قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} : يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً ل «رحمة» وأن يكونَ متعلقاً ب «آتاني» .
قوله: {فَعُمِّيَتْ} قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل «فعماها اللَّهُ عليكم» ، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي «فعماها» من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى» فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ «: فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ» .
وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
2654 - ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال أبو علي: «وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآن {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] ، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب» عن «دون» على «، ألا ترى أنك تقول:» عَمِيْتُ عن كذا «لا» على كذا «.
واختُلِفَ في الضمير في» عُمِّيَتْ «هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه:» وآتاني رحمة «جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه {على بَيِّنَةٍ مِّن ربي. . . فَعُمِّيَتْ} . وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري:» وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه مرةً «.
انتهى.
وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيتم» هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ «أَرَأَيْتُم» يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب «على» ، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه.
وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أتى هنا بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان «أراهُمُني الباطل شيطاناً» . وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله:» أَنُلْزِمكم إياها «ونحوه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز» فسيكفيك إياهم «. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.
وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ، ويضعف سكونُها، وعليه» أراهُمني الباطل «. وقال أبو البقاء:» وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات «فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال:» ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم، وهو الأصل في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم «. انتهى. وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجَوِّزُ» الدرهمَ أعطيتكمْه «وغيرُه يأباه. ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل، ويدل عليه ما قال الزجاج» أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها، وهذا هو الحقُّ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس:
2655 - فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكذا قال الزمخشري أيضاً: «وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً، فظنَّها الراوي سكوناً، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر» .
قلت: وقد حكى الكسائي والفراء «أَنُلْزِمْكموها» بسكون هذه الميم، وقد تقدم القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحناً؟ .
و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.
{"ayah":"قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی وَءَاتَىٰنِی رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّیَتۡ عَلَیۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَـٰرِهُونَ"}