الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إدْرِيسَ﴾ . أخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ سَمُرَةَ قالَ: كانَ إدْرِيسُ أبْيَضَ طَوِيلًا، ضَخْمَ البَطْنِ، عَرِيضَ الصَّدْرِ، قَلِيلَ شَعْرِ الجَسَدِ، كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وكانَتْ إحْدى عَيْنَيْهِ أعْظَمَ مِنَ الأُخْرى، وكانَتْ في صَدْرِهِ نُكْتَةُ بَياضٍ مِن غَيْرِ بَرَصٍ، فَلَمّا رَأى اللَّهُ مِن أهْلِ الأرْضِ ما رَأى مِن جَوْرِهِمْ واعْتِدائِهِمْ في أمْرِ اللَّهِ، رَفَعَهُ اللَّهُ إلى السَّماءِ السّادِسَةِ، فَهو حَيْثُ يَقُولُ: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِي: إنَّ إدْرِيسَ أقْدَمُ مِن نُوحٍ، بَعَثَهُ اللَّهُ إلى قَوْمِهِ، فَأمَرَهُمُ اللَّهُ أنْ يَقُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. ويَعْمَلُوا ما شاءُوا، فَأبَوْا، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ قالَ: كانَ إدْرِيسُ خَيّاطًا، وكانَ لا يَغْرِزُ إلّا قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ، فَكانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي (p-٨٤)ولَيْسَ في الأرْضِ أحَدٌ أفْضَلَ عَمَلًا مِنهُ، فاسْتَأْذَنَ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ رَبَّهُ فَقالَ: يا رَبِّ ائْذَنْ لِي فَأهْبِطَ إلى إدْرِيسَ، فَأذِنَ لَهُ، فَأتى إدْرِيسَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وقالَ: إنِّي جِئْتُكَ لِأخْدِمَكَ. فَقالَ: كَيْفَ تَخْدُمُنِي وأنْتَ مَلَكٌ وأنا إنْسانٌ؟ ثُمَّ قالَ إدْرِيسُ: هَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَ مَلَكِ المَوْتِ شَيْءٌ؟ قالَ المَلَكُ: ذاكَ أخِي مِنَ المَلائِكَةِ. فَقالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْفَعَنِي عِنْدَ المَوْتِ؟ قالَ: أمّا أنْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا أوْ يُقَدِّمَهُ فَلا، ولَكِنْ سَأُكَلِّمُهُ لَكَ فَيَرْفُقُ بِكَ عِنْدَ المَوْتِ. فَقالَ: ارْكَبْ بَيْنَ جَناحَيَّ، فَرَكِبَ إدْرِيسُ، فَصَعِدَ إلى السَّماءِ العُلْيا، فَلَقِيَ مَلَكَ المَوْتِ وإدْرِيسُ بَيْنَ جَناحَيْهِ، فَقالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّ لِي إلَيْكَ حاجَّةً. قالَ: عَلِمْتُ حاجَتَكَ، تُكَلِّمُنِي في إدْرِيسَ، وقَدْ مُحِيَ اسْمُهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ، ولَمْ يَبْقَ مِن أجَلِهِ إلّا نِصْفُ طَرْفَةِ عَيْنٍ. فَماتَ إدْرِيسُ بَيْنَ جَناحَيِ المَلَكِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في ”المُصَنَّفِ“، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: سَألْتُ كَعْبًا عَنْ رَفْعِ إدْرِيسَ مَكانًا عَلِيًّا، فَقالَ: كانَ عَبْدًا تَقِيًّا، يُرْفَعُ لَهُ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ ما يُرْفَعُ لِأهْلِ الأرْضِ في أهْلِ زَمانِهِ فَعَجِبَ المَلَكُ (p-٨٥)الَّذِي كانَ يَصْعَدُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، فاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ قالَ: رَبِّ ائْذَنْ لِي إلى عَبْدِكَ هَذا فَأزُورَهُ. فَأذِنَ لَهُ فَنَزَلَ قالَ: يا إدْرِيسُ أبْشِرْ، فَإنَّهُ يُرْفَعُ لَكَ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ ما لا يُرْفَعُ لِأهْلِ الأرْضِ. قالَ: وما عِلْمُكَ؟ قالَ إنِّي مَلَكٌ، قالَ: وإنْ كُنْتَ مَلَكًا قالَ: فَإنِّي عَلى البابِ الَّذِي يَصْعَدُ عَلَيْهِ عَمَلُكَ، قالَ: أفَلا تَشْفَعُ إلى مَلَكِ المَوْتِ، فَيُؤَخِّرَ مِن أجَلِي لِأزْدادَ شُكْرًا وعِبادَةً؟ قالَ المَلَكُ: ولا يُؤَخِّرُ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاءَ أجَلُها. قالَ: قَدْ عَلِمْتُ ولَكِنَّهُ أطْيَبُ لِنَفْسِي. فَحَمَلَهُ المَلَكُ عَلى جَناحِهِ فَصَعِدَ بِهِ إلى السَّماءِ فَقالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ، هَذا عَبْدٌ تَقِيٌّ نَبِيٌّ، يُرْفَعَ لَهُ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ ما لا يُرْفَعُ لِأهْلِ الأرْضِ، وإنِّي أعْجَبَنِي ذَلِكَ، فاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي إلَيْهِ، فَلَمّا بَشَّرْتُهُ بِذَلِكَ، سَألَنِي لِأشْفَعَ لَهُ إلَيْكَ لِتُؤَخِّرَ لَهُ مِن أجَلِهِ لِيَزْدادَ شُكْرًا وعِبادَةً لِلَّهِ، قالَ: ومَن هَذا؟ قالَ: إدْرِيسُ. فَنَظَرَ في كِتابٍ مَعَهُ حَتّى مَرَّ بِاسْمِهِ فَقالَ: واللَّهِ ما بَقِيَ مِن أجَلِ إدْرِيسَ شَيْءٌ. فَمَحاهُ فَماتَ مَكانَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ . قالَ: رُفِعَ إلى السَّماءِ السّادِسَةِ فَماتَ فِيها. (p-٨٦)وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ قالَ: حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لَمّا عُرِجَ بِي رَأيْتُ إدْرِيسَ في السَّماءِ الرّابِعَةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ قالَ: في السَّماءِ الرّابِعَةِ» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ والرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في الآيَةِ قالَ: رُفِعَ إدْرِيسُ كَما رُفِعَ عِيسى ولَمْ يَمُتْ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إدْرِيسُ هو إلْياسُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ مَوْلى غُفْرَةَ يَرْفَعُ الحَدِيثَ إلى النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ إدْرِيسَ كانَ نَبِيًّا تَقِيًّا زَكِيًّا، وكانَ يُقْسِمُ دَهْرَهُ عَلى قِسْمَيْنِ؛ ثَلاثَةَ أيّامٍ يُعَلِّمُ النّاسَ الخَيْرَ وأرْبَعَةَ أيّامٍ يَسِيحُ في الأرْضِ ويَعْبُدُ اللَّهَ مُجْتَهِدًا، وكانَ يَصْعَدُ مِن عَمَلِهِ وحْدَهُ إلى السَّماءِ مِنَ الخَيْرِ مِثْلُ ما يَصْعَدُ مِن جَمِيعِ أعْمالِ بَنِي آدَمَ، وإنَّ مَلَكَ المَوْتِ أحَبَّهُ في اللَّهِ، فَأتاهُ حِينَ خَرَجَ لِلسِّياحَةِ فَقالَ لَهُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي (p-٨٧)أُرِيدُ أنْ تَأْذَنَ لِي في صُحْبَتِكَ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ - وهو لا يَعْرِفُهُ -: إنَّكَ لَنْ تَقْوى عَلى صُحْبَتِي، قالَ: بَلى إنِّي أرْجُو أنْ يُقَوِّيَنِي اللَّهُ عَلى ذَلِكَ. فَخَرَجَ مَعَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتّى إذا كانَ مِن آخِرِ النَّهارِ مَرَّ بِراعِي غَنَمٍ، فَقالَ مَلَكُ المَوْتِ لِإدْرِيسَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنّا لا نَدْرِي حَيْثُ نُمْسِي، فَلَوْ أخَذْنا جَفْرَةً مِن هَذِهِ الغَنَمِ فَأفْطَرْنا عَلَيْها. فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: لا تَعُدْ إلى مِثْلٍ هَذا، أتَدْعُونِي إلى أخْذٍ ما لَيْسَ لَنا، مِن حَيْثُ نُمْسِي يَأْتِينا اللَّهُ بِرِزْقٍ، فَلَمّا أمْسى أتاهُ اللَّهُ بِالرِّزْقِ الَّذِي كانَ يَأْتِيهِ، فَقالَ لِمَلَكِ المَوْتِ: تَقَدَّمْ فَكُلْ، فَقالَ مَلَكُ المَوْتِ: لا، والَّذِي أكْرَمَكَ بِالنُّبُوَّةِ ما أشْتَهِي. فَأكَلَ إدْرِيسُ وقاما جَمِيعًا إلى الصَّلاةِ، فَفَتَرَ إدْرِيسُ وكَلَّ ومَلَّ ونَعَسَ، ومَلَكُ المَوْتِ لا يَفْتُرُ ولا يَمَلُّ ولا يَنْعَسُ، فَعَجِبَ مِنهُ وقالَ: قَدْ كُنْتُ أظُنُّ أنِّي أقْوى النّاسِ عَلى العِبادَةِ، فَهَذا أقْوى مِنِّي! فَصَغُرَتْ عِنْدَهُ عِبادَتُهُ عِنْدَ ما رَأى مِنهُ. ثُمَّ أصْبَحا فَساحا، فَلَمّا كانَ آخِرُ النَّهارِ مَرّا بِحَدِيقَةِ عِنَبٍ فَقالَ مَلَكُ المَوْتِ لِإدْرِيسَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْ أخَذْنا قِطْفًا مِن هَذا العِنَبِ؛ لِأنّا لا نَدْرِي أيْنَ نُمْسِي. فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: ألَمْ أنْهَكَ عَنْ هَذا؟ أنا وأنْتَ حَيْثُ نُمْسِي يَأْتِينا اللَّهُ بِرِزْقٍ. فَلَمّا أمْسَيا أتاهُ اللَّهُ الرِّزْقَ الَّذِي كانَ يَأْتِيهِ، فَأكَلَ إدْرِيسُ، فَقالَ لِمَلَكِ (p-٨٨)المَوْتِ هَلُمَّ فَكُلْ، فَقالَ: لا والَّذِي أكْرَمَكَ بِالنُّبُوَّةِ يا نَبِيَّ اللَّهِ لا أشْتَهِي. فَعَجِبَ ثُمَّ قاما إلى الصَّلاةِ، فَفَتَرَ إدْرِيسُ أيْضًا وكَّلَ ومَلَّ، ومَلَكُ المَوْتِ لا يَكِلُ ولا يَفْتُرُ ولا يَنْعَسُ، فَقالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ إدْرِيسُ: لا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أنْتَ مِن بَنِي آدَمَ! فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ عِنْدَ ذَلِكَ: أجَلْ لَسْتُ مِن بَنِي آدَمَ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: فَمَن أنْتَ؟ قالَ: أنا مَلَكُ المَوْتِ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: أُمِرْتَ فِيَّ بِأمْرٍ؟ فَقالَ لَهُ: لَوْ أُمِرْتُ فِيكَ بِأمْرٍ ما ناظَرْتُكَ، ولَكِنِّي أُحِبُّكَ في اللَّهِ وصَحِبْتُكَ لَهُ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: يا مَلَكَ المَوْتِ إنَّكَ مَعِي مُنْذُ ثَلاثَةِ أيّامٍ بِلَيالِيها لَمْ تَقْبِضْ رُوحَ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ! قالَ: بَلى، والَّذِي أكْرَمَكَ بِالنُّبُوَّةِ يا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي مَعَكَ حِينَ رَأيْتَ وإنِّي أقْبِضُ نَفْسَ مَن أُمِرْتُ بِقَبْضِ نَفْسِهِ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، وما الدُّنْيا كُلُّها عِنْدِي إلّا بِمَنزِلَةِ المائِدَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ يَمُدُّ يَدَهُ يَتَناوَلُ مِنها ما شاءَ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: يا مَلَكَ المَوْتِ أسْألُكَ بِالَّذِي أحْبَبْتَنِي لَهُ وفِيهِ إلّا قَضَيْتَ لِي حاجَةً أسْألُكُها. فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: سَلْنِي يا نَبِيَّ اللَّهِ ما أحْبَبْتَ، فَقالَ: أُحِبُّ أنْ تُذِيقَنِي المَوْتَ، وتُفَرِّقَ بَيْنَ رُوحِي وجَسَدِي؛ حَتّى أجِدَ طَعْمَ المَوْتِ، ثُمَّ تَرُدَّ إلَيَّ رُوحِي، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: ما أقْدِرُ عَلى ذَلِكَ إلّا أنْ أسْتَأْذِنَ فِيهِ رَبِّي، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ: فاسْتَأْذِنْهُ في ذَلِكَ، فَعَرَجَ مَلَكُ المَوْتِ إلى رَبِّهِ فَأذِنَ لَهُ، فَقَبَضَ نَفْسَهُ وفَرَّقَ بَيْنَ رُوحِهِ وجَسَدِهِ، فَلَمّا سَقَطَ إدْرِيسُ مَيِّتًا رَدَّ إلَيْهِ رُوحَهُ، وطَفِقَ يَمْسَحُ وجْهَهُ وهو يَقُولُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، ما كُنْتُ أُرِيدُ أنْ (p-٨٩)يَكُونَ هَذا حَظَّكَ مِن صُحْبَتِي. فَلَمّا أفاقَ قالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ وجَدْتَ؟ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ قَدْ كُنْتُ أُحَدَّثُ وأسْمَعُ، فَإذا هو أعْظَمُ مِمّا كُنْتُ أُحَدَّثُ وأسْمَعُ، ثُمَّ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ أُرِيدُ مِنكَ حاجَةً أُخْرى قالَ: وما هِيَ؟ قالَ: تُرِينِي النّارَ حَتّى أنْظُرَ إلى لَمْحَةٍ مِنها، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: وما لَكَ والنّارَ؟ إنِّي لَأرْجُو ألّا تَراها ولا تَكُونَ مِن أهْلِها. قالَ: بَلى أُرِيدُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أشَدَّ لَرَهِبَتْنِي وخَوْفِي مِنها، فانْطَلَقَ إلى بابٍ مِن أبْوابِ جَهَنَّمَ، فَنادى بَعْضَ خَزَنَتِها فَأجابُوهُ وقالُوا: مِن هَذا؟ قالَ: أنا مَلَكُ المَوْتِ، فارْتَعَدَتْ فَرائِصُهم - قالُوا: أُمِرْتَ فِينا بِأمْرٍ؟ فَقالَ: لَوْ أُمِرْتُ فِيكم بِأمْرٍ ما ناظَرْتُكُمْ، ولَكِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ إدْرِيسَ سَألَنِي أنْ تُرُوهُ لَمْحَةً مِنَ النّارِ، فَفَتَحُوا لَهُ قَدْرَ ثُقْبِ المَخِيطِ، فَأصابَهُ مِن حَرِّها ولَهَبِها وزَفِيرِها ما صَعَقَ، فَقالَ مَلَكُ المَوْتِ: أغْلِقُوا، فَأغْلَقُوا، فَمَسَحَ مَلَكُ المَوْتِ وجْهَهُ وهو يَقُولُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، ما كُنْتُ أُحِبُّ أنْ يَكُونَ هَذا حَظَّكَ مِن صُحْبَتِي، فَلَمّا أفاقَ قالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: يا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ رَأيْتَ؟ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ، كُنْتُ أُحَدَّثُ وأسْمَعُ، فَإذا هو أعْظَمُ مِمّا كُنْتُ أُحَدَّثُ وأسْمَعُ! ثُمَّ قالَ لَهُ: يا مَلَكَ المَوْتِ قَدْ بَقِيَتْ لِي حاجَةٌ أُخْرى لَمْ يَبْقَ غَيْرُها. قالَ: وما هِيَ؟ قالَ: تُرِينِي لَمْحَةً مِنَ الجَنَّةِ، قالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: أبْشِرْ فَإنَّكَ إنْ شاءَ اللَّهُ مِن خِيارِ أهْلِها، وإنَّها إنْ شاءَ اللَّهُ مَقِيلُكَ ومَصِيرُكَ، فَقالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ إنِّي أُحِبُّ أنْ أنْظُرَ إلَيْها، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ أشَدَّ لِشَوْقِي وحِرْصِي وطَلَبِي، فَذَهَبَ بِهِ إلى بابٍ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ فَنادى بَعْضَ خَزَنَتِها فَأجابُوهُ فَقالُوا: مَن هَذا؟ قالَ: مَلَكُ المَوْتِ، فارْتَعَدَتْ فَرائِصُهم (p-٩٠)وقالُوا: أُمِرْتَ فِينا بِشَيْءٍ؟ فَقالَ: لَوْ أُمِرْتُ فِيكم بِشَيْءٍ ما ناظَرَتْكُمْ، ولَكِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ إدْرِيسَ سَألَ أنْ يَنْظُرَ إلى لَمْحَةٍ مِنَ الجَنَّةِ فافْتَحُوا. فَلَمّا فَتَحُوا أصابَهُ مَن بَرْدِها وطِيبِها ورَيْحانِها ما أخَذَ بِقَلْبِهِ، فَقالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ إنِّي أُحِبُّ أنْ أدْخُلَ الجَنَّةَ فَآكُلَ أكْلَةً مِن ثِمارِها، وأشْرَبَ شَرْبَةً مِن مائِها، فَلَعَلَّ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أشَدَّ لِطَلَبِي ورَغْبَتِي وحِرْصِي، فَقالَ لَهُ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ فَأكَلَ مِن ثِمارِها وشَرِبَ مِن مائِها، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: اخْرُجْ يا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ أصَبْتَ حاجَتَكَ حَتّى يَرُدَّكَ اللَّهُ مَعَ الأنْبِياءِ يَوْمَ القِيامَةِ. فاحْتَضَنَ ساقَ شَجَرَةٍ مِن شَجَرِ الجَنَّةِ وقالَ: ما أنا بِخارِجٍ مِنها، وإنْ شِئْتَ أنْ أُخاصِمَكَ خاصَمْتُكَ، فَأوْحى اللَّهُ إلى مَلَكِ المَوْتِ: قاضِهِ الخُصُومَةَ، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: ما الَّذِي تُخاصِمُنِي بِهِ يا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقالَ إدْرِيسُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] [ آلِ عِمْرانَ: ١٨٥ ] فَقَدْ ذُقْتُ المَوْتَ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلى خَلْقِهِ مَرَّةً واحِدَةً، وقالَ اللَّهُ: ﴿وإنْ مِنكم إلا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١] وقَدْ ورَدَتْها أفَأرُدُّها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وإنَّما كَتَبَ اللَّهُ وُرُودَها عَلى خُلْقِهِ مَرَّةً واحِدَةً؟ وقالَ اللَّهُ لِأهْلِ الجَنَّةِ: ﴿وما هم مِنها بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: ٤٨] [ الحِجْرِ: ٤٨ ] أفَأخْرُجُ مِن شَيْءٍ ساقَهُ اللَّهُ إلَيَّ؟ فَأوْحى اللَّهُ إلى مَلَكِ المَوْتِ: خَصَمَكَ عَبْدِي إدْرِيسُ وعِزَّتِي وجَلالِي إنَّ (p-٩١)فِي سابِقِ عِلْمِي قَبْلَ أنْ أخْلُقَهُ أنَّهُ لا مَوْتَ عَلَيْهِ إلّا المَوْتَةَ الَّتِي ماتَها، وأنَّهُ لا يَرِدُ جَهَنَّمَ إلّا الوِرْدَ الَّذِي ورَدَها، وأنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ في السّاعَةِ الَّتِي دَخَلَها، وأنَّهُ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها فَدَعْهُ يا مَلَكَ المَوْتِ، فَقَدْ خَصَمَكَ؛ قَدِ احْتَجَّ عَلَيْكَ بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ. فَلَمّا قَرَّ قَرارُ إدْرِيسَ في الجَنَّةِ، وألْزَمَهُ اللَّهُ دُخُولَها قَبْلَ الخَلائِقِ، عَجَّتِ المَلائِكَةُ إلى رَبِّهِمْ فَقالُوا: رَبُّنا خَلَقْتَنا قَبْلَ إدْرِيسَ بِكَذا وكَذا ألْفَ سَنَةٍ، ولَمْ نَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وإنَّما خَلَقْتَ إدْرِيسَ مُنْذُ أيّامٍ قَلائِلَ، فَأدْخَلْتَهُ الجَنَّةَ قَبْلَنا، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِمْ: يا مَلائِكَتِي، إنَّما خَلَقْتُكم لِعِبادَتِي وتَسْبِيحِي وذِكْرِي، وجَعَلْتُ فِيها لَذَّتَكُمْ، ولَمْ أجْعَلْ لَكم لَذَّةً في مَطْعَمٍ ولا مَشْرَبٍ ولا في شَيْءٍ سِواها، وقَوَّيْتُكم عَلَيْها، وجَعَلْتُ في الأرْضِ الزِّينَةَ والشَّهَواتِ واللَّذّاتِ والمَعاصِيَ والمَحارِمَ، وإنَّهُ اجْتَنَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن أجْلِي، وآثَرَ هَوايَ عَلى هَواهُ، ورِضايَ ومَحَبَّتِي عَلى رِضاهُ ومَحَبَّتِهِ، فَمَن أرادَ مِنكم أنْ يَدْخُلَ مَدْخَلَ إدْرِيسَ فَلْيَهْبِطْ إلى الأرْضِ، فَلْيَعْبُدْنِي بِعِبادَةِ إدْرِيسَ، ويَعْمَلْ بِعَمَلِ إدْرِيسَ، فَإنْ عَمِلَ عَمَلَ إدْرِيسَ أُدْخِلُهُ مَدْخَلَ إدْرِيسَ، وإنْ غَيَّرَ أوْ بَدَّلَ اسْتَوْجَبَ مُدْخَلَ الظّالِمِينَ، فَقالَتِ المَلائِكَةُ: رَبَّنا لا نَطْلُبُ ثَوابًا ولا تُصِيبُنا بِعِقابٍ، رَضِينا بِمَكانِنا مِنكَ يا رَبُّ وفَضِيلَتِكَ إيّانا. (p-٩٢)وانْتُدِبَ ثَلاثَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ: هارُوتُ ومارُوتُ ومَلَكٌ آخَرُ رَضُوا بِهِ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِمْ: أمّا إذا اجْتَمَعْتُمْ عَلى هَذا فاحْذَرُوا إنْ يَنْفَعْكُمُ الحَذَرُ فَإنِّي أُنْذِرُكُمُ؛ اعْلَمُوا أنَّ أكْبَرَ الكَبائِرِ عِنْدِي أرْبَعٌ: - فَما عَمِلْتُمْ سِواها غَفَرْتُهُ لَكُمْ، وإنْ عَمِلْتُمُوها لَمْ أغْفِرْ لَكم، قالُوا: وما هِيَ؟ قالَ: أنْ لا تَعْبُدُوا صَنَمًا ولا تَسْفِكُوا دَمًا، ولا تَشْرَبُوا خَمْرًا، ولا تَطَئُوا مُحَرَّمًا. فَهَبَطُوا إلى الأرْضِ عَلى ذَلِكَ، فَكانُوا في الأرْضِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ إدْرِيسُ؛ يُقِيمُونَ أرْبَعَةَ أيّامٍ في سِياحَتِهِمْ وثَلاثَةَ أيّامٍ يُعَلِّمُونَ النّاسَ الخَيْرَ، ويَدْعُونَهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ وطاعَتِهِ، حَتّى ابْتَلاهُمُ اللَّهُ بِالزُّهْرَةِ، وكانَتْ مِن أجْمَلِ النِّساءِ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْها افْتَتَنُوا بِها؛ لِما أرادَ اللَّهُ ولِما سَبَقَ عَلَيْهِمْ في عِلْمِهِ، مَعَ خِذْلانِ اللَّهِ إيّاهم - فَنَسُوا ما تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فَسَألُوها نَفْسَها، قالَتْ لَهم: نَعَمْ، ولَكِنْ لِي زَوْجٌ لا أقْدِرُ عَلى ما تُرِيدُونَ مِنِّي إلّا أنْ تَقْتُلُوهُ، وأكُونُ لَكم. فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: إنّا قَدْ أُمِرْنا ألّا نَسْفِكَ دَمًا ولا نَطَأ مُحَرَّمًا، ولَكِنّا نَفْعَلُ هَذا مَعَ هَذا، ثُمَّ نَتُوبُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ. فَلَمّا أحَسَّ الثّالِثُ بِالفِتْنَةِ، عَصَمَهُ اللَّهُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ بِالسَّماءِ، ودَخَلَها فَنَجا، وأقامَ هارُوتُ ومارُوتُ لِما كُتِبَ عَلَيْهِما فَشَدّا عَلى زَوْجِها فَقَتَلاهُ، فَلَمّا أراداها قالَتْ: لِي صَنَمٌ أعْبُدُهُ وأنا أكْرَهُ مَعْصِيَتَهُ وخِلافَهُ، فَإنْ أرَدْتُما فاسْجُدا لَهُ سَجْدَةً واحِدَةً، فَدَعاهُما الفِتْنَةُ إلى ذَلِكَ، فَقالَ أحَدُهُما (p-٩٣)لِصاحِبِهِ: إنّا قَدْ أُمِرْنا ألّا نَسْفِكَ دَمًا ولا نَطَأ حَرَمًا ولَكُنّا نَفْعَلُهُ ثُمَّ نَتُوبُ مِن جَمِيعِهِ فَسَجَدُوا لِذَلِكَ الصَّنَمِ، فَلَمّا أراداها قالَتْ لَهُما: قَدْ بَقِيَتْ لِي حاجَةٌ أُخْرى، قالا: وما هِيَ؟ قالَتْ: لِي شَرابٌ لا يَطِيبُ لِي شَيْءٌ مِنَ العَيْشِ إلّا بِهِ. فَقالا: وما هُوَ؟ قالَتِ: الخَمْرُ، فَدَعاهُما الفِتْنَةُ إلى ذَلِكَ، فَقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: إنّا قَدْ أُمِرْنا أنْ لا نَشْرَبَ خَمْرًا، فَقالَ لَهُ الآخَرُ: إنّا قَدْ أُمِرْنا ألّا نَسْفِكَ دَمًا ولا نَطَأ مُحَرَّمًا، ولَكُنّا نَفْعَلُهُ ثُمَّ نَتُوبُ مِن جَمِيعِهِ، فَشَرِبا الخَمْرَ، فَلَمّا أراداها قالَتْ: قَدْ بَقِيَتْ لِي حاجَةٌ أُخْرى، قالا: وما هِيَ؟ قالَتْ: تُعَلِّمانِي الكَلامَ الَّذِي تَعْرُجانِ بِهِ إلى السَّماءِ، فَعَلَّماها إيّاهُ، فَلَمّا تَكَلَّمَتْ بِهِ عَرَجَتْ إلى السَّماءِ، فَلَمّا انْتَهَتْ إلى السَّماءِ مُسِخَتْ نَجْمًا، فَلَمّا ابْتُلِيا بِما ابْتُلِيا بِهِ عَرَجا إلى السَّماءِ، فَغُلِّقَتْ أبْوابُ السَّماءِ دُونَهُما، وقِيلَ لَهُما: إنَّ السَّماءَ لا يَدْخُلُها خَطّاءٌ. فَلَمّا مُنِعا مِن دُخُولِ السَّماءِ، وعَلِما أنَّهُما قَدِ افْتُتِنا وابْتُلِيا، عَجّا إلى اللَّهِ بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ والِابْتِهالِ فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِما: حَلَّ عَلَيْكُما سَخَطِي، ووَجَبَتْ لَكُما عُقُوبَتِي فِيما تَعَرَّضْتُما واسْتَوْجَبْتُما، وقَدْ كُنْتُما مَعَ مَلائِكَتِي في طاعَتِي وعِبادَتِي حَتّى عَصَيْتُما، فَصِرْتُما بِذَلِكَ إلى ما صِرْتُما إلَيْهِ مِن مَعْصِيَتِي خِلافَ أمْرِي، فاخْتارا إنْ شِئْتُما عَذابَ الدُّنْيا، وإنْ شِئْتُما عَذابَ الآخِرَةِ. فَعَلِما أنَّ عَذابَ الدُّنْيا وإنْ طالَ فَمَصِيرُهُ إلى زَوالٍ، وأنَّ عَذابَ الآخِرَةِ لَيْسَ لَهُ زَوالٌ ولا انْقِطاعٌ، فاخْتارا عَذابَ الدُّنْيا فَهُما بِبابِلَ مُعَلَّقَيْنِ مَنكُوسَيْنِ مُقَرَّنَيْنِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» . (p-٩٤)وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ داوُدَ بْنِ أبِي هِنْدٍ عَنْ بَعْضِ أصْحابِهِ قالَ: كانَ مَلَكُ المَوْتِ صَدِيقًا لِإدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ لَهُ إدْرِيسُ يَوْمًا: يا مَلَكَ المَوْتِ. قالَ: لَبَّيْكَ، قالَ: أمِتْنِي فَأرِنِي كَيْفَ المَوْتُ، قالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: سُبْحانَ اللَّهِ يا إدْرِيسُ إنَّما يَفِرُّ أهْلُ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ المَوْتِ، وتَسْألُنِي أنْ أُرِيَكَ كَيْفَ المَوْتُ؟ قالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ أراهُ. فَلَمّا ألَحَّ عَلَيْهِ قالَ لَهُ: يا إدْرِيسُ أنا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ مِثْلُكَ ولَيْسَ إلَيَّ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، قالَ: فَصَعِدَ مَلَكُ المَوْتِ فَقالَ: يا رَبِّ إنَّ عَبْدَكَ سَألَنِي أنْ أُرِيَهُ المَوْتَ كَيْفَ هو. قالَ اللَّهُ لَهُ: فَأمِتْهُ، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: يا إدْرِيسُ إنَّما يَفِرُّ الخَلْقُ مِنَ المَوْتِ، قالَ: فَأرِنِي، فَلَمّا ماتَ بَقِيَ مَلَكُ المَوْتِ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَرُدَّ نَفْسَهُ إلَيْهِ، فَقالَ: يا رَبِّ قَدْ تَرى ما إدْرِيسُ فِيهِ. فَرَدَّ اللَّهُ رَوْحَهُ، فَمَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ حَيًّا، ثُمَّ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ: أدْخِلْنِي الجَنَّةَ فَأنْظُرَ إلَيْها، قالَ لَهُ: يا إدْرِيسُ إنَّما أنا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ مِثْلُكَ لَيْسَ إلَيَّ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ. فَألَحَّ عَلَيْهِ فَقالَ مَلَكُ المَوْتِ: يا رَبِّ إنَّ عَبْدَكَ إدْرِيسَ قَدْ ألَحَّ عَلَيَّ يَسْألُنِي أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ فَيَراها، وقَدْ قُلْتُ لَهُ: إنَّما أنا عَبْدٌ مِثْلُكَ ولَيْسَ إلَيَّ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، قالَ اللَّهُ: فَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ. قالَ: اللَّهُ عَلِمَ مِن إدْرِيسَ ما لا أعْلَمُ أنا. فاحْتَمَلَهُ مَلَكُ المَوْتِ فَأدْخَلَهُ الجَنَّةَ، فَكانَ فِيها ما شاءَ اللَّهُ، فَقالَ لَهُ مَلَكُ المَوْتِ: اخْرُجْ بِنا، قالَ: (p-٩٥)لا، قالَ اللَّهُ: وما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلّا مَوْتَتَنا الأُولى وقالَ اللَّهُ: ﴿وما هم مِنها بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: ٤٨] [ الحِجْرِ: ٤٨ ] وما أنا بِخارِجٍ مِنها. قالَ مَلَكُ المَوْتِ: يا رَبِّ قَدْ تَسْمَعُ ما يَقُولُ عَبْدُكَ إدْرِيسُ، قالَ اللَّهُ لَهُ: صِدْقُ عَبْدِي هو أعْلَمُ مِنكَ، فاخْرُجْ مِنها ودَعْهُ فِيها، فَقالَ اللَّهُ: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ قالَ: كانَ إدْرِيسُ أوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ في الأرْضِ، وإنَّهُ كانَ يَعْمَلُ فَيُرْفَعُ عَمَلُهُ مِثْلَ نِصْفِ أعْمالِ النّاسِ، ثُمَّ إنَّ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ أحَبَّهُ، فَسَألَ اللَّهُ أنْ يَأْذَنَ لَهُ فَيَأْتِيَهُ، فَأذِنَ لَهُ فَأتاهُ، فَحَدَّثَهُ بِكَرامَتِهِ عَلى اللَّهِ فَقالَ: يا أيُّها المَلَكُ أخْبِرْنِي كَمْ بَقِيَ مِن أجَلِي؛ لَعَلِّي أجْتَهِدُ لِلَّهِ في العَمَلِ، قالَ: يا إدْرِيسُ لا يَعْلَمُ هَذا إلّا اللَّهُ، قالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصْعَدَ بِي إلى السَّماءِ، فَأنْظُرَ في مُلْكِ اللَّهِ، فَأجْتَهِدَ لِلَّهِ في العَمَلِ ؟ قالَ: لا إلّا أنْ أتَشَفَّعَ، فَتَشَفَّعَ فَأُمِرَ بِهِ، فَحَمَلَهُ تَحْتَ جَناحِهِ فَصَعِدَ بِهِ، حَتّى إذا بَلَغَ السَّماءَ السّادِسَةَ اسْتَقْبَلَ مَلَكَ المَوْتِ نازِلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَقالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ، أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أقْبِضُ نَفْسَ إدْرِيسَ، قالَ: وأيْنَ أُمِرْتَ أنْ تَقْبِضَ نَفْسَهُ؟ قالَ: في السَّماءِ السّادِسَةِ، فَذَهَبَ المَلَكُ يَنْظُرُ إلى إدْرِيسَ، فَإذا هو بِرِجْلَيْهِ تَخْفِقانِ قَدْ ماتَ، فَوَضَعَهُ في السَّماءِ السّادِسَةِ. (p-٩٦)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب