الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الآية. قال أبو بكر [[أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم. تقدمت ترجمته.]]. (الذي بعد (ثم) مقدم على الذي قبلها في النّية، والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمَّد ﷺ؛ لأن التوراة أنزلت قبل القرآن. قال: وجواب آخر وهو: أن (ثم) أوجبت تأخير الخبر بعد الخبر الأول، أي: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151]، إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] ثم قال بعد ذلك: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يريد: ثم أخبركم بعد ما أخبرتكم به عن نزول القرآن على محمد (بنزول التوراة على موسى، فدخلت (ثم) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول) [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 152.]]. وهذا قول أبي إسحاق، وأنكر القول الأول فقال: ((ثم) لا يكون الذي بعدها معناه التقديم، وإنما دخلت ثم للعطف على معنى التلاوة، والمعنى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ وأتلو عليكم لا تقتلوا أولادكم، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ثم أتلو عليكم ما آتاه الله جل وعز موسى) [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 305 - 306، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 89، 90، و"معاني النحاس" 2/ 520، وذكر أبو حيان عدة أقوال في توجيه الآية ثم قال: (وهذه الأقوال كلها متكلفة، والذي ينبغي أن يذهب إليه أنها للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وقد ذهب إلى ذلك بعض النحاة) ا. هـ وانظر: معاني الحروف للرماني ص 105، و"غرائب الكرماني" 1/ 392، و"المغني" لابن هشام 1/ 117 - 118.]]. وقوله تعالى: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ كثر الاختلاف في هذا بين أهل المعاني، والذي يعتمد في تفسير هذا قولان مجمع على صحتهما: أحدهما: أن المعنى (تماما) من الله عز وجل على المحسنين، و ﴿الَّذِي أَحْسَنَ﴾ بمعنى: من أحسن، ومن أحسن هو المحسن، كأنه قيل: تمامًا على المحسن، والمحسن [يكون] [[لفظ: (يكون) ساقط من (ش).]] هاهنا في مذهب الجمع كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 2]، وهذا كما يقول الرجل: أوصي بمالي لمن غزا وحج وللذي غزا وحج] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ش).]]، يريد: الغزاة والحجاج، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن مسعود [[ذكرها الفراء في "معانيه" 1/ 365، وابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 398، والطبري في "تفسيره" 8/ 90، والنحاس في "معانيه" 2/ 519، وابن خالويه في "مختصر الشواد" ص 41.]] (تماما على الذين أحسنوا). والمحسنون [[في (ش): (فالمحسنون) بالفاء.]] هم الأنبياء صلوات الله عليهم [أجمعين] [[لفظ: (أجمعين) ساقط من (أ).]]، أو المؤمنون. وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميمًا منا على الأنبياء و [[في (أ): (أو المؤمنين).]] المؤمنين الكتب، وتفصيلًا منا لكل شيء، وإنما فسرنا التمام بالتتميم هاهنا لما يعود معناه إليك؛ لأنك إذا قلت: أعطيتك الشيء تمامًا، كان معناه: تممته لك [[هذا نص كلام ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 397 - 398.]]. القول الثاني: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ أي: على الذي أحسنه موسى من طاعة الله جل وعز واتباع أمره، أو على الذي أحسنه موسى من العلم، وكتب الله القديمة، فيكون (أحسن) بمعنى: علم، والتأويل ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا﴾ على ما أحسن من العلم والحكمة، وكتب الله المتقدمة، وأراد بقوله: (تمامًا) على ذلك، أي: زيادة على ذلك، والقولان ذكرهما الفراء [["معاني الفراء" 1/ 365 وقدم الوجه الأول.]] والزجاج [["معاني الزجاج" 2/ 305 - 306.]] وأبو بكر [[ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 154، عن أبي بكر بن الأنباري.]] وأبو محمد بن قتيبة [["تأويل مشكل القرآن" ص 397 - 398، تقرير الواحدي من نصه، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 90، و"إعراب النحاس" 1/ 593، و"المشكل" لمكي 1/ 278، وذكر أبو علي الفارسي في "العضديات" 169 - 171 ثلاثة أوجه في الآية، قال: (ووجه ثالث وهو أبينها وأوضحها ، ولا يختلف في جوازه على ذلك، وهو أن يكون المعنى: تمامًا على الذي أحسنه، فيكون في (أحسن) ذكر يعود على (موسى)، وتكون الهاء العائدة إلى الموصول محذوفة من الصلة، كأنه: على الأمر الذي أحسنه موسى، ومعنى (أحسن) أن يكون على ضربين أحدهما: أن يكون أحسنه بمنزلة حسنه، أي: حسنه لهم عند دعاء قومه إليه، وإقامته لهم البراهين والحجج عليه. والوجه الآخر: أن يكون (أحسن) بمنزلة علم، كأنه: تمامًا على الأمر الذي علمه ..) ا. هـ ملخصًا، وانظر: الدر المصون 5/ 227.]]. قال الزجاج: (و (تمامًا) منصوب على مفعول له وكذلك ﴿وَتَفْصِيلًا﴾ المعنى: آتيناه لهذه العلة أي: للتمام والتفصيل) [[معاني الزجاج 2/ 306، وانظر المراجع السابقة.]]، والمفسرون [[انظر: "تفسير الطبري" 8/ 90 - 91، و"معاني النحاس" 2/ 519 و"تفسير السمرقندي" 1/ 525.]] على هذين القولين، فالقول الأول قول مجاهد والحسن، قال مجاهد: (تمامًا على المؤمنين المحسنين) [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 90 بسند جيد، بلفظ: (على المؤمنين والمحسنين) وفي "تفسير مجاهد" 1/ 228: (على المؤمن)، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 90، وابن أبي حاتم 5/ 1423، عنه بلفظ: (على المؤمنين)، وقال السيوطي في "الدر" 3/ 106: (أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: (على المؤمنين المحسنين) اهـ.]]. وقال الحسن: (تمامًا على المحسنين، و ﴿الَّذِي أَحْسَنَ﴾ هو المؤمن) [[قال النحاس في "معانيه" 2/ 519: (قال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، وأنزل الكتاب (تماما على الذي أحسن)) اهـ وذكره الثعلبي في "الكشف" 186/ أ، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 143، بلفظ: (تمامًا على المحسنين). وهي قراءة الحسن كما في "الدر المنثور" 3/ 107، وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 189، وابن الجوزي 3/ 154، قال الحسن وقتادة: (تمامًا لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا) اهـ.]]. وقال الكلبي: (﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الألواح، فيها التوراة ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي﴾ أحسنه من تبليغ رسالاته) [[ذكر الرازي في "تفسيره" 4/ 14، عنه قال: (أتم له الكتاب على أحسنه).]]. وهذا معنى القول الثاني. وأجاز الفراء [["معاني الفراء" 1/ 365، وذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 90، 91، والنحاس في "إعرابه" 1/ 593، وأبو علي في "العضديات" ص 169.]] والكوفيون [[انظر: "الأغفال" ص 726.]] قولاً آخر وهو: أن يكون (أحسن) اسمًا موضعه خفض على النعت للذي وهو ساد مسد الصلة، ونائب عنها، يراد به: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ من غيره، فحذفت من لبيان أمرها، وجرى (أحسن) على إعراب (الذي) كما قالت العرب: مررت بالذي أخيك، وجلست إلى الذي مثلك، فحملوا على الذي إعراب الاسم بعده، وجعلوه [[في (أ): (وجعلوا).]] يسد مسد صلته، وأنشدوا: إن الدبيري الذي مثل الحلم [[لم أهتد إلى قائله، وعجزه: مَشَّى بَأَسْلاَبِكَ فيِ أَهْلِ العَلَمْ وهو في "معاني الفراء" 1/ 365 و"تفسير الطبري" 8/ 90، وفي "العضديات" ص 168، و"الشيرازيات" 8/ 8 أ: إن الدبيري الذي مثل الزُّلَمْ ... مشى بأسلابك في أهل الحَرَمْ والزُّلم بالضم: السهو، عند الفراء والطبري: إن الزبيدي بالزاء، والدبري: الذي يسنح أخيرًا عند ذوات الحاجة، أي: شره إذا أدبر الأمر وفات، انظر: "اللسان" 3/ 1321 (دبر) و3/ 1806 (زبر) والحلم بفتحتين: دودة تقع في الجلد فتأكله. انظر: "اللسان" 2/ 980، والشاعر يصف هذا الزبيري الذي سلبه ثيابه وأمواله، وهو يمشي في الناس بأنه قمئ قصير، أفاده الشيخ محمود شاكر في حاشية "تفسير الطبري" 12/ 234 - 235.]] فنصب مثل على الإتباع للذي، وهي سادة مسد صلته، وإنما جاز حمل (أحسن) على (الذي) و (الذي) معرفة و (أحسن) في تأويل نكرة؛ لأنه يطالب من، ومن يؤدي عن الإضافة، والمضاف معرفة، ومن كلام العرب: مررت يزيد خير منك، على أن خيرًا نعت لزيد؛ إذ كان كالمضاف من أجل صحبته من، وهذا كلام أبي بكر [[أبو بكر بن الأنباري، لم أقف على كلامه، وانظر: المسألة في الكتاب 2/ 105 - 109 - و404، وأمالي ابن الشجري 1/ 112، والإنصاف ص 585.]]، ويدل على صحة هذا القول قراءة يحيى [[القراءة برفع (أحسنُ)، وقد أخرجها الطبري في تفسيره 8/ 90 بسند جيد وذكرها النحاس في "معانيه " 2/ 520، وابن جني في "المحتسب" 1/ 234، وابن الشجري في "أماليه" 1/ 112، وذكرها سيبويه في "الكتاب" 2/ 108 بدون نسبة، وضعف == ابن جني في "المحتسب" هذه القراءة؛ لقبح حذف المبتدأ العائد على الذي.]] بن يعمر: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾، والتقدير: على الذي هو أحسن، أي: الذي هو أحسن الأشياء، وأحسن من غيره، وهذا يدل على أن (أحسن) هاهنا اسم، ويعضد هذا القول [أيضًا] [[لفظ: (أيضاً) ساقط من (أ).]] ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ يقول: (أتم له الكتاب على أحسنه) [[لم أقف عليه. وذكره الرازي في تفسيره 4/ 14 عن الكلبي.]] فجعل الأحسن من نعت الكتاب، نظيره ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ [[الحسنى: نعت للكلمة، انظر: "إعراب النحاس" 1/ 593، و"الفريد" 2/ 351.]] [الأعراف: 137]. وقال أبو إسحاق: (أجاز الكوفيون أن يكون (أحسن) في موضع خفض وأن [[في (ش): (أو يكون)، وهو تحريف.]] يكون من صفة (الذي) وهذا عند البصريين خطأ؛ لأنهم لا يعرفون الذي إلا موصولًا ولا توصف إلا بعد تمام صلتها) [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 305.]]، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عباس: (كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب) [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 143، والبغوي في "تفسيره" 3/ 206، والخازن 2/ 102.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب