الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾. الإنصات السكوت للاستماع، يقال: نَصَتَ وأَنصت وانتصت بمعنى واحد [[انظر: "العين" 7/ 106، و"الجمهرة" 1/ 401، و"الصحاح" 1/ 268، و"المجمل" 2/ 870، و"مقاييس اللغة" 5/ 434.]]، وقد ورد الإنصات متعديًا في شعر الكميت [[تقدمت ترجمته.]] بمعنى الإسكات وهو قوله [[لفظ: (قوله) ساقط من (ب).]]: أبوك الذي أجدى علي بنصره ... فأنصت عني بعده كلَّ قائل [[البيت للكميت في "البحر" 4/ 438، و"الدر المصون" 5/ 551 وهو للراعي النميري في "ديوانه" ص 78، و"مجاز القرآن" 2/ 47، و"الجمهرة" 1/ 398، 3/ 1261، و"الاشتقاق" ص 110، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 4/ 3582، و"اللسان" 7/ 4437 (نصت).]] قال الأصمعي [[وقع هنا في (ب) اضطراب في ترتيب الأوراق حيث وقع باقي تفسير الآية في 186 ب.]]: (يريد: فأسكت عني) [["تهذيب اللغة" 4/ 3582.]]. واختلف المفسرون في وجه نزول الآية على قولين أحدهما: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، قال أبو هريرة: (كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية وأُمروا بالإنصات) [[أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 8380، الطبري 9/ 163، وابن أبي حاتم 5/ 1645، والبيهقي في "سننه" 2/ 155 من طرق ضعيفة.]]. وقال قتادة: (كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي، وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأنزل الله هذه الآية) [[أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 247، والطبري 9/ 164 من طرق جيدة.]] ونحو هذا قال معاوية [[معاوية بن قرَّة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري، إمام تابعي عابد عالم ثقة، والد القاضي إياس أدرك كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم، توفي سنة 113 هـ وله 76 سنة، انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 378، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 153، و"تهذيب التهذيب" 4/ 111، و"تقريب التهذيب" ص 538 (6769).]] بن قرة [[أخرجه البيهقي في "سننه" 2/ 155 بسند جيد.]]. وقال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة؛ سلام على فلان، سلام على فلان، فجاء القرآن: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ الآية) [[أخرجه الطبري 9/ 162 بسند ضعيف لانقطاعه.]]. القول الثاني: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام، قال ابن عباس: (إن رسول الله ﷺ قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية) [[أخرجه الطبري 9/ 165 بسند جيد]]. وروى عن أبي هريرة مثل ذلك [[في (ب): (مثل هذا).]] قال: (نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله ﷺ في الصلاة) [[أخرجه الطبري 9/ 163، وابن أبي حاتم 5/ 1645، والدارقطني في "سننه" 1/ 326، والواحدي في "الوسيط" 2/ 293، وفي "أسباب النزول" ص 233 بسند ضعيف كما قال الدارقطني.]]. وروي أيضًا عن ابن مسعود [[أخرجه الطبري 13/ 346، وابن أبي حاتم 5/ 1646 بسند جيد عنه، قال: (لعلكم تقرأون مع الإِمام قالوا: نعم، قال: ألا تفقهون ما لكم لا تعقلون: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾) اهـ. قال الشيخ أحمد شاكر في "الحاشية": (فيه بشير بن جابر لم أعرفه وفي المخطوطة (بسير) غير منقوطة ولم أعرف له وجه) اهـ.]] مثل هذا، وقال الكلبي: (كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار فأنزل الله هذه الآية) [[أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 247 بسند جيد.]]. وفي الآية قول ثالث: وهو أنها نزلت في السكوت للخطبة؛ أُمِروا بالإنصات للإمام يوم الجمعة، وهذا قول سعيد [[ذكره البغوي 3/ 319، والرازي 15/ 102، والخازن 2/ 330 عن سعيد بن جبير وعطاء، وأخرج الطبري 9/ 165 بسند جيد عنه قال: (يوم الأضحى والفطر والجمعة وفي الصلاة) وقال البخاري في القراءة خلف الإمام ص 64: (ذكر عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن الآية في الصلاة إذا خطب الإِمام يوم الجمعة) اهـ.]] بن جبير ومجاهد [[أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 226 - 227، الطبري 9/ 165 من طرق جيدة.]] وعطاء [[ذكره الماوردي 2/ 290، وأخرج الطبري 9/ 165 من طرق جيدة.]] وعمرو [[ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 233، وابن الجوزي 3/ 313، عن سعيد ابن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار.]] بن دينار، وزيد بن أسلم [[ذكره الثعلبي 6/ 34 ب، والقرطبي 7/ 353، عن سعيد بن جبير ومجاهد وعمرو ابن دينار وزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة.]] والقاسم بن مخيمرة [[القاسم بن مخيمرة الهمداني، أبو عروة الكوفي نزيل الشام، تابعي إمام عابد فاضل معلم محدث ثقة، توفي سنة 100 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 120، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 201، و"تهذيب التهذيب" 3/ 421، و"تقريب التهذيب" 3/ 421.]] وجماعة. واحتج ابن المبارك [[عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي. تقدمت ترجمته.]] لهذا القول بأن قال: (لا ترى خطيبًا يخطب يوم الجمعة فأراد أن يقرأ في الخطبة [[لفظ: (الخطبة) ساقط من (ب).]] آية من قوارع القرآن إلا قرأ هذه الآية قبل قراءته ثم قرأ القرآن) [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 34 ب، وهذا القول ضعفه أكثرهم، قال البغوي في "تفسيره" 3/ 320: (الأولى أنها في القراءة في الصلاة؛ لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام) وضعفه ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 828، والقرطبي 7/ 353.]]. واختار الفراء [["معاني الفراء" 1/ 402.]]، وأبو إسحاق [["معاني الزجاج" 2/ 398.]] القول الأول، وقالا: (كان الناس يتكلمون في الصلاة المكتوبة، يأتي الرجل القوم فيقول: كم صليتم؟ فيقول الناس: كذا وكذا، فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام في الصلاة لما نزلت هذه الآية). ولا حجة في الآية لمن أبى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة خلف الإِمام؛ لأن قوله: ﴿وَأَنْصِتُوا﴾ على القول الأول أمر بالإنصات عن الكلام الذي لا يحل في الصلاة، وعلى القول الثاني أمر بالإنصات عن رفع الأصوات خلف الإِمام، وفي القول الثالث أمر بالإنصات لاستماع القرآن في الخطبة، وقد قال الأوزاعي [[الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي أبو عمرو الشامي الدمشقي، إمام تابعي عابد فاضل فقيه حافظ ثقة، شيخ الإِسلام وعالم أهل الشام أجمعوا على إمامته وجلالته وعلوّ مرتبته وكمال فضله وأقاويل الأئمة فيه كثيرة مصرحة بورعه وزهده وغزارة فقهه وقيامه بالحق، توفي رحمه الله تعالى سنة 157 هـ وله 69 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 1/ 184، و5/ 266، و"الحلية" 6/ 135، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 298، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 107، و"تهذيب التهذيب" 2/ 537.]]: (إن الله أمر بالإنصات عن الكلام لا عن قراءة القرآن لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة) [[لم أقف عليه.]]. فإن احتج بعموم اللفظ ولم يقصر الآية على سببها قيل له: حكم الآية ممتثل [[كذا في النسخ: "ممتثل" ولعل المعنى أي: قائم ومتصور. انظر: "اللسان" 7/ 4135: (مثل).]] عند الشافعي [[انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 77، و"روضة الطالبين" 1/ 347، و"المجموع" 3/ 363.]] -رضي الله عنه-؛ لأن السنة أن يسكت الإِمام ويتنفس فيقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام، كما قال أبو سلمة [[أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وهو إمام تابعي عالم عابد فقيه ثقة مكثر اتفقوا على جلالته وإمامته وعظم قدره وارتفاع منزلته توفي رحمه الله تعالى سنة 94 هـ، وله 72 سنة، انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 93، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 240، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 287، و"تهذيب التهذيب" 4/ 531.]]: (للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت) [[أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وذكره ابن قدامة في "المغني" == 2/ 266، وابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 208، وقال ابن قدامة في "المغني" 1/ 163: (يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة سكتة يستريح فيها ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة كي لا ينازعوه فيها، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق، وكرهه مالك وأصحاب الرأي) اهـ. وانظر: "سنن البيهقي" 2/ 195، و"نيل الأوطار" 2/ 276.]]، على أن الإنصاف هو ترك الجهر، والعرب تسمي تارك الجهر منصتًا وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمع أحدًا، وأيضًا فإن الفاتحة مخصوصة بالقراءة من بين غيرها بالسنة لقوله ﷺ: "إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها" [[أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وأبو داود في "سننه" رقم (323)، والترمذي رقم (311)، و"النسائي" 2/ 141 - كتاب "الافتتاح"- باب: قراءة أم القرآن في الجهرية، والدارقطني 1/ 318، والحاكم في "المستدرك" 1/ 238 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله ﷺ الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرءون وراء إمامكم. قلنا: إي والله. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها") اهـ. قال الترمذي: (حديث حسن وله شواهد والعمل عليه في القراءة خلف الإِمام عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق) اهـ. وقال الدارقطني: (إسناده حسن) اهـ. وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" 1/ 231 وحسنه وقال: (صححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي) اهـ. وقال البيهقي في "سننه" 2/ 163: (يقرأ المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب في السرية والجهرية وهو أصح الأقوال على السنة وأحوطها وبالله التوفيق) اهـ. وهذا هو الظاهر وحديث عبادة نص في ذلك، وهو اختيار الشيخ محمد بن == صالح العثيمين قال في "مجموع دروس الحرم المكي" 2/ 236: (الصحيح من أقوال أهل العلم أن قراءة الفاتحة واجبة على الإِمام والمأموم والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية والدليل حديث عبادة فتكون الأحاديث مخصصة للآية وتحمل الآية في غير الفاتحة لأنه لا بد من قراءتها) اهـ.]]. فالمأموم ينصت إلا عن الفاتحة. للخبر، على أنا نقول: إن جاز لغيرنا أن يُعدّي الآية إلى غير السبب النازل فيه جاز لنا أن نأوّلها بما ذكره أبو إسحاق، وهو أنه قال: (يجوز أن يكون: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [[في النسخ: (استمعوا).]] اعملوا بما فيه، ﴿وَأَنْصِتُوا﴾ لا تجاوزه إلى غيره؛ لأن معنى قول القائل: سمع الله دعاءك تأويله: أجاب الله دعاءك، وفعل ما أردت؛ لأن الله عز وجل سميع لم يزل) [["معاني الزجاج" 2/ 398.]]، وعلى هذا فلا معنى لترك القراءة في الآية وليست الآية من ترك القراءة في شيء. وذهب قوم من أهل الظاهر [[انظر: "المغني" لابن قدامة 2/ 259، و"الفتاوى" لشيخ الإِسلام 23/ 265 وص 330، و"نيل الأوطار" 2/ 243 - 257، وقال النحاس في "إعرابه" ص 662: (الإنصات في اللغة عام يجب أن يكون في كل شيء إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء) اهـ. ونحوه في "معانيه" 3/ 122، وقال القرطبي 7/ 353 - 354: (الصحيح أن الإنصات عام في الصلاة والخطبة لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات وحكي عن النقاش إجماع أهل التفسير أن هذا في الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة) اهـ.]] إلى أن هذه الآية عامة، ويجب الإنصاف لقارئ الطريق، ومعلم الصبيان، وليس الأمر على [[في (ب): (إلى ما ذهبوا).]] ما ذهبوا إليه؛ فإن هذا الإنصات إنما يجب في الصلاة، وعند الخطبة يوم الجمعة، على ما ذكرنا عن الأئمة والسلف [[انظر: "تفسير الطبري" 9/ 165، 166، والسمرقندي 1/ 591، والماوردي 2/ 290، وابن عطية 6/ 196 - 197، وابن الجوزي 3/ 312، والرازي 15/ 102 - 104، وابن كثير 2/ 311، و"الدر المنثور" 3/ 285 - 287.]]؛ يدل على هذا ما روى الجريري [[الجريري: سعيد بن إياس الجريري، أبو مسعود البصري، إمام، محدث من كبار العلماء، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث سنين. توفي سنة 144 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 1، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 153، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 155، و"تهذيب التهذيب" 2/ 7، و"تقريب التهذيب" ص 233 (2273).]] عن طلحة بن عبيد الله بن كريز [[طلحة بن عبد الله بن كريز بن جابر بن ربيعة الخزاعي الكعبي، تقدمت ترجمته.]] قال: (رأيت عبيد بن عمير [[عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، إمام مجمع على ثقته، وكان قاضي أهل مكة. تقدمت ترجمته.]] وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقصّ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، فنظرا إليّ وقالا: إنما ذلك في الصلاة: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾. ثم أقبلا علي حديثهما) [[أخرجه الطبري 9/ 163 بسند جيد.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب