الباحث القرآني
قوله تعالى ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ الآية، معنى التحرف في اللغة: الزوال عن جهة الاستواء، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، وذكرنا هذا عند قوله ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [[من الآية 46 من سورة النساء، والآية: 13 من سورة المائدة.]] [[انظر: "تفسير البسيط" 3/ 564، تحقيق محمد المحيميد.]].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾، قال أبو عبيد [[في (م): (أبو عبيدة).]]: التحيز: التنحي، وفيه لغتان: التحيز والتحوز [["تهذيب اللغة (جاز) 5/ 178، ونُسب هذا القول في "لسان العرب" (حوز) 5/ 340، وفي "البحر المحيط" 5/ 291 إلى أبي عبيدة. ولم أجده في "مجاز القرآن" له.]].
الليث: يقال: مالك تتحوز إذا لم تستقر على الأرض، والاسم منه: التحوز [["تهذيب اللغة" (حاز) 1/ 700، والنص في كتاب "العين" (حوز) 3/ 274.]]، وأصل هذا من الحوز وهو الجمع، يقال: حزته فانحاز وتحوز تحيزًا [[ذكر الواحدي عن أبي عبيد أن في الكلمة لغتين: التحوز والتحيز، فكان الأولى أن يقول: تحوز تحوزًا، وتحيز تحيزًا، لكن جاء في اللغة ما يدل على صحة عبارة == الواحدي، قال ابن منظور: ومن كلامهم: مالك تحوز كما تحيز الحية، وتحوّز تحيز الحية، وتحوّز الحية. "لسان العرب" (حوز) 2/ 1046، وفي المصدر نفسه 2/ 1046: وتحوّز عنه وتحيّز: إذا تنحى، وهي (تفعيل) أصلها (تحيوز) فقلبت الواو ياء لمجاورة الياء، وأدغمت فيها. اهـ.]]: إذا انضم واجتمع، ويقال من هذا: الحية تتحوز: إذا انطوت واجتمعت، ثم سمي التنحي تحيزًا؛ لأن المتنحي عن جانب ينضم عنه ويجتمع إلى غيره، فلا يبسط فيه.
فأما التفسير فقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وأي: يوم لقاء الكفار، والإشارة تعود إلى قوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ أي: منعطفًا مستطردًا، كأنه يطلب عورة تمكنه إصابتها فينحرف عن وجه وُيرى أنه منهزم [[في (م): (ينهزم).]] ثم يكر.
قال السدي: أما المتحرف: فالمستطرد يريد العودة [[في (ح): (العورة)، يعني عورة العدو وموطن ضعفه، وما أثبته موافق لتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم.]]، والمتحيز: إلى إمام وجنده إذا لم يكن له بهم طاقة [[رواه ابن جرير 9/ 201، وابن أبي حاتم 5/ 1670 بنحوه.]]. وظاهر الآية نهي عن الانهزام بين يدي الكفار إلا أن يكون مستطردًا أو منضمًا إلى جماعة يريدون العود إلى القتال.
واختلف المفسرون في هذه الآية فقال الحسن وقتادة والضحاك: هذا الوعيد خاص فيمن كان ينهزم يوم بدر [[انظر أقوالهم في: "المصنف" للصنعاني 5/ 251، و"تفسير ابن جرير" 13/ 438، وابن أبي هاشم 3/ 232/ ب، والثعلبي 6/ 37/ أ، وابن كثير 2/ 307، وزاد ابن كثير نسبة هذا الرأي إلى: عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع وسعيد بن جبير وعكرمة، قال ابن كثير: وهذا كله لا ينفي أن يكون == الفرار من الزحف حرامًا على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم اهـ. ويظهر للمتأمل لأقوال من يرى أن الآية خاصة في أهل بدر أنهم يعنون ما عناه أبو سعيد الخدري في قوله الذي ذكره الواحدي، فأهل بدر ليس لهم فئة يفيئون إليها كما قال الرسول ﷺ: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". رواه مسلم (1773)، كتاب الجهاد، باب: الإمداد بالملائكة (1763)، وما بقي في المدينة من المسلمين يومئذ أقل من أن يغزوا عدوًا أو يصدوا مهاجمًا.
وللعلماء قاعدة عظيمة في أصول التفسير وهي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا قال ابن جرير 13/ 440: نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، ومما يؤكد ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ الآية، أن النبي ﷺ قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منهن: التولي يوم الزحف.]]، وهو قول أبي سعيد الخدري، وقال: إنما كان ذلك يوم بدر خاصة، لم يكن لهم أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض مسلم ولا للمسلمين فِئَة، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم لبعض فئة [[رواه بلفظ مقارب ابن جرير 13/ 437، ورواه مختصرا أبو داود في "سننه" (2646) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.]].
وقال ابن عباس: الآية عامة في كل من انهزم عن العدو [[هذا معنى أثر عن ابن عباس من رواية الوالبي، انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 203، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 377، وانظر: صحيفة علي بن أبي طلحة ص 239.
وقول ابن عباس هذا مقيد بقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾. وبقول النبي ﷺ: "من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثين فقد فر". رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 93 (11151)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 328: رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ. ورواه سعيد بن منصور في "سننه" 5/ 226 (1001) موقوفًا على ابن عباس.]].
فأما حكم الآية: فالمتحرف عن جانب إلى جانب لمكايد القتال غير منهزم، وأما المتحيز، فهو الذي ينهزم [من العدو] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ح).]] وينوي التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم، أو يستمد ويعود إلى القتال فهذا أيضًا مستثنى من الوعيد، وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة عنه جاز له التحيز إذا نوى العود والاستعانة قلّ العدو أو كثر [[هكذا يرى الواحدي جواز الفرار من الزحف إذا نوى العودة دون قيد آخر، وهذا مذهب جمهور العلماء.
انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 201، و"أحكام القرآن" للهراسي 3/ 154، و"الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني" ص 413، و"المغني" 13/ 187، وبعض العلماء يرى أن الجيش إذا بلغ اثنى عشر ألفاً فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم، ما لم يغلب على ظنهم استئصال العدو لهم.
انظر: "زاد المسير" 3/ 332، و"أحكام القرآن" للهراسي 3/ 154، و"تفسير القرطبي" 7/ 382.]]، روى جرير [[جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أبو عبد الله الرازي القاضي، ولد بأصبهان ونشأ في الكوفة ونزل بالري، كان ثقة محدثًا ناشرًا للعلم، يرحل إليه، مات سنة 188 هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" 9/ 9، و"تهذيب التهذيب" 1/ 297، و"تقريب التهذيب" ص 139 (916).]]، عن منصور، عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين هلكت؛ فررت من الزحف، فقال عمر: أنا فئتك [[رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 47 أ.]]، وقال أيضًا: أنا فئة كل مسلم [[رواه الصنعاني في "المصنف" 5/ 252، وابن جرير 9/ 203، والثعلبي 6/ 47 أ، والبغوي 3/ 338.]].
وأما إذا لم ينو الالتجاء إلى فئة من المسلمين، وانهزم هزيمة على الحقيقة؛ فإن كان المشركون أكثر من ضعف المسلمين لم يعص ولم يأثم، وإن كانوا ضعفهم أو أقل استحق الوعيد وعصى وأثم.
فإن قيل: إن قوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ يدل على أن المنهزم إذا عصى بالهزيمة بقي في النار خالدًا [[في (م): (مخلدًا).]]، قلنا: قد ذكرنا أن الآية مخصوصة بأهل بدر على قول الأكثرين، قال يزيد بن أبي حبيب [[هو: يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء المصري، الإِمام الحجة، مفتي الديار المصرية، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى والعلم مع كونه مولى حبشيًّا، مات سنة 1328 هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 4/ 336، و"الكاشف" 2/ 38 (6289)، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 31، و"تهذيب التهذيب" 4/ 408.]]: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 155]، ثم كان يوم حنين بعد ذلك فقال: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25]، ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: 27] [[رواه البغوي 3/ 337، ورواه أيضًا مع زيادة ابن جرير 9/ 202، وما جاء في حادثتي أحد وحنين يؤكد تحريم الفرار من الزحف حيث وصف بأنه استزلال من الشيطان وأن الله قد عفا عن الفارين، أما سياق يزيد بن أبي حبيب للآيتين في قصة حنين فقد يفهم منه أن التوبة على الصحابة الفارين وليس الأمر كذلك بل على من أسلم من كفار هوازن بدلالة السياق حيث قال الله تعالى: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ وعلى فرض أنه على الصحابة الفارين فإنها تأكيد على تحريم الفرار وأنه من كبائر الذنوب التى تحتاج إلى توبة.]].
وإن قلنا الآية عامة فقوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ لا يفيد التخليد فيكون منتهى مكثه في جهنم إلى الشفاعة والرحمة.
قال أبو إسحاق: ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ منصوب على الحال، [وكذلك ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾] [[ما بين المعقوفين غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج.]] قال: [ويجوز أن يكون النصب فيهما على الاستثناء، أي: إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا [[ليس هناك فرق بين الإعرابين من حيث المعنى، فهو مستثنى على كلتا الحالتين، وإنما الفرق في تقدير المستثنى منه، فعلى الإعراب الأول هو مستثنى من عموم الأحوال، والتقدير: ومن يولهم دبره في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز، وعلى الإعراب الثاني هو مستثنى من عموم الرجال، والتقدير: وأي رجل يولهم دبره إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا.]]، قال] [[ما بين المعقوفين ساقط من (س).]]: وأصل متحيز: متحيوز، فأدغمت الياء في الواو [["معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 406.]].
{"ayah":"وَمَن یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُۥۤ إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ فَقَدۡ بَاۤءَ بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق