الباحث القرآني

(p-41)﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لَمّا ذَكَرَ خاصَّةَ عِبادِهِ، وخُلاصَةَ أوْلِيائِهِ بِصِفاتِهِمُ الَّتِي أهَّلَتْهم لِلْهُدى والفَلاحِ، عَقَّبَهم بِأضْدادِهِمُ العُتاةِ المَرَدَةِ، الَّذِينَ لا يَنْفَعُ فِيهِمُ الهُدى ولا تُغْنِي عَنْهُمُ الآياتُ والنُّذُرُ، ولَمْ يَعْطِفْ قِصَّتَهم عَلى قِصَّةِ المُؤْمِنِينَ كَما عَطَفَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وَإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ لِتَبايُنِهِما في الغَرَضِ، فَإنَّ الأُولى سِيقَتْ لِذِكْرِ الكِتابِ وبَيانِ شَأْنِهِ والأُخْرى مَسُوقَةٌ لِشَرْحِ تَمَرُّدِهِمْ، وانْهِماكِهِمْ في الضَّلالِ، و (إنَّ) مِنَ الحُرُوفِ الَّتِي تُشابِهُ الفِعْلَ في عَدَدِ الحُرُوفِ والبِناءِ عَلى الفَتْحِ ولُزُومِ الأسْماءِ وإعْطاءِ مَعانِيهِ، والمُتَعَدِّي خاصَّةً في دُخُولِها عَلى اسْمَيْنِ. ولِذَلِكَ أعْمَلَتْ عَمَلَهُ الفَرْعِيَّ وهو نَصْبُ الجُزْءِ الأوَّلِ ورَفْعِ الثّانِي إيذانًا بِأنَّهُ فَرْعٌ في العَمَلِ دَخِيلٌ فِيهِ. وَقالَ الكُوفِيُّونَ: الخَبَرُ قَبْلَ دُخُولِها كانَ مَرْفُوعًا بِالخَبَرِيَّةِ، وهي بَعْدُ باقِيَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلرَّفْعِ قَضِيَّةٌ لِلِاسْتِصْحابِ فَلا يَرْفَعُهُ الحَرْفُ. وأُجِيبُ بِأنَّ اقْتِضاءَ الخَبَرِيَّةِ الرَّفْعَ مَشْرُوطٌ بِالتَّجَرُّدِ لِتَخَلُّفِهِ عَنْها في خَبَرِ كانَ، وقَدْ زالَ بِدُخُولِها فَتَعَيَّنَ إعْمالُ الحَرْفِ. وفائِدَتُها تَأْكِيدُ النِّسْبَةِ وتَحْقِيقُها، ولِذَلِكَ يُتَلَقّى بِها القَسَمُ ويَصْدُرُ بِها الأجْوِبَةُ، وتُذْكَرُ في مَعْرِضِ الشَّكِّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ﴾، ﴿وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ المُبَرِّدُ (قَوْلُكَ: عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ) إخْبارٌ عَنْ قِيامِهِ، وإنَّ عَبْدَ اللَّهِ قائِمٌ، جَوابُ سائِلٍ عَنْ قِيامِهِ، وإنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقائِمٌ، جَوابُ مُنْكِرٍ لِقِيامِهِ. وَتَعْرِيفُ المَوْصُولِ: إمّا لِلْعَهْدِ، والمُرادُ بِهِ ناسٌ بِأعْيانِهِمْ كَأبِي لَهَبٍ، وأبِي جَهْلٍ، والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأحْبارِ اليَهُودِ. أوْ لِلْجِنْسِ، مُتَناوِلًا مَن صَمَّمَ عَلى الكُفْرِ، وغَيْرَهم. فَخَصَّ مِنهم غَيْرَ المُصِرِّينَ بِما أُسْنِدَ إلَيْهِ. والكُفْرُ لُغَةً: سَتْرُ النِّعْمَةِ، وأصْلُهُ الكَفْرُ بِالفَتْحِ وهو السَّتْرُ، ومِنهُ قِيلَ لِلزّارِعِ ولِلَّيْلِ كافِرٌ، ولِكِمامِ الثَّمَرَةِ كافُورٌ. وفي الشَّرْعِ: إنْكارُ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ، وإنَّما عُدَّ لُبْسُ الغِيارِ وشَدُّ الزُّنّارِ ونَحْوُهُما كُفْرًا لِأنَّها تَدُلُّ عَلى التَّكْذِيبِ، فَإنَّ مَن صَدَّقَ الرَّسُولَ ﷺ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْها ظاهِرًا لا لِأنَّها كُفْرٌ في أنْفُسِها. واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِما جاءَ في القُرْآنِ بِلَفْظِ الماضِي عَلى حُدُوثِهِ لِاسْتِدْعائِهِ سابِقَةَ المُخْبِرِ عَنْهُ، وأُجِيبُ بِأنَّهُ مُقْتَضى التَّعَلُّقِ وحُدُوثُهُ لا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الكَلامِ كَما في العِلْمِ. ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ خَبَرُ إنَّ وسَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ، نُعِتَ بِهِ كَما نُعِتَ بِالمَصادِرِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ رُفِعَ بِأنَّهُ خَبَرُ إنَّ وما بَعْدَهُ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ، أوْ بِأنَّهُ خَبَرٌ لِما بَعْدَهُ بِمَعْنى: إنْذارُكَ وعَدَمُهُ سِيّانِ عَلَيْهِمْ، والفِعْلُ إنَّما يَمْتَنِعُ الإخْبارُ عَنْهُ إذا أُرِيدَ بِهِ تَمامُ ما وُضِعَ لَهُ، أمّا لَوْ أُطْلِقُ وأُرِيدُ بِهِ اللَّفْظُ، أوْ مُطْلَقُ الحَدَثِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا عَلى الِاتِّساعِ فَهو كالِاسْمِ في الإضافَةِ والإسْنادِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا﴾ وقَوْلِهِ: ﴿الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ وقَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ. وَإنَّما عَدَلَ هاهُنا عَنِ المَصْدَرِ إلى الفِعْلِ لِما فِيهِ مِن إيهامِ التَّجَدُّدِ وحُسْنِ دُخُولِ الهَمْزَةِ، وأمْ عَلَيْهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنى الِاسْتِواءِ وتَأْكِيدِهِ، فَإنَّهُما جُرِّدَتا عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِواءِ، كَما جُرِّدَتْ حُرُوفُ النِّداءِ عَنِ الطَّلَبِ لِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ في قَوْلِهِمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ. والإنْذارُ: التَّخْوِيفُ أُرِيدَ بِهِ التَّخْوِيفُ مِن عَذابِ اللَّهِ، وإنَّما اقْتَصَرَ عَلَيْهِ دُونَ البِشارَةِ لِأنَّهُ أوْقَعُ في القَلْبِ وأشَدُّ تَأْثِيرًا في النَّفْسِ، مِن حَيْثُ إنَّ دَفْعَ الضُّرِّ أهَمُّ مِن جَلْبِ النَّفْعِ، فَإذا لَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ كانَتِ البِشارَةُ بِعَدَمِ النَّفْعِ أوْلى، وقُرِئَ ﴿أأنْذَرْتَهُمْ﴾ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ وتَخْفِيفِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وقَلْبِها ألِفًا وهو لَحْنٌ لِأنَّ المُتَحَرِّكَةَ لا تُقْلَبُ، ولِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى جَمْعِ السّاكِنَيْنٍ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ، وبِتَوْسِيطِ ألِفٍ بَيْنَهُما مُحَقَّقَتَيْنِ، وبِتَوْسِيطِها والثّانِيَةِ بَيْنَ (بَيْنَ) وبِحَذْفِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ، وبِحَذْفِها وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى السّاكِنِ قَبْلَها. ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِإجْمالِ ما قَبْلَها فِيما فِيهِ الِاسْتِواءُ فَلا مَحَلَّ لَها أوْ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ. أوْ بَدَلٌ عَنْهُ. أوْ خَبَرُ إنَّ والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ بِما هو عِلَّةُ الحُكْمِ. (p-42)والآيَةُ مِمّا احْتَجَّ بِهِ مَن جَوَّزَ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ وأمَرَهم بِالإيمانِ، فَلَوْ آمَنُوا انْقَلَبَ خَبَرُهُ كَذِبًا. وشَمَلَ إيمانُهُمُ الإيمانَ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ فَيَجْتَمِعُ الضِّدّانِ، والحَقُّ أنَّ التَّكْلِيفَ بِالمُمْتَنِعِ لِذاتِهِ وإنْ جازَ عَقْلًا مِن حَيْثُ إنَّ الأحْكامَ لا تَسْتَدْعِي غَرَضًا سِيَّما الِامْتِثالَ، لَكِنَّهُ غَيْرُ واقِعٍ لِلِاسْتِقْراءِ، والإخْبارُ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أوْ عَدَمِهِ لا يَنْفِي القُدْرَةَ عَلَيْهِ كَإخْبارِهِ تَعالى عَمّا يَفْعَلُهُ هو أوِ العَبْدُ بِاخْتِيارِهِ، وفائِدَةُ الإنْذارِ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا يَنْجَعُ إلْزامُ الحُجَّةِ، وحِيازَةُ الرَّسُولِ فَضْلَ الإبْلاغِ، ولِذَلِكَ قالَ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: سَواءٌ عَلَيْكَ. كَما قالَ لِعَبَدَةِ الأصْنامِ ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ . وَفِي الآيَةِ إخْبارٌ بِالغَيْبِ عَلى ما هو بِهِ إنْ أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ أشْخاصٌ بِأعْيانِهِمْ فَهي مِنَ المُعْجِزاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب