الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾، قال ابن عباس [["تنوير المقباس" 2/ 128، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 244.]] والمفسرون [[انظر "مجاز القرآن" 1/ 228، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، و"تفسير غريب القرآن" 180 - 181، و"تفسير الطبري" 9/ 62، والسمرقندي 1/ 571، والبغوي 3/ 283، وقال الرازي 7/ 15: (اتفقوا على أن المراد اشتد ندمهم على عبادة العجل) اهـ.]]: (أي: ندموا على عبادتهم العجل). قال الفراء: (يقال: سُقِط في يده وأُسْقِط من الندامة، وسُقط أكثر وأجود) [["معاني الفراء" 1/ 393 وفيه زاد (وأسقط لغة). وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 310.]]. وقال الزجاج: (يقال للرجل النادمِ على ما فعل الخَسِرِ على ما فرط منه: قد سُقِط في يده وأُسْقِط) [["معاني الزجاج" 2/ 378، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 81.]]. قال الأزهري: (وإنما حَسَّنَ قولَهم: سقط في يده، بضم السين غير مسمًّى فاعله الصفةُ وهي قولهم: (في يده)، ومثله قول امرؤ القيس: فدع عنك نهبًا صيح في حَجَراته ... ولكن حديثًا ما حديث الرواحل [["ديوانه" ص 135، و"اللسان" 4/ 2039 (سقط)، و"الدر المصون" 5/ 461، وفي "الديوان" (دع) بدل فدع، والنهب: الغارة والسلب، وحجراته: نواحيه، والرواحل: النوق.]] أي: صاح المنتهب في حجراته، وكذلك [[في (ب): (ولذلك)، وهو تحريف.]] المراد: سقط الندم في يده) [["تهذيب اللغة" 2/ 1713 (سقط).]] انتهى كلامه. فقد بان بقول المفسرين وأهل اللغة أن قولهم: (سُقط في يده) معناه: نَدِم، وأن هذا اللفظ يستعمل في صفة النادم، فأما القول في أصله ومأخذه فلم أر لأحد من الأئمة فيه شيئًا أرتضيه إلا ما ذكره أبو القاسم الزجاجي، وهو أنه قال: (قوله: ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ بمعنى [[في (ب): (معناه).]] ندموا، نظمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، ولم يوجد ذلك في أشعارهم، والذي يدل على صحة ذلك أن شعراء الإسلام لما سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وجه الاستعمال؛ لأن عادتهم لم تَجْرِ بِهِ، فقال أبو نواس [[أبو نُواس: هو الحسن بن هانئ الحكمي مولاهم أبو علي البصري، شاعر مشهور، عالم باللغة، فصيح، أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة وغيرهما، وهو شاعر مجيد، لكن فسقه ظاهر، أكثر من النظم في المجنون والخمر والغلمان، وغلب عليه اللهو، وذكر عنه التوبة في آخر عمره. توفي سنة 195 هـ أو بعدها وقد قارب الستين سنة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 538، و"تاريخ بغداد" 7/ 436، و"وفيات الأعيان" 2/ 95، "لسان الميزان" 7/ 115، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 4/ 257، و"الإعلام" 2/ 225.]]: ونشوة سقطت منها في يدي [[ليس في "ديوانه"، ولم أقف على تكملته. ونقله السمين في "الدر" 5/ 462 عن الواحدي، وذكره الميداني عن الزجاجي في "مجمع الأمثال" 2/ 331.]] وأبو نواس هو العالم النّحْرِير [[النّحْرِير: الحاذق الماهر العاقل المجرب وقيل: الرجل الفطن المُتْقِن البصير في كل شيء، انظر: "اللسان" 7/ 4365 (نحو).]] فأخطأ في استعمال هذا اللفظ؛ لأن فُعِلتْ لا يبنى إلا من فعل [[انظر: "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" للصفدي ص 314.]] متعدٍّ وسُقط لازم لا يُعدى إلا بحرف الصفة. لا يُقال: سُقِطت كما لا يقال: رُغِبتُ، وغُضبتُ، إنما يقال: رُغِب فيّ، وغضْبَ عليّ، وذكر أبو حاتم [[أبو حاتم: هو سهل بن محمد بن عثمان السجستاني. تقدمت ترجمته؛ والنص عنه في "مجمع الأمثال" 2/ 331، وانظر "اللسان" 4/ 2038، و"التاج" 10/ 283 (سقط).]]: (سُقط فلان في يده، بمعنى: ندم)، وهذا خطأ مثل قول أبي نواس؛ لأنه لو جاز: سُقط فلان في يده، لجاز: سقطت في يدي، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان النظم: ولمّا سُقطوا في أيديهم، أو سقط القوم في أيديهم. وحقيقة معنى السقوط [[انظر: (سقط) في "العين" 5/ 71، و"الجمهرة" 2/ 835، و"الصحاح" 3/ 1132، و"المجمل" 2/ 466، و"مقاييس اللغة" 3/ 86، و"المفردات" ص 414.]]: نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ولهذا قالوا: سقط المطر، وسممى الجليد سَقِيطًا ، ويقال: سقط من يدي شيء، وأسْقَطت المرأة ولدها، ومنه سَقْط النار والولد، وسِقْطا الخِبَاء: جانباه اللذان يسقطان على الأرض، هذا أصل، ثم توسعوا واستعاروا هذه اللفظة حيث لا يكون هناك نزول من أعلي إلى أسفل تشبيهًا، فقالوا للخطأ من الكلام: سَقَط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، ويقال للرجل إذا أخطأ: كان ذلك منه سَقطة [[في (ب): (سقطًا).]]، شبهوا ذلك [بـ] السقطة [[لفظ: (الباء) ساقط من (ب).]] على الأرض، ومعنى ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أي: سقط الندم في أيديهم، ولم يذكر الندم، وقيل: سُقط، على ما لم يُسم فاعله، كما يقال: رُغب في فلان، على ما بيَّنا، وذكر اليد هاهنا لوجهين: أحدهما: أنه يقال للذي يحصل على شيء، وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد: قد [[في (ب): (فقد)، وهو تحريف.]] حصل في يده مكروه، يُشَبَّه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد بالذكر لأن مباشرة الذنوب بها، فاللائمة ترجع عليها لأنها هي الجارحة العظمى فيسند إليها ما لم تباشره كقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10]، وكثير من الذنوب لم تقدمه اليد [[انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 286.]]. الوجه الثاني: أن الندم حدث يحصل في القلب [[في (ب): (يحصل بالقلب).]]، وأثره يظهر في اليد؛ لأن النادم [[انظر: "مجمع الأمثال" 2/ 331.]] يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، كقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ [الكهف: 42]. فتقليب الكف عبارة عن الندم؛ لأن من ندم على شيء قلب كفيه وصفق اليمنى على اليسرى تحسرًا على ما فعل. ومن هذا أيضاً قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: 27]، أي: ندمًا وتحسرًا على كفره بالله، فلما كان أثر الندم يحصل في اليد من الوجه الذي ذكرنا أضيف سقوط الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فعل النادم هو تقليب الكف وعض الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يستشعره الإنسان، والذي يظهر من حاله الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه، والقراءة المشهورة ﴿سُقِطَ﴾ على ما لم يسم فاعله، وهذا الفاعل إذا ظهر لا بد من أن يكون الندم على ما ذكره الزجاج وغيره) [[لم أقف عليه عن الزجاجي في كتبه بعد طول بحث عنه وذكره الميداني في "مجمع الأمثال" 2/ 331، عن الزجاجي مختصرًا، ونقله السمين في "الدر" 5/ 462 - 463، وجعل الكلام في ذكر اليد من قول الواحدي، وقال الرازي في "تفسيره" 15/ 8: (حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط، وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج، ومعنى سقط في يده أي: وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى، فصار مثلًا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره) اهـ. ملخصًا. وانظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 216، و"المستقصى" 2/ 119.]]، هذا الذي ذكرناه معنى كلامه، وبعض لفظه، وهو صحيح واضح لا غبار عليه. [و] [[لفظ: (الواد) ساقط من (ب).]] قوله تعالى: ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا﴾ أي: وعلموا أنهم قد ابتلوا بمعصية الله، ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾ الآية. وهذا الندم والاستغفار إن كان بعد رجوع موسى إليهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب