الباحث القرآني
(p-57)﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ لَمّا قَرَّرَ وحْدانِيَّتَهُ تَعالى وبَيَّنَ الطَّرِيقَ المُوصِلَ إلى العِلْمِ بِها، ذَكَرَ عَقِيبَهُ ما هو الحُجَّةُ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وهو القُرْآنُ المُعْجِزُ بِفَصاحَتِهِ الَّتِي بَذَّتْ فَصاحَةَ كُلِّ مِنطِيقٍ وإفْحامِهِ مَن طُولِبَ بِمُعارَضَتِهِ مِن مَصاقِعِ الخُطَباءِ مِنَ العَرَبِ العَرْباءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وإفْراطِهِمْ في المُضادَّةِ والمُضارَّةِ، وتَهالُكِهِمْ عَلى المَعازَّةِ والمَعارَّةِ، وعَرَّفَ ما يُتَعَرَّفُ بِهِ إعْجازُهُ ويُتَيَقَّنُ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ كَما يَدَّعِيهِ.
وَإنَّما قالَ: ﴿مِمّا نَزَّلْنا﴾ لِأنَّ نُزُولَهُ نَجْمًا مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الوَقائِعِ عَلى ما تَرى عَلَيْهِ أهْلَ الشِّعْرِ والخَطابَةِ مِمّا يُرِيبُهُمْ، كَما حَكى اللَّهُ عَنْهم فَقالَ ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ . فَكانَ الواجِبُ تَحَدِّيَهم عَلى هَذا الوَجْهِ إزاحَةً لِلشُّبْهَةِ وإلْزامًا لِلْحُجَّةِ، وأضافَ العَبْدُ إلى نَفْسِهِ تَعالى تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ مُنْقادٌ لِحُكْمِهِ تَعالى، وقُرِئَ « عِبادِنا» يُرِيدُ مُحَمَّدًا ﷺ وأُمَّتَهُ. والسُّورَةُ الطّائِفَةُ مِنَ القُرْآنِ المُتَرْجَمَةُ الَّتِي أقَلُّها ثَلاثُ آياتٍ، وهي إنْ جُعِلَتْ واوُها أصْلِيَّةً مَنقُولَةً مِن سُوَرِ المَدِينَةِ لِأنَّها مُحِيطَةٌ بِطائِفَةٍ مِنَ القُرْآنِ مُفْرِزَةٍ مُحْوِزَةٍ عَلى حِيالِها، أوْ مُحْتَوِيَةٌ عَلى أنْواعٍ مِنَ العِلْمِ احْتِواءَ سُوَرِ المَدِينَةِ عَلى ما فِيها، أوْ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي هي الرُّتْبَةُ، قالَ النّابِغَةُ:
؎ ولِرَهْطِ حَرّابٍ وقَدٍّ سُورَةٌ... في المَجْدِ لَيْسَ غُرابُها بِمُطارِ
لِأنَّ السُّوَرَ كالمَنازِلِ والمَراتِبِ يَتَرَقّى فِيها القارِئُ، أوَّلُها مَراتِبُ في الطُّولِ والقِصَرِ والفَضْلِ والشَّرَفِ وثَوابِ القِراءَةِ. وإنْ جُعِلَتْ مُبْدَلَةً مِنَ الهَمْزَةِ فَمِنَ السُّورَةِ الَّتِي هي البَقِيَّةُ والقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. والحِكْمَةُ في تَقْطِيعِ القُرْآنِ سُوَرًا: إفْرادُ الأنْواعِ، وتَلاحُقُ الأشْكالِ، وتَجاوُبُ النَّظْمِ، وتَنْشِيطُ القارِئِ، وتَسْهِيلُ الحِفْظِ، والتَّرْغِيبُ فِيهِ. فَإنَّهُ إذا خَتَمَ سُورَةً نَفَّسَ ذَلِكَ عَنْهُ، كالمُسافِرِ إذا عَلِمَ أنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أوْ طَوى بَرِيدًا، والحافِظُ مَتى حَذَفَها اعْتَقَدَ أنَّهُ أخَذَ مِنَ القُرْآنِ حَظًّا تامًّا، وفازَ بِطائِفَةٍ مَحْدُودَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِها، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وابْتَهَجَ بِهِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفَوائِدِ.
﴿مِن مِثْلِهِ﴾ صِفَةُ سُورَةٍ أيْ: بِسُورَةٍ كائِنَةٍ مِن مِثْلِهِ، والضَّمِيرُ لِما نَزَلْنا، و ﴿مِن﴾ لِلتَّبْعِيضِ أوْ لِلتَّبْيِينِ. وزائِدَةٌ عِنْدَ الأخْفَشِ أيْ بِسُورَةٍ مُماثِلَةٍ لِلْقُرْآنِ العَظِيمِ في البَلاغَةِ وحُسْنِ النَّظْمِ. أوْ لِعَبْدِنا، و ﴿مِن﴾ لِلِابْتِداءِ أيْ: بِسُورَةٍ كائِنَةٍ مِمَّنْ هو عَلى حالِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن كَوْنِهِ بَشَرًا أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الكُتُبَ ولَمْ يَتَعَلَّمِ العُلُومَ.
أوْ صِلَةُ ﴿فَأْتُوا﴾، والضَّمِيرُ لِلْعَبْدِ ﷺ، والرَّدُّ إلى المُنْزِلِ أوْجَهُ لِأنَّهُ المُطابِقُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ ولِسائِرِ آياتِ التَّحَدِّي، ولِأنَّ الكَلامَ فِيهِ لا في المُنَزَّلِ عَلَيْهِ فَحَقُّهُ أنْ لا يَنْفَكَّ عَنْهُ لِيَتَّسِقَ التَّرْتِيبُ والنَّظْمُ، ولِأنَّ مُخاطَبَةَ الجَمِّ الغَفِيرِ بِأنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ ما أتى بِهِ واحِدٌ مِن أبْناءِ جِلْدَتِهِمْ أبْلَغُ في التَّحَدِّي مِن أنْ يُقالَ لَهُمْ: لِيَأْتِ بِنَحْوِ ما أتى بِهِ هَذا آخَرُ مِثْلَهُ، ولِأنَّهُ مُعْجِزٌ في نَفْسِهِ لا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ . ولِأنَّ رَدَّهُ إلى عَبْدِنا يُوهِمُ إمْكانَ صُدُورِهِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَلى صِفَتِهِ، ولا يُلائِمُهُ قَوْلُهُ تَعالى.
﴿وادْعُوا شُهَداءَكم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فَإنَّهُ أمَرَ بِأنْ يَسْتَعِينُوا بِكُلِّ مَن يَنْصُرُهم ويُعِينُهم. والشُّهَداءُ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنى الحاضِرِ، أوِ القائِمِ بِالشَّهادَةِ، أوِ النّاصِرِ، أوِ الإمامِ. وكَأنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِأنَّهُ يَحْضُرُ النَّوادِيَ وتُبْرَمُ بِمَحْضَرِهِ الأُمُورُ، إذِ التَّرْكِيبُ لِلْحُضُورِ، إمّا بِالذّاتِ أوْ بِالتَّصَوُّرِ، ومِنهُ قِيلَ لِلْمَقْتُولِ في سَبِيلِ اللَّهِ: شَهِيدٌ لِأنَّهُ حَضَرَ ما كانَ يَرْجُوهُ، أوِ المَلائِكَةُ حَضَرُوهُ. ومَعْنى ﴿دُونِ﴾ أدْنى مَكانٍ مِنَ الشَّيْءِ ومِنهُ تَدْوِينُ الكُتُبِ، لِأنَّهُ إدْناءُ البَعْضِ مِنَ البَعْضِ، ودُونَكَ هَذا أيْ: خُذْهُ مِن أدْنى مَكانٍ مِنكَ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلرُّتَبِ فَقِيلَ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو أيْ: في الشَّرَفِ، ومِنهُ الشَّيْءُ الدُّونُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فاسْتُعْمِلَ في كُلِّ تَجاوُزِ حَدٍّ إلى حَدٍّ وتَخَطِّي أمْرٍ إلى آخَرَ، قالَ تَعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ لا يَتَجاوَزُوا وِلايَةَ المُؤْمِنِينَ إلى وِلايَةِ الكافِرِينَ. قالَ أُمَيَّةُ:
؎ يا نَفْسُ ما لَكِ دُونَ اللَّهِ مِن واقِ
(p-58)أيْ إذا تَجاوَزْتَ وِقايَةَ اللَّهِ فَلا يَقِيكَ غَيْرُهُ، و ﴿مِن﴾ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (ادْعُوا) . والمَعْنى ﴿وادْعُوا﴾ لِلْمُعارَضَةِ مَن حَضَرَكُمْ، أوْ رَجَوْتُمْ مَعُونَتَهُ مِن إنْسِكم وجِنِّكم وآلِهَتِكم غَيْرَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَإنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إلّا اللَّهُ. أوْ: ﴿وادْعُوا﴾ مِن دُونِ اللَّهِ شُهَداءَ يَشْهَدُونَ لَكم بِأنَّ ما أتَيْتُمْ بِهِ مِثْلُهُ، ولا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَإنَّهُ مِن دَيْدَنِ المَبْهُوتِ العاجِزِ عَنْ إقامَةِ الحُجَّةِ. أوْ بِـ ﴿شُهَداءَكُمْ﴾ أيِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهم مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ وآلِهَةً، وزَعَمْتُمْ أنَّها تَشْهَدُ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ. أوِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكم بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعالى عَلى زَعْمِكم مِن قَوْلِ الأعْشى:
؎ تُرِيكَ القَذى مِن دُونِها وهي دُونَهُ
لِيُعِينُوكم وفي أمْرِهِمْ أنْ يَسْتَظْهِرُوا بِالجَمادِ في مُعارَضَةِ القُرْآنِ العَزِيزِ غايَةَ التَّبْكِيتِ والتَّهَكُّمِ بِهِمْ. وقِيلَ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ مِن دُونِ أوْلِيائِهِ، يَعْنِي فُصَحاءَ العَرَبِ ووُجُوهَ المَشاهِدِ لِيَشْهَدُوا لَكم أنَّ ما أتَيْتُمْ بِهِ مِثْلُهُ، فَإنَّ العاقِلَ لا يَرْضى لِنَفْسِهِ أنْ يَشْهَدَ بِصِحَّةِ ما اتَّضَحَ فَسادُهُ وبانَ اخْتِلالُهُ.
﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أنَّهُ مِن كَلامِ البَشَرِ، وجَوابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ. والصِّدْقُ: الإخْبارُ المُطابِقُ، وقِيلَ: مَعَ اعْتِقادِ المُخْبِرِ أنَّهُ كَذَلِكَ عَنْ دَلالَةٍ أوْ أمارَةٍ، لِأنَّهُ تَعالى كَذَّبَ المُنافِقِينَ في قَوْلِهِمْ: ﴿إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، لَمّا لَمْ يَعْتَقِدُوا مُطابَقَتَهُ، ورَدَّ بِصَرْفِ التَّكْذِيبِ إلى قَوْلِهِمْ ﴿نَشْهَدُ﴾، لِأنَّ الشَّهادَةَ إخْبارٌ عَمّا عَلِمَهُ وهم ما كانُوا عالِمِينَ بِهِ.
{"ayah":"وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبࣲ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق