فسَجدوا له، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به. قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} [إلا] حرفُ استثناءٍ، و «إبليس» نصبٌ على الاستثناء.
وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا، أو بفعلٍ محذوف أو ب «أنَّ» ؟ أقوالٌ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، والأصحُّ أنه متصلٌ. وأمَّا قولُه تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال: 355 - وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً ... قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ
وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] يعني الملائكةَ.
واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ: قسمٍ واجبِ النصبِ، وقسم واجبِ الجرِّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ. القسم الأول: المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ، نحو: قام القومُ إلا زيداً، ما قَام إلا زيداً القومُ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً، وقاموا إلا حماراً، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً. القسم الثاني: المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء. القسم الثالث: المستثنى بعدا وخلا وحاشا. القسمُ الرابع: المستثنى من غيرِ الموجب نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] .
والسجودُ لغةً: التذلُّلُ والخضوعُ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ، وقال ابن السكيت: «هو المَيْلُ» قال زيدٌ الخيل:
356 - بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته ... ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ [يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا] ، وقال آخر:
357 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُجودَ النصارى لأَِحْبارِها
وفَرَّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد، فسجد: وََضَعَ جَبْهَتَه، وأَسْجَدَ: أمال رأسَه وطأطأها، قال الشاعر:
358 - فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ ... سُجودَ النَّصارى لأرْبابها
وقال آخر:
359 - وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني: أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يَسْجُدون لها، قال الشاعر:
360 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ ... وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل: [إنه] اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ للعلَمِيَّة والعَجْمةِ، وهذا هو الصحيحُ، وقيل: إنه مشتقٌّ من الإِبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها، قال:
361 - وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر:
362 - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا
أي: بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به، ووزنُه عند هؤلاء: إِفْعِيل، واعتُرِضَ عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في العربية كثيرٌ، نحو: إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل. وقيل: لمَّا لم يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه بُعْدٌ.
قوله: {أبى واستكبر} الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال: فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} تامٌّ. وقال أبو البقاء: «في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه: تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على» واستكبر «، وجَوَّز في قولِه تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً.
والإِباء: الامتناعُ، قالَ الشاعر:
363 - وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا ... وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ
وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ، قال الله تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] والمشهورُ أبى يأبى بالفتحِ فيهما، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تِئْبى ونِئْبى. وقيل: لمَّا كانت الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ. وقيل: أَبى يأبى بالفتحِ فيهما، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تئبى ونئبى. وقيل: لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح لأجلها عين المضارع. وقيل: أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع، وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال: أبى يأبى بالفتح فيهما استغنى بمضارع مَنْ قال: أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو: ركَن يركَنُ وبابِه.
واستكبر بمعنى تكبَّر وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب. وقوله «وكان» قيل: هي بمعنى صار كقوله:
364 - بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها
أي: قد صارَتْ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال: «تَرُدُّه الأصولُ» والأظهر أنها على بابها، والمعنى: وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي، أو: وكانَ في عِلْم الله.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}