الباحث القرآني

﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ لَمّا عَدَّدَ فِرَقَ المُكَلَّفِينَ وذَكَرَ خَواصَّهم ومَصارِفَ أُمُورِهِمْ، أقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ هَزًّا لِلسّامِعِ وتَنْشِيطًا لَهُ واهْتِمامًا بِأمْرِ العِبادَةِ، وتَفْخِيمًا لِشَأْنِها، وجَبْرًا لِكُلْفَةِ العِبادَةِ بِلَذَّةِ المُخاطَبَةِ. و (يا) حَرْفٌ وُضِعَ لِنِداءِ البَعِيدِ، وقَدْ يُنادى بِهِ القَرِيبُ تَنْزِيلًا لَهُ مَنزِلَةَ البَعِيدِ. إمّا لِعَظَمَتِهِ كَقَوْلِ الدّاعِي: يا رَبِّ، ويا اللَّهُ، هو أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ. أوْ لِغَفْلَتِهِ وسُوءِ فَهْمِهِ. أوْ لِلِاعْتِناءِ بِالمَدْعُوِّ لَهُ وزِيادَةِ الحَثِّ عَلَيْهِ. وهو مَعَ المُنادى جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ، لِأنَّهُ نائِبٌ مَنابَ فَعَلَ. وأيُّ: جُعِلَ وصْلَةً إلى نِداءِ المُعَرَّفِ بِاللّامِ، فَإنَّ إدْخالَ « يا» عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ لِتَعَذُّرِ الجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّعْرِيفِ فَإنَّهُما كَمَثَلَيْنِ وأُعْطِيَ حُكْمَ المُنادى وأُجْرِيَ عَلَيْهِ المَقْصُودُ بِالنِّداءِ وصْفًا مُوَضِّحًا لَهُ، والتِزامُ رَفْعِهِ إشْعارًا بِأنَّهُ المَقْصُودُ، وأُقْحِمَتْ بَيْنَهُما هاءُ التَّنْبِيهِ تَأْكِيدًا وتَعْوِيضًا عَمّا يَسْتَحِقُّهُ، أيْ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، وإنَّما كَثُرَ النِّداءُ عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ في القُرْآنِ لِاسْتِقْلالِهِ بِأوْجُهٍ مِنَ التَّأْكِيدِ، وكُلُّ ما نادى اللَّهُ لَهُ عِبادَهُ مِن حَيْثُ إنَّها أُمُورٌ عِظامٌ، مِن حَقِّها أنْ يَتَفَطَّنُوا إلَيْها، ويُقْبِلُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْها، وأكْثَرُهم عَنْها غافِلُونَ، حَقِيقٌ بِأنْ يُنادى لَهُ بِالآكَدِ الأبْلَغِ، والجُمُوعُ وأسْماؤُها المُحَلّاةُ بِاللّامِ لِلْعُمُومِ حَيْثُ لا عَهْدَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ صِحَّةُ الِاسْتِثْناءِ مِنها. أوِ التَّأْكِيدُ بِما يُفِيدُ العُمُومَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ واسْتِدْلالُ الصَّحابَةِ بِعُمُومِها شائِعًا وذائِعًا، فالنّاسُ يَعُمُّ المَوْجُودِينَ وقْتَ النُّزُولِ لَفْظًا ومَن سَيُوجَدُ، لِما تَواتَرَ مِن دِينِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ مُقْتَضى خِطابِهِ وأحْكامِهِ شامِلٌ لِلْقَبِيلَيْنِ، ثابِتٌ إلى قِيامِ السّاعَةِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وما رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ والحَسَنِ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ (يا أيُّها النّاسُ) فَمَكِّيٌّ و (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا) فَمَدَّنِيٌّ، إنْ صَحَّ رَفَعَهُ فَلا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِالكَفّارِ، ولا أمَرَهم بِالعِبادَةِ، فَإنَّ المَأْمُورَ بِهِ هو القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ بَدْءِ العِبادَةِ، والزِّيادَةِ فِيها، والمُواظَبَةِ عَلَيْها، فالمَطْلُوبُ مِنَ الكَفّارِ هو الشُّرُوعُ فِيها بَعْدَ الإتْيانِ بِما يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنَ المَعْرِفَةِ والإقْرارِ بِالصّانِعِ، فَإنَّ مِن لَوازِمَ وُجُوبِ الشَّيْءِ وُجُوبَ ما لا يَتِمُّ إلّا بِهِ، وكَما أنَّ الحَدَثَ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلاةِ، فالكُفْرُ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ العِبادَةِ، بَلْ يَجِبُ رَفْعُهُ والِاشْتِغالُ بِها عَقِيبَهُ. ومِنَ المُؤْمِنِينَ ازْدِيادُهم وثَباتُهم عَلَيْها وإنَّما قالَ: ﴿رَبَّكُمُ﴾ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُوجِبَ لِلْعِبادَةِ هي الرُّبُوبِيَّةُ. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَيْهِ تَعالى لِلتَّعْظِيمِ والتَّعْلِيلِ، ويُحْتَمَلُ التَّقْيِيدُ والتَّوْضِيحُ إنْ خُصَّ الخِطابُ بِالمُشْرِكِينَ، وأُرِيدُ بِالرَّبِّ أعَمُّ مِنَ الرَّبِّ الحَقِيقِيِّ، والآلِهَةُ الَّتِي يُسَمُّونَها أرْبابًا. والخَلْقُ إيجادُ الشَّيْءِ عَلى تَقْدِيرٍ واسْتِواءٍ، وأصْلُهُ التَّقْدِيرُ يُقالُ: خَلَقَ النَّعْلَ إذا قَدَّرَها وسَوّاها بِالمِقْياسِ. ﴿والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مُتَناوِلٌ كُلَّ ما يَتَقَدَّمُ الإنْسانُ بِالذّاتِ أوْ بِالزَّمانِ. مَنصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في ﴿خَلَقَكُمْ﴾ . والجُمْلَةُ أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ المُقَرَّرِ عِنْدَهُمْ، إمّا لِاعْتِرافِهِمْ بِهِ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أوْ لِتَمَكُّنِهم مِنَ العِلْمِ بِهِ بِأدْنى نَظَرٍ! وقُرِئَ « مَن قَبْلَكم» عَلى إقْحامِ المَوْصُولِ الثّانِي بَيْنَ الأوَّلِ وصِلَتِهِ تَأْكِيدًا، كَما أقْحَمَ جَرِيرٌ في قَوْلِهِ: ؎ يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبا لَكُمُو تَيْمًا الثّانِي بَيْنَ الأوَّلِ وما أُضِيفَ إلَيْهِ. ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في اعْبُدُوا كَأنَّهُ قالَ: اعْبُدُوا رَبَّكم راجِينَ أنْ تَنْخَرِطُوا في سِلْكِ المُتَّقِينَ الفائِزِينَ بِالهُدى والفَلاحِ، المُسْتَوْجَبِينَ جِوارَ اللَّهِ تَعالى. نَبَّهَ بِهِ عَلى أنَّ التَّقْوى مُنْتَهى دَرَجاتِ السّالِكِينَ وهو التَّبَرِّي مِن كُلِّ شَيْءٍ سِوى اللَّهِ تَعالى إلى اللَّهِ، وأنَّ العابِدَ يَنْبَغِي أنْ لا يَغْتَرَّ بِعِبادَتِهِ، ويَكُونَ ذا خَوْفٍ (p-55)وَرَجاءٍ قالَ تَعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهم خَوْفًا وطَمَعًا﴾، ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ﴾ . أوْ مِن مَفْعُولِ ﴿خَلَقَكُمْ﴾ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلى مَعْنى أنَّهُ خَلَقَكم ومَن قَبْلَكم في صُورَةِ مَن يُرْجى مِنهُ التَّقْوى لِتَرَجُّحِ أمْرِهِ بِاجْتِماعِ أسْبابِهِ وكَثْرَةِ الدَّواعِي إلَيْهِ. وغَلَّبَ المُخاطِبِينَ عَلى الغائِبِينَ في اللَّفْظِ، والمَعْنى عَلى إرادَتِهِمْ جَمِيعًا. وقِيلَ تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ أيْ خَلَقَكم لِكَيْ تَتَّقُوا كَما قالَ: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ . وهو ضَعِيفٌ إذْ لَمْ يَثْبُتْ في اللُّغَةِ مِثْلُهُ. والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الطَّرِيقَ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى والعِلْمِ بِوَحْدانِيَّتِهِ واسْتِحْقاقِهِ لِلْعِبادَةِ النَّظَرُ في صُنْعِهِ والِاسْتِدْلالُ بِأفْعالِهِ، وأنَّ العَبْدَ لا يَسْتَحِقُّ بِعِبادَتِهِ عَلَيْهِ ثَوابًا، فَإنَّها لَمّا وجَبَتْ عَلَيْهِ شُكْرًا لِما عَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ السّابِقَةِ فَهو كَأجِيرٍ أخَذَ الأجْرَ قَبْلَ العَمَلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب