الباحث القرآني

﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ لَمّا افْتَتَحَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِشَرْحِ حالِ الكِتابِ وساقَ لِبَيانِهِ، ذَكَرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ تَعالى وواطَأتْ فِيهِ قُلُوبُهم ألْسِنَتَهُمْ، وثَنّى بِأضْدادِهِمُ الَّذِينَ مَحَضُوا الكُفْرَ ظاهِرًا وباطِنًا ولَمْ يَلْتَفِتُوا لَفْتَةً رَأْسًا، ثَلَّثَ بِالقِسْمِ الثّالِثِ المُذَبْذَبِ بَيْنَ القِسْمَيْنِ، وهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِأفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهم تَكْمِيلًا لِلتَّقْسِيمِ، وهم أخْبَثُ الكَفَرَةِ وأبْغَضُهم إلى اللَّهِ لِأنَّهم مَوَّهُوا الكُفْرَ وخَلَطُوا بِهِ خِداعًا واسْتِهْزاءً، ولِذَلِكَ طَوَّلَ في بَيانِ خُبْثِهِمْ وجَهْلِهِمْ واسْتَهْزَأ بِهِمْ، وتَهَكَّمَ بِأفْعالِهِمْ وسَجَلَ عَلى عَمَهِهِمْ وطُغْيانِهِمْ، وضَرَبَ لَهُمُ الأمْثالَ وأنْزَلَ فِيهِمْ ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ وقِصَّتُهم عَنْ آخِرِها مَعْطُوفَةٌ عَلى قِصَّةِ المُصِرِّينَ. والنّاسُ أصْلُهُ أُناسٌ لِقَوْلِهِمْ: إنْسانٌ وأنَسٌ وأناسِيٌّ فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ حَذْفَها في لَوَقَةٍ وعُوِّضَ عَنْها حَرْفُ التَّعْرِيفِ ولِذَلِكَ لا يَكادُ يُجْمَعُ بَيْنَهُما. وقَوْلُهُ: (p-44)إنَّ المَنايا يَطَّلِعْنَ عَلى الإناسِ الآمِنِينا شاذٌّ. وهو اسْمُ جَمْعٍ كَرِجالٍ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ فَعالٌ في أبْنِيَةِ الجَمْعِ. مَأْخُوذٌ مِن أنِسَ لِأنَّهم يَسْتَأْنِسُونَ بِأمْثالِهِمْ. أوْ آنَسَ لِأنَّهم ظاهِرُونَ مُبْصِرُونَ، ولِذَلِكَ سُمُّوا بَشَرًا كَما سُمِّيَ الجِنُّ جِنًّا لِاجْتِنابِهِمْ. واللّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، ومِن مَوْصُوفَةٌ إذْ لا عَهْدَ فَكَأنَّهُ قالَ: ومِنَ النّاسِ ناسٌ يَقُولُونَ. أوْ لِلْعَهْدِ والمَعْهُودِ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ومَن مَوْصُولَةٌ مُرادٌ بِها ابْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ ونُظَراؤُهُ، فَإنَّهم مِن حَيْثُ إنَّهم صَمَّمُوا عَلى النِّفاقِ دَخَلُوا في عِدادِ الكُفّارِ المَخْتُومِ عَلى قُلُوبِهِمْ، واخْتِصاصُهم بِزِياداتٍ زادُوها عَلى الكُفْرِ لا يَأْبى دُخُولَهم تَحْتَ هَذا الجِنْسِ، فَإنَّ الأجْناسَ إنَّما تَتَنَوَّعُ بِزِياداتٍ يَخْتَلِفُ فِيها أبْعاضُها فَعَلى هَذا تَكُونُ الآيَةُ تَقْسِيمًا لِلْقِسْمِ الثّانِي. واخْتِصاصُ الإيمانِ بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ بِالذِّكْرِ تَخْصِيصٌ لِما هو المَقْصُودُ الأعْظَمُ مِنَ الإيمانِ وادِّعاءٌ بِأنَّهُمُ احْتازُوا الإيمانَ مِن جانِبَيْهِ وأحاطُوا بِقُطْرَيْهِ، وإيذانٌ بِأنَّهم مُنافِقُونَ فِيما يَظُنُّونَ أنَّهم مُخْلِصُونَ فِيهِ، فَكَيْفَ بِما يَقْصِدُونَ بِهِ النِّفاقَ، لِأنَّ القَوْمَ كانُوا يَهُودًا وكانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ إيمانًا كَلا إيمانٍ، لِاعْتِقادِهِمُ التَّشْبِيهَ واتِّخاذَ الوَلَدِ، وأنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها غَيْرُهُمْ، وأنَّ النّارَ لا تَمَسُّهم إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً وغَيْرَها، ويَرَوْنَ المُؤْمِنِينَ أنَّهم آمَنُوا مِثْلَ إيمانِهِمْ. وبَيانٌ لِتَضاعُفِ خُبْثِهِمْ وإفْراطِهِمْ في كُفْرِهِمْ، لِأنَّ ما قالُوهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهم لا عَلى وجْهِ الخِداعِ والنِّفاقِ وعَقِيدَتُهم عَقِيدَتُهم لَمْ يَكُنْ إيمانًا، فَكَيْفَ وقَدْ قالُوهُ تَمْوِيهًا عَلى المُسْلِمِينَ وتَهَكُّمًا بِهِمْ. وفي تَكْرارِ الباءِ ادِّعاءُ الإيمانِ بِكُلِّ واحِدٍ عَلى الأصالَةِ والِاسْتِحْكامِ. والقَوْلُ هو التَّلَفُّظُ بِما يُفِيدُ، ويُقالُ بِمَعْنى المَقُولِ، ولِلْمَعْنى المُتَصَوَّرِ في النَّفْسِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّفْظِ ولِلرَّأْيِ والمَذْهَبِ مَجازًا. والمُرادُ بِاليَوْمِ الآخِرِ مِن وقْتِ الحَشْرِ إلى ما لا يَنْتَهِي. أوْ إلى أنْ يَدْخُلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ لِأنَّهُ آخِرُ الأوْقاتِ المَحْدُودَةِ. ﴿وَما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ إنْكارُ ما ادَّعَوْهُ ونَفْيُ ما انْتَحَلُوا إثْباتَهُ، وكانَ أصْلُهُ وما آمَنُوا لِيُطابِقَ قَوْلَهم في التَّصْرِيحِ بِشَأْنِ الفِعْلِ دُونَ الفاعِلِ لَكِنَّهُ عَكَسَ تَأْكِيدًا. أوْ مُبالَغَةً في التَّكْذِيبِ، لِأنَّ إخْراجَ ذَواتِهِمْ مِن عِدادِ المُؤْمِنِينَ أبْلَغُ مِن نَفْيِ الإيمانِ عَنْهم في ماضِي الزَّمانِ، ولِذَلِكَ أكَّدَ النَّفْيَ بِالباءِ وأطْلَقَ الإيمانَ عَلى مَعْنى أنَّهم لَيْسُوا مِنَ الإيمانِ في شَيْءٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقَيَّدَ بِما قُيِّدُوا بِهِ لِأنَّهُ جَوابُهُ. والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَنِ ادَّعى الإيمانَ وخالَفَ قَلْبُهُ لِسانَهُ بِالِاعْتِقادِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، لِأنَّ مَن تَفَوَّهَ بِالشَّهادَتَيْنِ فارِغَ القَلْبِ عَمّا يُوافِقُهُ أوْ يُنافِيهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. والخِلافُ مَعَ الكَرامِيَّةِ في الثّانِي فَلا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب