الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: "يريد وظنوا أن الله لا يعذبهم" [["تفسير الوسيط" 2/ 211، ونسبه المحقق إلى تفسير ابن عباس ص 98.]]. وقال الكلبي: "أي ألا يُبْتَلَوا بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل" [[انظر: "النكت والعيون" 2/ 55، "تفسير الوسيط" 2/ 211، "تفسير البغوي" 3/ 82، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 120.]]. وقال قتادة: "وحسب القوم أن لا يكون بلاء" [[أخرجه الطبري 6/ 312.]]. وقال مقاتل: "وحسبوا أن لا يكون بلاءً، وقحط المطر" [[تفسيره 1/ 494.]]، فحصل في الفتنة ههنا: العقوبة والعذاب عن ابن عباس، والبلية عن الكلبي وقتادة، والشديدة والقحط عن مقاتل، وقال الزجاج: وحسبوا فعلهم غير فاتن لهم، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195.]]. وقال ابن الأنباري: قدروا أن لا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر، وظنوا أن ذلك لا يكون موبقًا لهم [[انظر: "زاد المسير" 2/ 401.]]. واختلفوا في إعراب: (ألا تكون) فنصبه بعضهم، ورفعه آخرون، والأصل في هذا الباب أن تعرف أن الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره، نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا وقع بعده (إنّ) الثقيلة ولم يقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك أن الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره، والعلم كذلك أيضًا، فإذا وقع على الثقيلة واستعمل معه كان وفقه وملائمًا له، وذلك قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [النور: 25] ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ [التوبة: 104]، و ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14] والباء زائدة [[سبق التنبيه أن مثل هذا التعبير غير لائق في جانب كلام الله عز وجل، لئلا يتوهم أن في القرآن زائدًا.]]، وكذلك ما كان معناه العلم كالتبين والتيقن، وهذا ضرب. والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الاستقرار والثبات نحو: أطمع وأخاف وأخشى وأشفق وأرجو، فهذا ونحوه لا يستعمل بعده إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشعراء: 82]، و ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ [الأنفال: 26] ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ [الكهف: 80] ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا﴾ [المجادلة: 13]. والضرب الثالث: فعل يجذب مرة إلى ذاك القبيل، ومرة إلى هذا القبيل، نحو: حسبت وظننت وزعمت، وهذا النحو يجعل مرة بمنزلة: أرجو وأطمع، من حيث كان أمرًا غير مستقر، ومرة يجعل بمنزلة العلم، من حيث استعمل استعماله، وفي هذه الآية أجري مجرى العلم، لأنهم عملوا عليما حسبوا، فكأنه أجري مجرى العلم، (ويمكن) [[هذه الكلمة ساقطة من (ج).]] أن يقال: إنما جعل بمنزلة العلم من حيث كان خلافه، والشيء قد يجري مجرى الخلاف في كلامهم، نحو: عطشان وريان، وكلا [[في (ج): (وكلي).]] الأمرين قد جاء به القرآن، فمثل قول من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ [العنكبوت: 4] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ﴾ [الجاثية: 21] ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ [العنكبوت: 2]. ومثل قراءة من رفع: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ [الزخرف: 80] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55] ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ﴾ [القيامة: 3]. فهذه مخففة من الثقيلة، لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها (أن)، ومثل المذهبين في الظن قوله تعالى: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا﴾ [القيامة: 25] ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا﴾ [البقرة: 230]. ومن الرفع قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ [الجن: 5] ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا﴾ [الجن: 7] فأنْ ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: 20] لأن (أن) الناصبة للفعل لا تجتمع مع (لن) ومع السين؛ لاجتماع الحرفين في الدلالة على الاستقبال، كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد، فمن رفع قوله: (أن لا تكون) كان المعنى: أنَّه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضًا من حذف الضمير، ولو قلت: علمت أن يقول، بالرفع، لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضًا من حذف الضمير، نحو قد والسين وسوف، كما قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: 20] ووجه النصب ظاهر. وقوله تعالى: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾، أي عن الهدى فلم يعقلوه [[انظر: "تفسير الطبري" 6/ 312، "بحر العلوم" 1/ 451، "النكت والعيون" 2/ 55، "تفسير البغوي" 3/ 82.]]، قال الزجاج: هذا مثل، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا ما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195، انظر: "بحر العلوم" 1/ 451.]]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، قال الحسن: "فاستنقذهم بمحمد فكذبوه" [[لم أقف عليه عن الحسن ، انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 341، "بحر العلوم" 1/ 451 ، "زاد المسير" 2/ 401.]]. قال [[في (ج): (فقال).]] أبو إسحاق: أي أرسل إليهم محمدًا ﷺ يعلمهم أن الله عز وجل قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195.]]. وقال أبو بكر: ثم تاب الله عليهم بإرساله محمدًا ﷺ داعياً إلى الصراط المستقيم، فكانوا بذلك معرضين للتوبة وإن لم يتوبوا. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾، أي بعد تبيّن الحق لهم بمحمد ﷺ عمي كثير منهم، خص الله تعالى بعضهم بالفعل الآخر من العمى والصمم، إذ لم يكونوا أجمعوا على خلاف النبي ﷺ [[انظر: "النكت والعيون" 1/ 478.]]، وارتفع ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بإضمار فعل مقدر يدل عليه: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾، كأنه قيل: عمي وصم كثير منهم. قاله الفراء [["معاني القرآن" 1/ 316.]] وابن الأنباري. وأجازاهما والزجاج أيضًا أن يكون جمع الفعل متقدمًا، كما حكي عن العرب أكلوني البراغيث [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 316، "معاني الزجاج" 2/ 195، 196.]]. وذكر الزجاج وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بدلاً من الواو، كأنه لما قال: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾ أبدل الكثير منهم، والثاني أن يكون ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ خبر ابتداء محذوف، والمعنى: والعمي والصم كثير منهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195، 196.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾، أي: من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، قاله مقاتل [[تفسيره 1/ 494.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب