قوله تعالى: {مِن ذُرِّيَّتِي} : يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً، وهذا الجارُّ صفتُه، أي: أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي. ويجوز أن تكونَ «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش.
قوله: «بوادٍ» ، أي: في وادٍ، نحو: هو بمكة.
قوله: {عِندَ بَيْتِكَ} يجوز أن يكونَ صفةً ل «وادٍ» . وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ بدلاً منه» ، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت. وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ «عند» لا تتصرَّف.
قوله: «ليُقِيموا» يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ، وأن تكونَ لامَ علَّة. وفي متعلقها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ، ويكون النداءُ معترضاً. الثاني: أنها متعلقةٌ باجْنُبْني، أي: اجْنُبْهم الأصْنامَ ليُقِيموا، وفيه بُعْدٌ.
قوله: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} العامَّةُ على «أفْئِدة» جمع «فُؤاد» كغُراب وأَغْربة. وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة، فقيل: إشباع، كقوله:
289 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ أي: تَرِب، وكقوله:
289 - 6- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ
وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا: الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة، قال: «كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في» بارئكم «و» يَأْمُركم «أنه سَكَّن» . وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا.
وقرأ زيدٌ بن عليّ «إفادة» بزنةِ «رِفادة» ، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً، أي: ذوي إفادةٍ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم. والثاني: أن يكون أصلُها «وِفادة» فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو: إشاح وإعاء.
وقرأت أمُّ الهيثم «أَفْوِدَة» بواوٍ مكسورة، وفيها وجهان، أحدُهما: أن يكونَ جمع «فُوَاد» المُسَهًّل: وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو: جُوَن، ففُعِل في «فُؤاد» المفرد ذلك، فأُقِرَّت في الجمع على حالها. والثاني: قال صاحب «اللوامح» : «هي جمعُ وَفْد» . قلت: فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ «أَوْفِدة» بتقديم الواو، إلا أن يُقال: إنه جَمَعَ «وَفْداً» على «أَوْفِدَة» ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة، كقولهم: آرام في أرْآم وبابِه، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو: نَجْد وأَنْجدة، وَوَهْي وأَوْهِيَة. وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة.
وقُرِىء «آفِدَة» بزِنَةِ ضارِبة، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم.
والثاني: أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ، أي: قَرُب ودَنا، والمعنى: جماعة آفِدَة، أو جماعات آفِدة.
وقُرِئ «آفِدَة» بالقَصْرِ، وفيها وجهان أيضاً، أحدُهما: أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح. [والثاني] : أن تكونَ محففةً من «أَفْئِدة» . بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها، وحَذْفِ الهمزةِ.
و «من الناس» في «مِنْ» وجهان، أحدُهما: أنها لابتداءِ الغاية. قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن تكونَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ كقولك:» القلبُ مني سقيم «تريد: قلبي، كأنه قيل: أفئدةَ ناسٍ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ» أَفْئدة «لأنها في الآية نكرةٌ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ» . قال الشيخ: «ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس» .
والثاني: أنها للتبعيضِ، وفي التفسير: لو لم يقل «من الناس» لحجَّ الناسُ كلُّهم.
قوله: «تَهْوي» هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل. والعامَّة «تَهْوِي» بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم. قال:
289 - 7- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه ... يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام، كقوله:
289 - 8- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها ... طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ
وإنَّما عُدِّي ب «إلى» لأنه ضُمِّنَ معنى «تميل» ، كقوله:
289 - 9- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى ... ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّ «إلى» زائدةٌ، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل، ومصدرُ الأول على «هُوِيّ» ، كقوله:
290 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل
والثاني على «هَوَى» . وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل» .
وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوَى» بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ «أهوى» المنقول مِنْ «هَوِيَ» اللازمِ، أي: يُسْرَع بها إلى إليهم.
{"ayah":"رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ"}