الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ أوى الفِتْيَةُ﴾ أخْرَجَ اِبْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ قالَ: غَزَوْنا مَعَ مُعاوِيَةَ غَزْوَةَ المَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرَرْنا بِالكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أصْحابُ الكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ في القُرْآنِ، فَقالَ مُعاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنا عَنْ هَؤُلاءِ فَنَظَرْنا إلَيْهِمْ؟ فَقالَ لَهُ اِبْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، قَدْ مَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مَن هو خَيْرٌ مِنكَ، فَقالَ: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنهم فِرارًا ولَمُلِئْتَ مِنهم رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨] . فَقالَ مُعاوِيَةُ: لا أنْتَهِي حَتّى أعْلَمَ عِلْمَهم. فَبَعَثَ رِجالًا فَقالَ: اِذْهَبُوا فادْخُلُوا الكَهْفَ فانْظُرُوا. فَذَهَبُوا، فَلَمّا دَخَلُوا الكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأخْرَجَتْهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ اِبْنَ عَبّاسٍ فَأنْشَأ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ، فَقالَ: إنَّهم كانُوا في مَمْلَكَةِ مَلِكٍ مِنَ الجَبابِرَةِ، فَجَعَلُوا يَعْبُدُونَ حَتّى عَبَدُوا الأوْثانَ، وهَؤُلاءِ الفِتْيَةُ في (p-٤٩٦)المَدِينَةِ، فَلَمّا رَأوْا ذَلِكَ خَرَجُوا مِن تِلْكَ المَدِينَةِ، فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ عَلى غَيْرِ مِيعادٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهم يَقُولُ لِبَعْضٍ: أيْنَ تُرِيدُونَ؟ أيْنَ تَذْهَبُونَ؟ فَجَعَلَ بَعْضُهم يُخْفِي مِن بَعْضٍ؛ لِأنَّهُ لا يَدْرِي هَذا عَلامَ خَرَجَ هَذا، ولا يَدْرِي هَذا عَلامَ خَرَجَ هَذا، فَأخَذُوا العُهُودَ والمَواثِيقَ أنْ يُخْبِرَ بَعْضُهم بَعْضًا، فَإنِ اِجْتَمَعُوا عَلى شَيْءٍ وإلّا كَتَمَ بَعْضُهم بَعْضًا. فاجْتَمَعُوا عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَقالُوا: ﴿رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الكهف: ١٤] . إلى قَوْلِهِ: ﴿مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦] . قالَ: فَفُقِدُوا فَجاءَ أهْلُهم يَطْلُبُونَهم لا يَدْرُونَ أيْنَ ذَهَبُوا، فَرُفِعَ أمْرُهم إلى المَلِكِ فَقالَ: لَيَكُونَنَّ لِهَؤُلاءِ القَوْمِ بَعْدَ اليَوْمِ شَأْنٌ، ناسٌ خَرَجُوا لا يُدْرى أيْنَ ذَهَبُوا في غَيْرِ جِنايَةٍ ولا شَيْءٍ يُعْرَفُ. فَدَعا بِلَوْحٍ مِن رَصاصٍ فَكَتَبَ فِيهِ أسْماءَهم ثُمَّ طُرِحَ في خِزانَتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿أصْحابَ الكَهْفِ والرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] . والرَّقِيمُ هو اللَّوْحُ الَّذِي كَتَبُوا، فانْطَلَقُوا حَتّى دَخَلُوا الكَهْفَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلى آذانِهِمْ فَنامُوا، فَلَوْ أنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَيْهِمْ لَأحْرَقَتْهُمْ، ولَوْلا أنَّهم يُقَلَّبُونَ لَأكَلَتْهُمُ الأرْضُ، ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وتَرى الشَّمْسَ﴾ [الكهف: ١٧] الآيَةَ. قالَ: ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ المَلِكَ ذَهَبَ، وجاءَ مَلِكٌ آخَرُ فَعَبَدَ اللَّهَ وكَسَّرَ تِلْكَ الأوْثانَ، وعَدَلَ بَيْنَ النّاسِ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ لِما يُرِيدُ، فَقالَ (p-٤٩٧)قائِلٌ مِنهم: كَمْ لَبِثْتُمْ؟ فَقالَ بَعْضُهم: يَوْمًا. وقالَ بَعْضُهم: يَوْمَيْنِ. وقالَ بَعْضُهم: أكْثَرَ مِن ذَلِكَ. فَقالَ كَبِيرُهم: لا تَخْتَلِفُوا، فَإنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْمٌ قَطُّ إلّا هَلَكُوا، ﴿فابْعَثُوا أحَدَكم بِوَرِقِكم هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكم بِرِزْقٍ مِنهُ ولْيَتَلَطَّفْ﴾ [الكهف: ١٩] . يَعْنِي بِـ ﴿أزْكى﴾ [الكهف: ١٩] بِـ: أطْهَرَ؛ إنَّهم كانُوا يَذْبَحُونَ الخَنازِيرَ – قالَ: فَجاءَ إلى المَدِينَةِ فَرَأى شارَةً أنْكَرَها، ورَأى بُنْيانًا أنْكَرَهُ، ثُمَّ دَنا إلى خَبّازٍ فَرَمى إلَيْهِ بِدِرْهَمٍ، وكانَتْ دَراهِمُهم كَخِفافِ الرُّبَعِ - يَعْنِي ولَدَ النّاقَةِ - فَأنْكَرَ الخَبّازُ الدِّرْهَمَ فَقالَ: مِن أيْنَ لَكَ هَذا الدِّرْهَمُ؟ لَقَدْ وجَدْتَ كَنْزًا، لَتَدُلَّنِي عَلَيْهِ أوْ لَأرْفَعَنَّكَ إلى الأمِيرِ. فَقالَ: أتُخَوِّفُنِي. بِالأمِيرِ وأبِي دَهْقانُ الأمِيرِ؟ قالَ: مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ. فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقالَ: فَمَنِ المَلِكُ؟ قالَ: فُلانٌ. فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ النّاسُ، فَرُفِعَ إلى عامِلِهِمْ، فَسَألَهُ، فَأخْبَرَهُ، فَقالَ: عَلَيَّ بِاللَّوْحِ. فَجِيءَ بِهِ فَسَمّى أصْحابَهُ فُلانًا وفُلانًا، وهم مَكْتُوبُونَ في اللَّوْحِ، فَقالَ النّاسُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ دَلَّكم عَلى إخْوانِكم. وانْطَلَقُوا ورَكِبُوا حَتّى أتَوُا الكَهْفَ، فَلَمّا دَنَوْا مِنَ الكَهْفِ قالَ الفَتى: (p-٤٩٨)مَكانَكم أنْتُمْ، حَتّى أدْخُلَ أنا عَلى أصْحابِي، ولا تَهْجُمُوا فَيَفْزَعُوا مِنكم وهم لا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ قَدْ أقْبَلَ بِكم وتابَ عَلَيْكم. فَقالُوا: لَتَخْرُجَنَّ عَلَيْنا. قالَ: نَعَمْ، إنْ شاءَ اللَّهُ. فَدَخَلَ فَلَمْ يَدْرُوا أيْنَ ذَهَبَ، وعُمِّيَ عَلَيْهِمُ المَكانُ، فَطَلَبُوا وحَرَصُوا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، فَقالُوا: أكْرِمُوا إخْوانَكم. فَنَظَرُوا في أمْرِهِمْ فَقالُوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. فاِتَّخَذُوا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لَهم. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: كانَ أصْحابُ الكَهْفِ أبْناءَ مُلُوكٍ، رَزَقَهُمُ اللَّهُ الإسْلامَ، فَتَعَوَّذُوا بِدِينِهِمْ واعْتَزَلُوا قَوْمَهم حَتّى اِنْتَهَوْا إلى الكَهْفِ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلى صِماخاتِهِمْ، فَلَبِثُوا دَهْرًا طَوِيلًا حَتّى هَلَكَتْ أُمَّتُهُمْ، وجاءَتْ أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ، وكانَ مِلْكُهم مُسْلِمًا، واخْتَلَفُوا (p-٤٩٩)فِي الرُّوحِ والجَسَدِ؛ فَقالَ قائِلٌ: يُبْعَثُ الرُّوحُ والجَسَدُ جَمِيعًا. وقالَ قائِلٌ: يُبْعَثُ الرُّوحُ، فَأمّا الجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الأرْضُ ولا يَكُونُ شَيْئًا. فَشَقَّ عَلى مَلِكِهِمُ اِخْتِلافَهُمْ، فانْطَلَقَ فَلَبِسَ المُسُوحَ، وجَلَسَ عَلى الرَّمادِ، ثُمَّ دَعا اللَّهَ فَقالَ: أيْ رَبِّ، قَدْ تَرى اِخْتِلافَ هَؤُلاءِ، فابْعَثْ لَهم آيَةً تُبَيِّنُ لَهم. فَبَعَثَ اللَّهُ أصْحابَ الكَهْفِ، فَبَعَثُوا أحَدَهم لِيَشْتَرِيَ لَهم طَعامًا، فَدَخَلَ السُّوقَ، فَجَعَلَ يُنْكِرُ الوُجُوهَ ويَعْرِفُ الطُّرُقَ، ورَأى الإيمانَ ظاهِرًا بِالمَدِينَةِ، فانْطَلَقَ وهو مُسْتَخْفٍ حَتّى أتى رَجُلًا يَشْتَرِي مِنهُ طَعامًا، فَلَمّا نَظَرَ الرَّجُلُ إلى الوَرِقِ أنْكَرَها - حَسِبْتُ أنَّهُ قالَ: كَأنَّها أخْفافُ الرُّبَعِ. يَعْنِي الإبِلَ الصِّغارَ - فَقالَ الفَتى: ألَيْسَ مَلِكَكم فُلانٌ؟ فَقالَ الرَّجُلُ: بَلْ مَلِكُنا فُلانٌ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بَيْنَهُما حَتّى رَفَعَهُ إلى المَلِكِ، فَنادى في النّاسِ فَجَمَعَهم فَقالَ: إنَّكُمُ اِخْتَلَفْتُمْ في الرَّوْحِ والجَسَدِ، وإنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكم آيَةً، فَهَذا الرَّجُلُ مِن قَوْمِ فُلانٍ. يَعْنِي مَلِكَهُمُ الَّذِي قَبْلَهُ. فَقالَ الفَتى: اِنْطَلِقُوا بِي إلى أصْحابِي. فَرَكِبَ المَلِكُ ورَكِبَ مَعَهُ النّاسُ، حَتّى اِنْتَهى إلى الكَهْفِ، فَقالَ الفَتى: دَعُونِي أدْخُلُ إلى أصْحابِي. فَلَمّا أبْصَرُوهُ وأبْصَرَهم ضُرِبَ عَلى آذانِهِمْ، فَلَمّا اِسْتَبْطَئُوهُ دَخَلَ المَلِكُ ودَخَلَ النّاسُ مَعَهُ، فَإذا (p-٥٠٠)أجْسادٌ لا يُنْكِرُ مِنها شَيْئًا غَيْرَ أنَّها لا أرْواحَ فِيها. فَقالَ المَلِكُ: هَذِهِ آيَةٌ بَعَثَها اللَّهُ لَكم. فَغَزا اِبْنُ عَبّاسٍ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِالكَهْفِ فَإذا فِيهِ عِظامٌ، فَقالَ رَجُلٌ: هَذِهِ عِظامُ أهْلِ الكَهْفِ. فَقالَ اِبْنُ عَبّاسٍ: لَقَدْ ذَهَبَتْ عِظامُهم مُنْذُ أكْثَرَ مِن ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: كانَ أصْحابُ الكَهْفِ أبْناءَ عُظَماءِ أهْلِ مَدِينَتِهِمْ وأهْلِ شَرَفِهِمْ، خَرَجُوا فاجْتَمَعُوا وراءَ المَدِينَةِ عَلى غَيْرِ مِيعادٍ، فَقالَ رَجُلٌ مِنهم هو أشْبَهُهم: إنِّي لَأجِدُ في نَفْسِي شَيْئًا ما أظُنُّ أحَدًا يَجِدُهُ. قالُوا: ما تَجِدُ؟ قالَ: أجِدُ في نَفْسِي أنَّ رَبِّي رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ. فَقامُوا جَمِيعًا فَقالُوا: ﴿رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] . وكانَ مَعَ ذَلِكَ مِن حَدِيثِهِمْ وأمْرِهِمْ ما قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ في القُرْآنِ، فَأجْمَعُوا أنْ يَدْخُلُوا الكَهْفَ، وعَلى مَدِينَتِهِمْ إذْ ذاكَ جَبّارٌ يُقالُ لَهُ: دَقْيُوسُ. فَلَبِثُوا في الكَهْفِ ما شاءَ اللَّهُ رُقُودًا، ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، فَبَعَثُوا أحَدَهم لِيَبْتاعَ لَهم طَعامًا، فَلِما خَرَجَ إذا هم بِحَظِيرَةٍ عَلى بابِ الكَهْفِ، فَقالَ: ما كانَتْ هَذِهِ هَهُنا عَشِيَّةَ أمْسِ. [١٦٧ظ] فَسَمِعَ كَلامًا مِن كَلامِ المُسْلِمِينَ يَذْكُرُ اللَّهَ، وكانَ النّاسُ قَدْ أسْلَمُوا بَعْدَهم ومَلَكَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ صالِحٌ، فَظَنَّ أنَّهُ أخْطَأ (p-٥٠١)الطَّرِيقَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى مَدِينَتِهِ الَّتِي خَرَجَ مِنها وإلى مَدِينَتَيْنِ وِجاهَها، أسْماؤُهُنَّ: أُفْسُوسُ، وأيْدِبُوسُ، وشامُوسُ. فَيَقُولُ: ما أخْطَأْتُ الطَّرِيقَ؛ هَذِهِ أُفْسُوسُ وأيْدِبُوسُ وشامُوسُ.، فَعَمَدَ إلى مَدِينَتِهِ الَّتِي خَرَجَ مِنها، ثُمَّ عَمَدَ حَتّى جاءَ السُّوقَ، فَوَضَعَ ورِقَهُ في يَدِ رَجُلٍ، فَنَظَرَ فَإذا ورِقٌ لَيْسَتْ بِوَرِقِ النّاسِ، فانْطَلِقْ بِهِ إلى المَلِكِ وهو خائِفٌ، فَسَألَهُ وقالَ: لَعَلَّ هَذا مِنَ الفِتْيَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلى عَهْدِ دِقْيُوسَ، فَإنِّي قَدْ كُنْتُ أدْعُو اللَّهَ أنْ يُرِيَنِيهِمْ وأنْ يُعْلِمَنِي مَكانَهم. ودَعا مَشْيَخَةَ أهْلِ القَرْيَةِ، وكانَ رَجُلٌ مِنهم قَدْ كانَ عِنْدَهُ أسْماؤُهم وأنْسابُهُمْ، فَسَألَهم فَأخْبَرُوهُ، فَسَألَ الفَتى فَقالَ: صَدَقَ. وانْطَلَقَ المَلِكُ وأهْلُ المَدِينَةِ مَعَهُ لِأنْ يَدُلَّهم عَلى أصْحابِهِ، حَتّى إذا دَنَوْا مِنَ الكَهْفِ سَمِعَ الفِتْيَةُ حِسَّ النّاسِ فَقالُوا: أُتِيتُمْ، ظُهِرَ عَلى صاحِبِكم. فاعْتَنَقَ بَعْضُهم بَعْضًا، وجَعَلَ يُوصِي بَعْضُهم بَعْضًا بِدِينِهِمْ، فَلَمّا دَنا الفَتى مِنهم أرْسَلُوهُ، فَلَمّا قَدِمَ إلى أصْحابِهِ ماتُوا عِنْدَ ذَلِكَ مِيتَةَ الحَقِّ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِمُ المَلِكُ شَقَّ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَقْدِرْ (p-٥٠٢)عَلَيْهِمْ أحْياءً، وقالَ: لَأدْفِنَنَّهم إذَ فاتُونِي في صُنْدُوقٍ مِن ذَهَبٍ. فَأتاهُ آتٍ مِنهم في المَنامِ فَقالَ: أرَدْتَ أنْ تَجْعَلَنا في صُنْدُوقٍ مِن ذَهَبٍ، فَلا تَفْعَلْ. ودَعْنا في كَهْفِنا، فَمِنَ التُّرابِ خُلِقْنا وإلَيْهِ نَعُودُ. فَتَرَكَهم في كَهْفِهِمْ، وبَنى عَلى كَهْفِهِمْ مَسْجِدًا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قالَ: جاءَ رَجُلٌ مِن حَوارِيِّي عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مَدِينَةِ أصْحابِ الكَهْفِ، فَأرادَ أنْ يَدْخُلَها فَقِيلَ: عَلى بابِها صَنَمٌ، لا يَدْخُلُها أحَدٌ إلّا سَجَدَ لَهُ. فَكَرِهَ أنْ يَدْخُلَ، فَأتى حَمّامًا فَكانَ فِيهِ قَرِيبًا مِن تِلْكَ المَدِينَةِ، وكانَ يَعْمَلُ فِيهِ، يُؤاجِرُ نَفْسَهُ مِن صاحِبِ الحَمّامِ، ورَأى صاحِبُ الحَمّامِ في حَمّامِهِ البَرَكَةَ والرِّزْقَ، وجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إلَيْهِ، وعَلِقَهُ فَتْيَةٌ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهم عَنْ خَبَرِ السَّماءِ والأرْضِ وخَبَرِ الآخِرَةِ حَتّى آمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوهُ، وكانُوا عَلى مِثْلِ حالِهِ في حُسْنِ الهَيْئَةِ، وكانَ يَشْتَرِطُ عَلى صاحِبِ الحَمّامِ: أنَّ اللَّيْلَ لِي، ولا تَحُولُ بَيْنِي وبَيْنَ الصَّلاةِ إذا حَضَرَتْ. حَتّى جاءَ اِبْنُ المَلِكِ بِاِمْرَأةٍ يَدْخُلُ بِها الحَمّامَ، فَعَيَّرَهُ الحِوارِيُّ فَقالَ: أنْتَ اِبْنُ المَلِكِ وتَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ الكَذا الكَذا!، فاسْتَحْيا فَذَهَبَ، فَرَجَعَ مَرَّةً (p-٥٠٣)أُخْرى فَسَبَّهُ وانْتَهَرَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ، حَتّى دَخَلَ ودَخَلَتْ مَعَهُ المَرْأةُ، فَباتا في الحَمّامِ جَمِيعًا فَماتا فِيهِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ اِبْنَكَ صاحِبُ الحَمّامِ. فالتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وهَرَبَ مَن كانَ يَصْحَبُهُ، فَسَمَّوُا الفِتْيَةَ، فالتُمِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ المَدِينَةِ، فَمَرُّوا بِصاحِبٍ لَهم في زَرْعٍ لَهُ، وهو عَلى مِثْلِ أمْرِهِمْ، فَذَكَرُوا لَهُ أنَّهُمُ اِلْتُمِسُوا، فانْطَلَقَ مَعَهم ومَعَهُ كَلْبٌ، حَتّى آواهُمُ اللَّيْلُ إلى كَهْفٍ فَدَخَلُوا فِيهِ، فَقالُوا: نَبِيتُ هَهُنا اللَّيْلَةَ حَتّى نُصْبِحَ إنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَرَوْا رَأْيَكم. فَضُرِبَ عَلى آذانِهِمْ، فَخَرَجَ المَلِكُ بِأصْحابِهِ يَتَّبِعُونَهم حَتّى وجَدُوهم قَدْ دَخَلُوا الكَهْفَ، فَكُلَّما أرادَ الرَّجُلُ مِنهم أنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ فَلَمْ يُطِقْ أحَدٌ أنْ يَدْخُلَهُ، فَقالَ لَهُ قائِلٌ: ألَسْتَ قُلْتَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِمْ قَتَلْتُهُمْ؟ قالَ: بَلى. قالَ: فابْنِ عَلَيْهِمْ بابَ الكَهْفِ، ودَعْهم يَمُوتُوا عَطَشًا وجُوعًا. فَفَعَلَ، ثُمَّ غَبَرُوا زَمانًا، ثُمَّ إنَّ راعِيَ غَنَمٍ أدْرَكَهُ المَطَرُ عِنْدَ الكَهْفِ فَقالَ: لَوْ فَتَحْتُ هَذا الكَهْفَ وأدْخَلْتُ غَنَمِي مِنَ المَطَرِ. فَلَمْ يَزَلْ يُعالِجُهُ حَتّى فَتَحَ لِغَنَمِهِ فَأدْخَلَها فِيهِ، ورَدَّ اللَّهُ أرْواحَهم في أجْسادِهِمْ مِنَ الغَدِ حِينَ أصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أحَدَهم بِوَرِقٍ لِيَشْتَرِيَ لَهم طَعامًا، فَكُلَّما أتى بابَ مَدِينَتِهِمْ لا يَرى أحَدٌ مِن ورَقِهِمْ شَيْئًا إلّا اِسْتَنْكَرَها، حَتّى جاءَ رَجُلًا فَقالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّراهِمِ طَعامًا. فَقالَ: ومِن أيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّراهِمُ؟ (p-٥٠٤)قالَ: إنِّي رُحْتُ أنا وأصْحابِي أمْسِ، فَأتى اللَّيْلُ ثُمَّ أصْبَحْنا فَأرْسِلُونِي. قالَ: فَهَذِهِ الدَّراهِمُ كانَتْ عَلى عَهْدِ مُلْكِ فُلانٍ، فَأنّى لَكَ هَذِهِ الدَّراهِمُ؟ فَرَفَعَهُ إلى المَلِكِ وكانَ رَجُلًا صالِحًا فَقالَ: ومِن أيْنَ لَكَ هَذِهِ الوَرِقُ؟ قالَ: خَرَجْتُ أنا وأصْحابٌ لِي أمْسِ، حَتّى أدْرَكَنا اللَّيْلُ في كَهْفِ كَذا وكَذا، ثُمَّ أمَرُونِي أنْ أشْتَرِيَ لَهم طَعامًا. قالَ: وأيْنَ أصْحابُكَ؟ قالَ: في الكَهْفِ. فانْطَلَقَ مَعَهُ حَتّى أتَوْا بابَ الكَهْفِ فَقالَ: دَعُونِي أدْخُلُ إلى أصْحابِي قَبْلَكم. فَلَمّا رَأوْهُ ودَنا مِنهُمْ، ضُرِبَ عَلى أُذُنِهِ وآذانِهِمْ، فَأرادُوا أنْ يَدْخُلُوا، فَجَعَلَ كُلَّما دَخَلَ رَجُلٌ مِنهم رَعَبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أنْ يَدْخُلُوا إلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهم مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ. وأخْرَجَ اِبْنُ مَرْدُويَهْ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”أصْحابُ الكَهْفِ أعْوانُ المَهْدِيِّ“» . وأخْرَجَ الزَّجّاجِيُّ في ”أمالِيهِ“ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ والرَّقِيمِ﴾ [الكهف: ٩] . قالَ: إنَّ الفِتْيَةَ لَمّا هَرَبُوا مِن أهْلِيهِمْ خَوْفًا عَلى دِينِهِمْ فَقَدُوهُمْ، فَخَبَّرُوا المَلِكَ خَبَرَهُمْ، فَأمَرَ بِلَوْحٍ مِن رَصاصٍ فَكُتِبَ فِيهِ أسْماؤُهم وألْقاهُ في خِزانَتِهِ وقالَ: إنَّهُ سَيَكُونُ لَهم شَأْنٌ. وذَلِكَ اللَّوْحُ هو (p-٥٠٥)الرَّقِيمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب