قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} : متعلقٌ ب «أَعْلَمُ» . وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو: أنت أعلمُ به، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به، وما أجهلَه به!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو: أنت أَكْسَى للفقراء. و «ما» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإِعراض فكأنه قال: نحن أعلمُ بالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به. قاله ابنُ عطية.
قوله: «به» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ كما [تقول:] يستمعون بالهُزْء، أي: هازئين» . الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث: أنَّهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإِخبارَ عن الاستماعِ فقط، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهُّمَ المسموعِ دون هذا المقصد» ، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء ب «يستمعون» .
قوله: «إذ يستمعون» فيه وجهان: أحدُهما: أنه معمولٌ ل «أَعْلَمُ» . قال الزمخشريُّ: «إذ يستمعون نصبٌ ب» أَعْلَمُ «، أي: اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون، وبما يتناجَوْن به، إذ هم ذَوُو نجوى» . والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَستمعون» الأولى. قال ابن عطية: «والعاملُ في» إذ «الأولى وفي المعطوف» يستمعون «الأول. وقال الحوفي:» ف إذ الأولى تتعلق ب «يستمعون» وكذا {وَإِذْ هُمْ نجوى} لأنَّ المعنى: نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنما يستمعون لسَقْطِك، وتتبُّعِ عيبِك، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و «إلى» .
قوله: «نَجْوى» يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حَذْفِ مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشريُّ. ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى. قاله أبو البقاء.
قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ مِنْ «إذ» الأولى في أحَد القولين، والقولُ الآخر: أنها معمولةٌ ل «اذكُر» مقدراً.
قوله: «مَسْحوراً» الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من «السِّحْر» بكسرِ السين، أي: مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه. وقال أبو عبيدة: «معناه أن له سَحْراً» أي: رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ، فهو بشرٌ مثلُكم.
وتقول العرب للجبان: «قد انتفخ سَحْره» بفتح السين، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب: مَسْحُور، ومُسْحَر. فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس:
306 - 9- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ
أي: نُغَذَّى ونُعَلَّلُ. ومِن الثاني قول لبيد:
307 - 0- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا ... عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى. قال ابن قتيبة: «لا أَدْري ما الذي حَمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ» . قلت: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف «السَّحْر» ، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه «انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ» لا يناسِبُ إلا «السِّحْر» بالكسرِ.
{"ayah":"نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَسۡتَمِعُونَ بِهِۦۤ إِذۡ یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰۤ إِذۡ یَقُولُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلࣰا مَّسۡحُورًا"}