الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ﴾ الآياتِ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو القاسِمِ البَغَوِيُّ، والباوَرْدِيُّ، وابْنُ قانِعٍ، الثَّلاثَةُ في ”مَعاجِمِ الصَّحابَةِ“، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ قالَ: نَزَلَتْ: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ في عَشَرَةِ رَهْطٍ أنا أحَدُهم. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ﴾ قالَ: لِقُرَيْشٍ، ﴿القَوْلَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ﴾ قالَ: بَيَّنّا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ﴾ قالَ: وصَّلَ اللَّهُ لَهُمُ القَوْلَ في هَذا القُرْآنِ، يُخْبِرُهم كَيْفَ يَصْنَعُ بِمَن (p-٤٨٠)مَضى، وكَيْفَ صَنَعُوا، وكَيْفَ هو صانِعٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَفاعَةَ قالَ: خَرَجَ عَشَرَةُ رَهْطٍ مِن أهْلِ الكِتابِ؛ مِنهم أبُو رَفاعَةَ، إلى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنُوا، فَأُوذُوا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ . وأخْرَجَ البُخارِيُّ في ”تارِيخِهِ“، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَفاعَةَ قالَ: كانَ أبِي مَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ مِن أهْلِ الكِتابِ، وكانُوا عَشَرَةً، فَلَمّا جاءُوا جَعَلَ النّاسَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ ويُضْحِكُونَ، مِنهم فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ قالَ: في مُسْلِمَةِ أهْلِ الكِتابِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: كُنّا نُحَدَّثُ أنَّها نَزَلَتْ في أُناسٍ مِن أهْلِ الكِتابِ كانُوا عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الحَقِّ يَأْخُذُونَ بِها، ويَنْتَهُونَ إلَيْها، حَتّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَآمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوهُ، (p-٤٨١)فَأعْطاهُمُ اللَّهُ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ؛ بِصَبْرِهِمْ عَلى الكِتابِ الأوَّلِ واتِّباعِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ وصَبْرِهِمْ عَلى ذَلِكَ. قالَ: وذُكِرَ لَنا أنَّ مِنهم سَلْمانَ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: يَعْنِي مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ مِن أهْلِ الكِتابِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ، «عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ قالَ: تَداوَلَتْنِي المَوالِي حَتّى وقَعْتُ بِيَثْرِبَ، فَلَمّا يَكُنْ في الأرْضِ قَوْمٌ أحَبَّ إلَيَّ مِنَ النَّصارى، ولا دِينٌ أحَبَّ إلَيَّ مِنَ النَّصْرانِيَّةِ؛ لِما رَأيْتُ مِنَ اجْتِهادِهِمْ، فَبَيْنا أنا كَذَلِكَ، إذْ قالُوا: قَدْ بُعِثَ في العَرَبِ نَبِيٌّ. ثُمَّ قالُوا: قَدِمَ المَدِينَةَ فَأتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أسْألُهُ عَنِ النَّصارى، قالَ: «لا خَيْرَ في النَّصارى، ولا أُحِبُّ النَّصارى» . قالَ: فَأخْبَرْتُهُ أنَّ صاحِبِي قالَ: لَوْ أدْرَكْتُهُ فَأمَرَنِي أنْ أقَعَ في النّارِ لَوَقَعْتُها. قالَ: وكُنْتُ قَدِ اسْتُهْتِرْتُ بِحُبِّ النَّصارى، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِالهَرَبِ، وقَدْ جَرَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السَّيْفَ، فَأتانِي آتٍ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَدْعُوكَ. فَقُلْتُ: اذْهَبْ حَتّى أجِيءَ. وأنا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالهَرَبِ، قالَ لِي: لَنِ أُفارِقَكَ حَتّى أذْهَبَ بِكَ إلَيْهِ. فانْطَلَقْتُ مَعَهُ، (p-٤٨٢)فَلَمّا رَآنِي قالَ: «يا سَلْمانُ، قَدْ أنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَكَ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص»: ٥٢]» . وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، والخَطِيبُ في ”تارِيخِهِ“، «عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ قالَ: أنا رَجُلٌ مِن أهْلِ رامَهُرْمُزَ، كُنّا قَوْمًا مَجُوسًا، فَأتانا رَجُلٌ نَصْرانِيٌّ مِن أهْلِ الجَزِيرَةِ، فَنَزَلَ فِينا، واتَّخَذَ فِينا دَيْرًا، وكُنْتُ في كُتّابِ في الفارِسِيَّةِ، وكانَ لا يَزالُ غُلامٌ مَعِي في الكُتّابِ يَجِيءُ مَضْرُوبًا يَبْكِي قَدْ ضَرَبَهُ أبَواهُ. فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: يَضْرِبُنِي أبَوايَ. قُلْتُ: ولِمَ يَضْرِبانِكَ؟ قالَ: آتِي صاحِبَ هَذا الدَّيْرِ، فَإذا عَلِما ذَلِكَ ضَرَبانِي، وأنْتَ لَوْ أتَيْتَهُ سَمِعْتَ مِنهُ حَدِيثًا عَجِيبًا. قُلْتُ: فاذْهَبْ بِي مَعَكَ. فَأتَيْناهُ، فَحَدَّثَنا عَنْ بَدْءِ الخَلْقِ، وعَنْ بَدْءِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وعَنِ الجَنَّةِ والنّارِ، فَحَدَّثَنا بِأحادِيثَ عَجَبٍ، وكُنْتُ أخْتَلِفُ إلَيْهِ مَعَهُ فَفَطِنَ، لَنا غِلْمانٌ مِنَ الكُتّابِ، فَجَعَلُوا يَجِيئُونَ مَعَنا. فَلَمّا رَأى ذَلِكَ أهْلُ القَرْيَةِ أتَوْهُ، فَقالُوا: يا هَذا، إنَّكَ قَدْ جاوَرَتْنا فَلَمْ نَرَ مِن جِوارِكَ إلّا الحَسَنَ، وإنّا نَرى غِلْمانَنا يَخْتَلِفُونَ إلَيْكَ، ونَحْنُ نَخافُ أنْ تُفْسِدَهم عَلَيْنا، اخْرُجْ عَنّا. قالَ: نَعَمْ. فَقالَ لِذَلِكَ الغُلامِ كانَ يَأْتِيهِ: اخْرُجْ مَعِي. قالَ: لا أسْتَطِيعُ ذَلِكَ، قَدْ عَلِمْتَ شِدَّةَ أبَوَيَّ عَلَيَّ. قُلْتُ: لَكِنِّي أُخْرُجُ مَعَكَ. وكُنْتُ (p-٤٨٣)يَتِيمًا لا أبَ لِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَأخَذْنا جَبَلَ رامَهُرْمُزَ، فَجَعَلْنا نَمْشِي ونَتَوَكَّلُ ونَأْكُلُ مِن ثَمَرِ الشَّجَرِ حَتّى قَدِمْنا الجَزِيرَةَ، فَقَدِمْنا نَصِيبِينَ، فَقالَ لِي صاحِبِي: يا سَلْمانُ، إنَّ هَهُنا قَوْمًا عُبّادَ أهْلِ الأرْضِ، وأنا أُحِبُّ أنْ ألْقاهم. فَجِئْنا إلَيْهِمْ يَوْمَ الأحَدِ وقَدِ اجْتَمَعُوا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ صاحِبِي، فَحَيَّوْهُ وبَشُّوا بِهِ وقالُوا: أيْنَ كانَتْ غَيْبَتُكَ؟ قالَ: كُنْتُ في إخْوانٍ لِي مِن قِبَلِ فارِسَ. فَتَحَدَّثْنا ما تَحَدَّثْنا، ثُمَّ قالَ لِي صاحِبِي: قُمْ يا سَلْمانُ انْطَلِقْ. قُلْتُ: لا، دَعْنِي مَعَ هَؤُلاءِ. قالَ: إنَّكَ لا تُطِيقُ ما يُطِيقُ هَؤُلاءِ؛ يَصُومُونَ الأحَدَ إلى الأحَدِ، ولا يَنامُونَ هَذا اللَّيْلَ. فَإذا فِيهِمْ رَجُلٌ مِن أبْناءِ المُلُوكِ، تَرَكَ المُلْكَ ودَخَلَ في العِبادَةِ، فَكُنْتُ فِيهِمْ حَتّى أمْسَيْنا، فَجَعَلُوا يَذْهَبُونَ واحِدًا واحِدًا إلى غارِهِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، فَلَمّا أمْسَيْنا قالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي مِن أبْناءِ المُلُوكِ: هَذا الغُلامُ ما تُضَيِّفُوهُ؟ لِيَأْخُذْهُ رَجُلٌ مِنكم. فَقالُوا: خُذْهُ أنْتَ. فَقالَ لِي: قُمْ يا سَلْمانُ. فَذَهَبَ بِي مَعَهُ حَتّى أتى غارَهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، فَقالَ لِي: يا سَلْمانُ، هَذا خُبْزٌ، وهَذا أُدْمٌ، فَكُلْ إذا غَرِثْتَ، وصُمْ إذا نَشِطْتَ، وصَلِّ ما بَدا لَكَ، ونَمْ إذا كَسِلْتَ. ثُمَّ قامَ في صِلاتِهِ فَلَمْ يُكَلِّمْنِي إلّا ذاكَ، ولَمْ يَنْظُرْ إلَيَّ، فَأخَذَنِي (p-٤٨٤)الغَمُّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الأيّامِ لا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، حَتّى كانَ الأحَدُ فانْصَرَفَ إلَيَّ، فَذَهَبْتُ إلى مَكانِهُمُ الَّذِي كانُوا يَجْتَمِعُونَ، وهم يَجْتَمِعُونَ كُلَّ أحَدٍ، يُفْطِرُونَ فِيهِ فَيَلْقى بَعْضُهم بَعْضًا، فَيُسَلِّمُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، ثُمَّ لا يَلْتَقُونَ إلى مِثْلِهِ. فَرَجَعْتُ إلى مَنزِلِنا، فَقالَ لِي مِثْلَ ما قالَ لِي أوَّلَ مَرَّةٍ: هَذا خُبْزٌ، وهَذا أُدْمٌ، فَكُلْ مِنهُ إذا غَرِثْتَ، وصُمْ إذا نَشِطْتَ، وصَلِّ ما بَدا لَكَ، ونَمْ إذا كَسِلْتَ. ثُمَّ دَخَلَ في صِلاتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيَّ ولَمْ يُكَلِّمْنِي إلى الأحَدِ الآخَرِ، فَأخَذَنِي غَمٌّ وحَدَّثْتُ نَفْسِي بِالفِرارِ، فَقُلْتُ: اصْبِرْ أحَدَيْنِ أوْ ثَلاثَةً. فَلَمّا كانَ الأحَدُ رَجَعْنا إلَيْهِمْ، فَأفْطَرُوا واجْتَمَعُوا، فَقالَ لَهم: إنِّي أُرِيدُ بَيْتَ المَقْدِسِ. فَقالُوا لَهُ: وما تُرِيدُ إلى ذَلِكَ؟ قالَ: لا عَهْدَ لِي بِهِ. قالُوا: إنّا نَخافُ أنْ يَحْدُثَ بِكَ حَدَثٌ فَيَلِيَكَ غَيْرُنا، وكُنّا نُحِبُّ أنْ نَلِيَكَ. قالَ: لا عَهْدَ لِي بِهِ. فَلَمّا سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ ذاكَ فَرِحْتُ؛ قُلْتُ: نُسافِرُ ونَلْقى النّاسَ، فَيَذْهَبُ عَنِّي الغَمُّ الَّذِي كُنْتُ أجِدُ، فَخَرَجْتُ أنا وهُوَ، وكانَ يَصُومُ مِنَ الأحَدِ إلى الأحَدِ، ويُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ، ويَمْشِي بِالنَّهارِ، فَإذا نَزَلْنا قامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ ذاكَ دَأْبَهُ حَتّى انْتَهَيْنا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وعَلى البابِ رَجُلٌ مُقْعَدٌ يَسْألُ النّاسَ، فَقالَ: أعْطِنِي. فَقالَ: ما مَعِي شَيْءٌ. فَدَخَلْنا بَيْتَ المَقْدِسِ، فَلَمّا رَآهُ أهْلُ بَيْتِ المَقْدِسِ بَشُّوا بِهِ واسْتَبْشَرُوا بِهِ، (p-٤٨٥)فَقالَ لَهم: غُلامِي هَذا، فاسْتَوْصُوا بِهِ. فانْطَلَقُوا بِي فَأطْعَمُونِي خُبْزًا ولَحْمًا، ودَخَلَ في الصَّلاةِ فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيَّ حَتّى كانَ يَوْمُ الأحَدِ الآخَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقالَ لِي: يا سَلْمانُ، إنِّي أُرِيدُ أنْ أضَعَ رَأْسِي، فَإذا بَلَغَ الظِّلُّ مَكانَ كَذا وكَذا فَأيْقِظْنِي. فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَبَلَغَ الظِّلُّ الَّذِي قالَ، فَلَمْ أُوقِظْهُ مَأْواةً لَهُ مِمّا رَأيْتُ مِنَ اجْتِهادِهِ ونَصَبِهِ، فاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، فَقالَ: يا سَلْمانُ، ألَمْ أكُنْ قُلْتُ لَكَ: إذا بَلَغَ الظِّلُّ مَكانَ كَذا وكَذا فَأيْقِظْنِي؟ قُلْتُ: بَلى، ولَكِنْ إنَّما مَنَعَنِي مَأْواةٌ لَكَ لِما رَأيْتُ مِن دَأْبِكَ. قالَ: ويْحَكَ يا سَلْمانُ، إنِّي أكْرَهُ أنْ يَفُوتَنِي شَيْءٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ أعْمَلْ فِيهِ لِلَّهِ خَيْرًا. ثُمَّ قالَ لِي: يا سَلْمانُ، اعْلَمْ أنَّ أفْضَلَ دِينِنا اليَوْمَ النَّصْرانِيَّةُ. قُلْتُ: ويَكُونُ بَعْدَ اليَوْمِ دِينٌ أفْضَلَ مِنَ النَّصْرانِيَّةِ؟ كَلِمَةٌ أُلْقِيَتْ عَلى لِسانِي. قالَ: نَعَمْ، يُوشِكُ أنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ ولا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وبَيْنَ كَتِفَيْهِ خاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإذا أدْرَكْتَهُ فاتَّبِعْهُ وصَدِّقْةُ. قُلْتُ: وإنْ أمَرَنِي أنْ أدَعَ النَّصْرانِيَّةَ؟ قالَ: نَعَمْ، فَإنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ لا يَأْمُرُ إلّا بِحَقٍّ، ولا يَقُولُ إلّا حَقًّا، واللَّهِ لَوْ أدْرَكْتُهُ ثُمَّ أمَرَنِي أنْ أقَعَ في النّارِ لَوَقَعْتُها. ثُمَّ خَرَجْنا مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، فَمَرَرْنا عَلى ذَلِكَ المُقْعَدِ، فَقالَ لَهُ: دَخَلْتَ فَلَمْ تُعْطِنِي، وهَذا تَخْرُجُ فَأعْطِنِي. فالتَفَتَ فَلَمْ يَرَ حَوْلَهُ أحَدًا، قالَ: فَأعْطِنِي يَدَكَ. فَأخَذَ بِيَدِهِ (p-٤٨٦)فَقالَ: قُمْ بِإذْنِ اللَّهِ، فَقامَ صَحِيحًا سَوِيًّا فَتَوَجَّهَ نَحْوَ أهْلِهِ، فَأتْبَعْتُهُ بَصَرِي تَعَجُّبًا مِمّا رَأيْتُ، وخَرَجَ صاحِبِي فَأسْرَعَ المَشْيَ، وتَبِعْتُهُ فَتَلَقّانِي رُفْقَةٌ مِن كَلْبٍ، أعْرابٌ، فَسَبَوْنِي، فَحَمَلُونِي عَلى بَعِيرٍ وشَدُّونِي وثاقًا، فَتَداوَلَنِي البِياعُ حَتّى سَقَطْتُ إلى المَدِينَةِ، فاشْتَرانِي رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، فَجَعَلَنِي في حائِطٍ لَهُ مِن نَخْلٍ، فَكُنْتُ فِيهِ، ومِن ثَمَّ تَعَلَّمْتُ عَمَلَ الخُوصِ، أشْتَرِي خُوصًا بِدِرْهَمٍ، فَأعْمَلُهُ فَأبِيعُهُ بِدِرْهَمَيْنِ، فَأرُدُّ دِرْهَمًا إلى الخُوصِ، وأسْتَنْفِقُ دِرْهَمًا، أُحِبُّ أنْ آكُلَ مِن عَمَلِ يَدِي فَبَلَغَنا ونَحْنُ بِالمَدِينَةِ أنَّ رَجُلًا خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ، فَمَكَثْنا ما شاءَ اللَّهُ أنْ نَمْكُثَ، فَهاجَرَ إلَيْنا، وقَدِمَ عَلَيْنا، فَقُلْتُ: واللَّهِ لَأُجَرِّبَنَّهُ، فَذَهَبْتُ إلى السُّوقِ فاشْتَرَيْتُ لَحْمَ جَزُورٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ طَبَخْتُهُ، فَجَعَلْتُ قَصْعَةً مِن ثَرِيدٍ، فاحْتَمَلْتُها حَتّى أتَيْتُهُ بِها عَلى عاتِقِي، حَتّى وضَعَتُها بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَ: «ما هَذِهِ، أصَدَقَةٌ أمْ هَدِيَّةٌ»؟ . قُلْتُ: بَلْ صَدَقَةٌ. فَقالَ لِأصْحابِهِ: «كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ» . وأمْسَكَ ولَمْ يَأْكُلْ، فَمَكَثْتُ أيّامًا، ثُمَّ اشْتَرَيْتُ لَحْمًا أيْضًا بِدِرْهَمٍ، فَأصْنَعُ مِثْلَها، فاحْتَمَلْتُها حَتّى أتَيْتُهُ بِها، فَوَضَعْتُها بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَ: «ما هَذِهِ، هَدِيَّةٌ أمْ صَدَقَةٌ»؟ . فَقُلْتُ: بَلْ هَدِيَّةٌ، فَقالَ لِأصْحابِهِ: «كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ» . وأكَلَ مَعَهم. قُلْتُ: هَذا واللَّهِ يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ ولا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَنَظَرْتُ فَرَأيْتُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خاتَمَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ بَيْضَةِ (p-٤٨٧)الحَمامَةِ فَأسْلَمْتُ، فَقُلْتُ لَهُ ذاتَ يَوْمٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ قَوْمٍ النَّصارى؟ قالَ: «لا خَيْرَ فِيهِمْ، ولا في مَن يُحِبُّهُمْ» . قُلْتُ في نَفْسِي: أنا واللَّهِ أُحِبُّهم. قالَ: وذاكَ حِينَ بَعَثَ السَّرايا وجَرَّدَ السَّيْفَ، فَسَرِيَّةٌ تَدْخُلُ وسَرِيَّةٌ تَخْرُجُ والسَّيْفُ يَقْطُرُ. قُلْتُ: يُحَدَّثُ بِي الآنَ أنِّي أُحِبُّهُمْ، فَيَبْعَثُ إلَيَّ فَيَضْرِبُ عُنُقِي، فَقَعَدْتُ في البَيْتِ، فَجاءَنِي الرَّسُولُ ذاتَ يَوْمٍ فَقالَ: يا سَلْمانُ، أجِبْ رَسُولَ اللَّهِ. قُلْتُ: هَذا واللَّهِ الَّذِي كُنْتُ أحْذَرُ. قُلْتُ: نَعَمْ، اذْهَبْ حَتّى ألْحَقَكَ. قالَ: لا واللَّهِ، حَتّى تَجِيءَ. وأنا أُحَدِّثُ نَفْسِي أنْ لَوْ ذَهَبَ أنْ أفِرَّ، فانْطَلَقَ بِي حَتّى انْتَهَيْتُ إلَيْهِ، فَلَمّا رَآنِي تَبَسَّمَ وقالَ لِي: «يا سَلْمانُ، أبْشِرْ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكَ» . ثُمَّ تَلا عَلَيَّ هَؤُلاءِ الآياتِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَوْ أدْرَكْتُهُ فَأمَرَنِي أنْ أقَعَ في النّارِ لَوَقَعْتُها، إنَّهُ نَبِيٌّ لا يَقُولُ إلّا حَقًّا، ولا يَأْمُرُ إلّا بِالحَقِّ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ «فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، لَمّا أسْلَمَ أحَبَّ أنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ ﷺ بِعَظَمَتِهِ في اليَهُودِ، ومَنزِلَتِهِ فِيهِمْ، وقَدْ سَتَرَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم سِتْرًا، فَكَلَّمَهم ودَعاهم فَأبَوْا، فَقالَ: «أخْبِرُونِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ كَيْفَ هو فِيكُمْ»؟ . قالُوا: ذاكَ سَيِّدُنا وأعْلَمُنا. قالَ: «أرَأيْتُمُ إنْ آمَنَ بِي وصَدَّقَنِي، (p-٤٨٨)أتُؤْمِنُونَ بِي وتُصَدِّقُونِي»؟ . قالُوا: لا يَفْعَلُ ذَلِكَ، هو أفْقَهُ فِينا مِن أنْ يَدَعَ دِينَهُ ويَتَّبِعَكَ. قالَ: «أرَأيْتُمُ إنْ فَعَلَ»؟ . قالُوا: لا يَفْعَلُ. قالَ: «أرَأيْتُمُ إنْ فَعَلَ»؟ . قالُوا: إذَنْ نَفْعَلَ. قالَ: «اخْرُجْ يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ» . فَخَرَجَ فَقالَ: ابْسُطْ يَدَكَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَبايَعَهُ، فَوَقَعُوا بِهِ وشَتَمُوهُ، وقالُوا: واللَّهِ ما فِينا أحَدٌ أقَلَّ عِلْمًا مِنهُ، ولا أجْهَلَ بِكِتابِ اللَّهِ مِنهُ. قالَ: «ألَمْ تُثْنُوا عَلَيْهِ آنِفًا»؟ . قالُوا: إنّا اسْتَحَيْنا أنْ تَقُولَ: اغْتَبْتُمْ صاحِبَكم مِن خَلْفِهِ. فَجَعَلُوا يَشْتُمُونَهُ، فَقامَ إلَيْهِ أمِينُ بْنُ يامِينَ فَقالَ: أشْهَدُ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ صادِقٌ، فابْسُطْ يَدَكَ. فَبايَعَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ يَعْنِي إبْراهِيمَ، وإسْماعِيلَ، ومُوسى، وعِيسى، وتِلْكَ الأُمَمَ، وكانُوا عَلى دِينِ مُحَمَّدٍ» ﷺ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ قالَ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ كانُوا في زَمانِ الفَتْرَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِالإسْلامِ، مُقِيمِينَ عَلَيْهِ، صابِرِينَ عَلى ما أُوذُوا، حَتّى أدْرَكَ رِجالٌ مِنهُمُ النَّبِيَّ ﷺ . (p-٤٨٩)وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: «لَمّا أتى جَعْفَرٌ وأصْحابُهُ النَّجاشِيَّ، أنْزَلَهم وأحْسَنَ إلَيْهِمْ، فَلَمّا أرادُوا أنْ يَرْجِعُوا قالَ مَن آمَنَ مِن أهْلِ مَمْلَكَتِهِ: ائْذَنْ لَنا فَلْنَحْذِفْ هَؤُلاءِ في البَحْرِ، ونَأْتِيَ هَذا النَّبِيَّ فَنُحْدِثَ بِهِ عَهْدًا. فانْطَلَقُوا، فَقَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشَهِدُوا مَعَهُأُحُدًا، وحُنَيْنًا، وخَيْبَرَ، ولَمْ يُصَبْ أحَدٌ مِنهُمْ، فَقالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ائْذَنْ لَنا فَلْنَأْتِ أرْضَنا فَإنَّ لَنا أمْوالًا فَنَجِيءُ بِها فَنُنْفِقُها عَلى المُهاجِرِينَ، فَإنّا نَرى بِهِمْ جَهْدًا. فَأذِنَ لَهم فانْطَلَقُوا فَجاءُوا بِأمْوالِهِمْ فَأنْفَقُوها عَلى المُهاجِرِينَ، فَأُنْزِلَتْ فِيهِمُ الآيَةُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [القصص»: ٥٤] . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: إنَّ قَوْمًا مِنَ المُشْرِكِينَ أسْلَمُوا فَكانُوا يُؤْذُونَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ﴾ الآيَةَ. قالَ: أُناسٌ مِن أهْلِ الكِتابِ أسْلَمُوا، فَكانَ أُناسٌ مِنَ اليَهُودِ إذا مَرُّوا عَلَيْهِمْ سَبُّوهُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ فِيهِمْ. (p-٤٩٠)وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتادَةَ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ قالَ: لا يُجاوِرُونَ أهْلَ الباطِلِ والجَهْلِ في باطِلِهِمْ، أتاهم مِنَ اللَّهِ ما وقَذَهم عَنْ ذَلِكَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ؛ رَجُلٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِالكِتابِ الأوَّلِ والكِتابِ الآخِرِ، ورَجُلٌ كانَتْ لَهُ أمَةٌ فَأدَّبَها فَأحْسَنَ تَأْدِيبَها، ثُمَّ أعْتَقَها وتَزَوَّجَها، وعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبادَةَ رَبِّهِ ونَصَحَ لِسَيِّدِهِ»» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، والطَّبَرانِيُّ، عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««مَن أسْلَمَ مِن أهْلِ الكِتابِ فَلَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب