الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد الإمساك عن الرزق" [["زاد المسير" 2/ 392، "الدر المنثور" 2/ 525.]]، وقال في رواية الوالبي: "ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده" [[أخرجه الطبري 6/ 3001، وعزاه في "الدهر المنثور" 2/ 525 أيضًا إلى ابن أبي حاتم.]].
قال المفسرون: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية، فلما عصوا الله في محمد وكذبوا به، كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، أي مقوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول الضحاك وعكرمة وقتادة والكلبي [["تفسير الطبري" 6/ 300، "بحر العلوم" 1/ 447، "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير البغوي" 3/ 76، "زاد المسير" 2/ 391، "الدر المنثور" 2/ 525.]] واختيار الفراء والزجاج وابن الأنباري.
قال الفراء: أرادوا ممسكة عن الإنفاق، والإسباغ علينا [["معاني القرآن" 1/ 315.]].
وقال الزجاج: أخبر الله عز وجل بعظيم فريتهم فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال الله جل وعز: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: 29]، تأويله: لا تمسكها عن الإنفاق [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 189.]].
وقوله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، أي جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، فلا يُلقى يهودي أبدًا غير لئيم راضع بخيل. وهذا قول الزجاج [[انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.]] وابن الأنباري، قال أبو بكر: وهذا خبر أخبر الله تعالى به ودل على أن هذين الأمرين وهما الغل واللعن قد نزلا بهم، والتقدير: فغلت أيديهم، أو وغلت أيديهم، فأضمر حرف العطف لأن كلامهم تم، وكان هذا كلامًا مستأنفًا يشبه أول الفصول، والعرب تحذف حروف العطف من رؤوس الآيات ومواضع الفصول نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: 67] أرادت فقالوا، فأضمر الفاء، وقد ذكرنا مثل هذا فيما تقدم.
وقال الحسن: "غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة" [["النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير الوسيط" 2/ 206، وانظر: "زاد المسير" 2/ 392، وتفسير الحسن البصري 1/ 333.]] أي شدت إلى أعناقهم، وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في جهنم، قال أبو بكر: ويجوز أن يكون قوله: (غلت أيديهم) دعاءً عليهم، معناه من الله تعالى التعليم لنا، فكأنه عز [[في (ج): (عن).]] ذكره وقفنا على الدعاء عليهم، كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع حين قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح: 27] فجرى الدعاء من الله مجرى الاستثناء منه، وكلاهما توقيف وتأديب، كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1]، وقد علا وعز أن يكون فوقه مدعو.
وقوله تعالى: ﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾، قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار [[انظر: "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير الوسيط" 2/ 206، "زاد التفسير" 2/ 393.]].
وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، حكى الزجاج عن بعض أهل اللغة أن هذا جواب لليهود، أجيبوا على قدر كلامهم فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾. أي هو جواد ينفق كيف يشاء. انتهى كلامه [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.]]، وفي هذا يحتاج إلى شرح وإيضاح، اعلم أن اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه: الجارحة، والنعمة، والقوة، والمِلك، وتحقيق إضافة الفعل [[انظر: تهذيب اللغة 4/ 3975 (يدي).]]، تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها، أي نعمة، قال عدي بن زيد [[هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو زيد، فإن البيت في النوادر لأبي زيد ص 53 منسوبًا لضمرة النهشلي كما سيأتي في عزوه.]]:
ولن أذكُرَ النعمان إلا بصالحٍ ... فإن لهُ عِندي يَدِيًّا وأنعُما [[البيت في "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص 53 نسبه لضمرة بن ضمرة النهشلي. وأفاد منه في "المسائل الحلبيات" ص 30، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 240، و"اللسان" 3/ 1874 (زنم).]]
جمع يدًا على: يديٍّ، كالكلِيْبِ والعبيد. فقوله: (يَدِيًّا وأنعُمًا) اليدي هي الأنعم في المعنى، وحسن التكرير لاختلاف اللفظين، كقوله:
أقوى وأفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ [[لم أقف على قائله.]]
ويستعمل اليد للقوة [[انظر: "المسائل الحلبيات" ص 27 - 97.]] وتُعنَى بها، قال الله تعالى: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45] فسروه: ذوي القوى والعقول [["النكت والعيون" 2/ 51.]]، وعلى هذا ما أنشده الأصمعي للغنوي:
اعمِد لما تعلُو فما لَكَ بالذي ... لا تستطيعُ من الأمورِ يَدَانِ [[البيت في "الأضداد" للأصمعي (ثلاثة كتب في "الأضداد" ص7)، و"المسائل الحلبيات" ص 28.]]
يريد ليس لك به قوة، ألا ترى أنه لا مذهب للجارحة ولا للنعمة هنا، وعلى هذا ما ذكره سيبويه من قولهم: (لا يدينِ بها لك)، ومعنى هذه التثنية: المبالغة في نفي الاقتدار والقوة على الشيء، وليس المراد بالتثنية الاثنين الناقص عن الثلاثة، إنما هو الكثرة، ويستعمل بمعنى الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه [[انظر: "المسائل الحلبيات" ص 29.]]، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 237]، ويستعمل بمعنى التولي للشيء وتحقيق إضافة الفعل، كقوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75] أي لما توليت خلقه [[هنا تعسف ظاهر، والتثنية لليدين تدل على إثبات صفة اليد لله عز وجل، بل تؤكد ذلك!.]] تخصيصًا لآدم وتشريفًا بهذا، وإن كان جميع المخلوقات هو خالقها لا غير، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء، إذا ضمنت له شيئًا [[انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3975 (يدي).]]، وكأن معنى هذا اجتهادي وطاقتي، ويستعمل أيضًا حيث يراد النصرة، وذلك فيما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "وهم يد على من سواهم" [[أخرجه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الإمام أحمد في مسنده 1/ 122، وأبو داود (4530) كتاب: الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟.
وأخرجه ابن ماجه (2683) كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس ومعقل بن يسار - رضي الله عنه -.]] أي نصرتهم واحدة وكلمتهم مجتمعة على من شق عصاهم [[انظر: "المسائل الحلبيات" ص 30، "تهذيب اللغة" 4/ 3977 (يدي).]].
وكذلك قوله عليه السلام: "أنا وبنو [[في (ج): (بني).]] المطلب يدٌ واحدةٌ، لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" [[أخرجه بنحوه الإِمام أحمد في مسنده 4/ 81 من حديث جبير بن مطعم، والنسائي 7/ 130 - 131 كتاب قسم الفيء.]] كأنه أهل نصرة واحدة وكلمة واحدة، وقال أحمد بن يحيى: اليد الجماعة، ومنه الحديث: "وهم يد عَلَى مَنْ سواهم" [[تقدم تخريجه قريبًا.]]، وتستعمل اليد للشىء الذي لا يد له تشبيهًا بمن له اليد، قال ابن الأعرابي: يد الدهر: الدهر كله، يقال: لا آتيه يد الدهر، ولد المسند، وكقول ذي الرمة:
أَلاَ طَرَقَت ميٌّ هَيُومًا بِذكرِها ... وأيدي الثُّريا جُنَّحٌ في المَغَاربِ [["ديوانه" ص 55.]]
فقوله: "أيدي الثُّريا" استعارة واتساع، وذلك أن اليد إذا مالتَ نحو الشيء ودنت إليه، دلل على قربها منه، ودَنوِّها نحوه، وإنما أراد قرب الثريا من المغرب لأفولها، فجعل له يدِيًّا جُنَّحًا نحوها، وأصل هذه الاستعارة لثعلبة بن صُعَير [[ثعلبة بن صُعَير بن خزاعي المازني المري، شاعر جاهلي من شعراء المفضليات، "الأعلام" 2/ 99.]] في قوله:
ألقت ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ [[لم أقف عليه.]]
فجعل للشمس يدًا في المغيب لما أراد أن يصفها بالغروب. ثم للبيد في قوله: حتى إذا ألقت يدًا في كافر.
يعني الشمس بدأت في المغيب، واعلم أن يدًا وزنها: (فَعْلٌ)، يدل على ذلك قولهم: أَيْدٍ، وجمعهم على أفعُل يدل على أنه: (فَعْلٌ)، لأنه أفْعُلًا جمع فَعْل المختص [[في (ج): (المختصر).]] به كأَفلُس وأكلُب، كما دل آباء وآخاء على وزن: أخِ وأبِ فَعَلٌ لجمعهم لهما على: أفعال، نحو: أجبال وأجمال، وأفعال جمع فَعَل في الأمر الشائع وإن كان قد جاء نادرًا في جمع فَعْل، نحو: زيد وأزياد، وأنف وآناف، والدال التي هي عين الفعل في يد وإن كانت متحركة بالكسر فأصلها الضم، كما أنها في أكلب وأكعُب [[في (ج): (ألعب).]] كذلك (.......) [[بياض في (ج)، (ش).]] حركت بالضم لانقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا لانضمام ما قبلها، فأبدل من الضمة كسرة، فقالوا: حقوٍ وأحقِ، وظبي وأضبٍ، وجِرْوِ وأجر، والياء التي هي لام تحذف لالتقاء الساكنين هي والتنوين، واللام من يَديًا، يدل على ذلك قولهم: يديت إليه يدًا وأيديت. قال بعض بني أسد:
يديت على حُسحَاس بن وَهْبِ [[لم أقف عليه.]]
فيد في الأصل يَدْيٌ [[انظر: "الممتع في التصريف" 2/ 624.]]، والفاء واللام من جنس واحد، وهو من باب سلس وقلق، قال أبو علي: ولا نعلم لذلك في الكلام نظيرًا. هذا قوله في أصل يدِ [[لم أقف على كلام أبي علي، وانظر: "الممتع في التصريف" 1/ 60، 409، 2/ 562، 624.]]، وقال أبو الهيثم: أصله يدًا مثل قفًا ورحًا، ثم ثَنَّوا على الأصل فقالوا: يديان، وأنشد:
يديان بيضاوان عند مُحُلَّم ... قد تمنعانك بينهم أن تهضما [[لم أقف عليه.]]
وقال آخر في الواحد:
يا رُبَّ سارٍ سار ما توَسَّدَا ... إلا ذرع العنس أو كف اليدا [[لم أقف عليه.]]
هذا هو الكلام في أصل هذا الحرف ومعانيه في اللغة على حد الاختصار، وقد تستعمل اليد وتستعار في مواضع كثيرة يطول بذكرها الكلام، ولما كان الجواد يفرق المال وينفقه بيده، والبخيل يمسك اليد عن الانفاق أسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل، فقيل للجواد: فيَّاض الكف، مبسوط اليد، سبي البنان، ثرة الأنامل، في ألفاظ كثير معروفة في أشعارهم. ويقال في ضد ذلك للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل في أشباه لهذا كثيرة.
واليهود لعنهم الله وصفوا الله تعالى بالبخل فقالوا: يد الله مغلولة. على ما بينا في تفسيره في أول الآية، فأجيبوا [[سقطت بعض أحرف هذه الكلمة في (ج).]] على قدر كلامهم، ورد عليهم بضد ذلك فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد، فليس لذكر اليد في الآية على هذا المعنى معنًى إلا إفادة معنى الجود والبخل [[المؤلف عفا الله عنه أول اليد هنا بالجود، والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة إثبات صفة اليد لله عز وجل حسبما دلت عليه هذه الآية وغيرها على ما يليق بجلال الله وعظمته، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "ففي قول الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبىء عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع النعمة وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة ... وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله وقال به العلماء وأهل التأويل "تفسير الطبري" 6/ 302، وقال البغوي في "تفسيره" 3/ 76، 77: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، وقال النبي ﷺ: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم".
وسيأتي في سياق المؤلف كلام أبي عبيد والزجاج وأبي بكر بن الأنباري في إثبات صفة اليد والرد على من أولها، وإن كان المؤلف لم يأبه بتقريرهم، وتعلق بما عليه الأشاعرة من التعسّف في التأويل.]]، ومعنى التثنية في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ} المبالغة في الجود والإنعام، وهذا طريق في معنى الآية صحيح.
وذهب بعض أهل اللغة أن معنى اليد في هذه الآية النعمة [[هذا مذهب الأشاعرة!! وسبق من كلام الأئمة كالطبري، والبغوي ما يبين ضعفه ورده.]] قال في قوله: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ معناه: نعمة الله مقبوضة، وأنكر أبو عبيد والزجاج وابن الأنباري هذا القول، فقال أبو عبيد: من قال هذا فقد زعم أنه ليس لله على العباد إلا نعمتان، لأنه يلزمه أن يقول في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: نعمتاه.
وقال الزجاج: هذا القول خطأ، ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى.
وقال أبو بكر: هذا القول محال في هذه الآية، لأن نعم الله تعالى لا يحاط بعددها، وآلاؤه تفوق الإحصاء، فكيف يقول: نعمتاه مبسوطتان، فيوقع التثنية في الشيء الذي يُقَصِّر كل جمع عنه. الدليل على ما نَصِف قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [ابراهيم: 34، النحل: 18] [[انظر: "زاد المسير" 2/ 393.]]. انتهت الحكاية عنهم.
فهؤلاء الأئمة أنكروا هذا القول، وهو صحيح، وإن أنكروا وذهب عليهم وجه صحته.
قال أبو علي فيما أصلح علي أبي إسحاق: قد دل كلام أبي إسحاق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ على أن المراد به الإمساك، لأنه شبه ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: 29]، وإذا كان ما حكى عن اليهود من هذا المراد به تبخيل الله تعالى عن ذلك فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ رد لم افتروه وإبطال لما بهتوا فيه ونفي له، يدلك على ذلك عطفه بالحرف الدال على الإضراب عما قبله والإثبات لما بعده، فإذا كان المراد بالأول التبخيل والإمساك وكان هذا الثاني نفيًا للأول، وجب أن يكون المراد به إثبات النعمة التي أنكروها وادعوا أنها مقبوضة عنهم، فإنكاره على من قال: إن معنى ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ نعمته مقبوضة عني [[في النسختين: (عنا).]] هو الإنكار لما اعترف به، وقوله: وهذا القول خطأ ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى، فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ لا يدل على تقليل النعمة وعلى أن نعمته نعمتان ثنتان ليس غيرهما، ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة، وقد جاء التثنية يراد بها الكثرة والمبالغة وتعداد المَثْنَى، لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد، ألا ترى أن قولهم: "لبّيك" إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك: "سعديك" إنما هو مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد بذلك طاعتين ثنتين، ولا مساعدتين ثنتين [[انظر: "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير القرطبي" 6/ 239.]]، فكذلك الآية، المعنى فيها أن نعمته متظاهرة متتابعة، ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة، وهذا الذي ذكرناه في: "لبيك وسعديك" وأن المراد به الكثرة قول الخليل وسيبويه ومن وراءهما، فهذا وجه.
وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس، لا تثنية واحد مفرد، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا والآخر نعمة الآخرة ونعمة الدين، فلا تكون التثنية على هذا مرادًا بها اثنتين، وقد جاء تثنية اسم الجنس في كلامهم مجيئًا واسعًا [[انظر: "المسائل الحلبيات" ص 68،"تفسير القرطبي" 6/ 239.]]، قال الفرزدق:
وكُلُّ رفيقي كُلِّ رحلٍ وإن هُما ... تعاطَى القَنَا قوماهما أخوَانِ [[البيت في "المسائل الحلبيات" ص 68 ونسبه المحقق إلى: "ديوان الفرزدق" 2/ 329.]]
فتأويل الرفيقين في البيت العموم والإشاعة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون رفيقان اثنان لكل رحل.
وبعد، فإذا كانوا قد استجازوا تثنية الجمع الذي على بناء الكثرة كقوله:
لأصْبَحَ القومُ أوتادًا ولم يجِدوا ... عندَ التفرُّق في الهيجَا جمَالينِ
وكقول أبي النجم:
بين رماحي مالك ونهشل
ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم: "لقاحان سوداوان" فأن يجوز تثنية اسم الجنس أجدر، لأنه على لفظ الواحد، فالتثنية فيه أحسن، إذ هو أشبه بألفاظ الأفراد، فإذا بان أن هذه التثنية لا تقتضي قول هذا القائل: نعمة الله مقبوضة ولا تنافيه، ولم ينكر اليد في اللغة بمعنى النعمة صح قوله الذي أنكره أبو إسحاق [[يعني الزجاج، وقد تقدم إنكاره لتفسير اليد هنا بالنعمه، وأن الزجاج ذهب مذهب أهل السنة وهو منهم في إثبات صفات اليد لله عز وجل على ما وصف به نفسه كما في هذه الآية، ووصفه بها رسوله ﷺ.]]، وبأن تحامله عليه [[بل إن المؤلف ومن أخذ عنه كأبي علي الفارسي هم المتحاملون على أهل السنة في تفسير هذه الآية الجلية في إثبات صفة اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.]]، انتهى كلام أبي علي [[لم أقف عليه فيما بين يدي من مؤلفات لأبي علي الفارسي، وكذا ما نسبه لسيبويه والخليل.]]، وذهب إلى هذا القول من المفسرين محمد بن مقاتل الرازي [[المتوفى سنة 242 هـ وهو حنفي فاضل، حدث عن وكيع لكنه غير مشهور، ولم أقف له على تفسير، انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 172، "معجم المؤلفين" 3/ 730.]] فقال: أراد: نعمتاه مبسوطتان، نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾، أي: يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع [[انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 490، "تفسير الطبري" 6/ 300، "بحر العلوم" 1/ 448.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، قال أبو إسحاق: أي كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.]].
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، أي بين اليهود والنصارى عن الحسن [["النكت والعيون" 2/ 52، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 77.]] ومجاهد [[أخرجه عن مجاهد "تفسير الطبري" 6/ 302، "تفسير الوسيط" 2/ 207، "تفسير البغوي" 3/ 77، "زاد المسير" 2/ 394.]]، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51] [["تفسير الطبري" 6/ 302، "زاد المسير" 2/ 394.]].
وقيل: أراد طوائف اليهود [["النكت والعيون" 2/ 52، "تفسير البغوي" 3/ 77.]]، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال جل وعز: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14] وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جَدَّهم وشوكتهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.]].
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾، أي لحرب محمد ﷺ [["تفسير الطبري" 6/ 304.]]، وقال ابن عباس: "يريد كلما أرادوا محاربتك ردهم الله وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك" [["تفسير الوسيط" 2/ 207، ونسبه محققه إلى تفسير ابن عباس ص 97، "زاد المسير" 2/ 394.]]، وهو قول الحسن ومجاهد [[انظر: "تفسير البغوي" 3/ 77، "الدر المنثور" 2/ 526.]]، واختيار أبي إسحاق، قال: هذا مثل، أي: كلما جمعوا على النبي ﷺ والمسلمين، وأعدوا لحربهم، فرق الله جمعهم وأفسد ذات بينهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.]].
قال قتادة: هذا عام في كل حرب طلبته اليهود، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس [[أخرجه الطبري 6/ 303، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 336، "تفسير البغوي" 3/ 77.]].
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾، قال ابن عباس: "يريد سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم" [[انظر: "زاد المسير" 2/ 394، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 118.]].
وقال الزجاج: أي يجتهدون في دفع الإسلام، ومحو ذكر النبي ﷺ من كتبهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 191.]].
{"ayah":"وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۚ وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادࣰاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق