الباحث القرآني
فنزل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ الآية [["تفسير الطبري" 7/ 117، "تفسير البغوي" 3/ 113.]].
قال الليث: عثر الرجل يعثرُ عُثُورًا: إذا هجم على أمرِ لم يهجُم عليه غيره، وأعثرت فلانًا على أمري، أي: أطلعته، وعَثَر الرجل يَعْثُر عَثْرة، إذا وقع على شيء [["تهذيب اللغة" 3/ 2327 (عثر).]].
قال أهل اللغة: وأصل عثر بمعنى اطلع، من العثرة التي هي الوقوع، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، ثم إذا عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًا عنه: قد عثر عليه. وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: 21]، أي: أطلعنا عليهم، ومعنى الآية: فإن ظُهِر أنهما أتيا خيانة واستحقا الإثم أي: استوجباه بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحريا الحق وحنثا في اليمين، ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾، أي: مقام الشاهدين الذين هما من غيرنا.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ﴾، قال الزجاج: هذا موضع من أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ صفة للآخرين، وقوله: ﴿اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ صلة الذين. ومعنى ﴿اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ أي: استحقت الوصية عليهم، أو استحق الإيصاء عليهم، وهم ورثة الميت. ويجوز أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم الإثم، كأن المعنى من الذين جنى عليهم الإثم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 216، 217.]]، وقال بعضهم: معنى (على) ههنا معنى (في) والمعنى: من الذين استحق فيهم الإثم، أي: بسببهم استحق الحالفان اللذان من غيرنا فيهم الإثم بيمينهما الكاذبة. وقامت (على) مقام (في) كما قامت (في) مقام (على) في قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: 71] وقال بعضهم: معنى (على) معنى (من) كأنه قيل: من الذين استحق منهم الإثم، وكانت (على) بمنزلة (من) كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ [المطففين: 2] أي: من الناس [["معانى القرآن وإعرابه" 2/ 217.]].
قال صاحب النظم مختارًا لهذا القول: ﴿الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ أي: نيل منهم ظلم بالخيانة وهم ورثة المتوفى الموصي. انتهى كلامه، والمسند إليه استحق الإيصاء والإثم على ما بينا، وحذف ذلك لتقدم ذكر الوصية والإثم في قوله: ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ وقوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾ لا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء، وقد أُخِّر كأنه في التقدير: فالأوليان بأمر [[في (ج): (بالأمر).]] الميت آخران من أهله يقومان مقام الخائنين الذين عُثِر [[في (ج): (عثرا).]] على خيانتهما، كقولك: تميمي أنا، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في (يقومان)، فيصير التقدير: فيقوم الأوليان [["الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 267، و"معاني الزجاج" 2/ 216،217.]].
وقد أجاز أبو الحسن الأخفش أن يكون (الأوليان) صفة لقوله (فآخران) لأنه لما وُصف (آخران) اختص بما وُصفَ به فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف [["معاني القرآن وإعرابه" للأخفش 2/ 479، و"الحجة" لأبي علي 3/ 267.]].
وقال صاحب النظم: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله عز وجل: ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: 35] فمصباح نكرة، ثم قال: ﴿الْمِصْبَاحُ﴾ ثم قال: ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾ ثم قال ﴿الزُّجَاجَةُ﴾ وهذا مثل قولك: رأيت رجلاً، فاستفهمك إنسان فقال: من الرجل؟ فصار العود إلى ذكره معرفة، قال: ويجوز أن يكون (الأوليان) بدلاً من قوله: (آخران) وإبدال المعرفة من النكرة سائغ كثير، ومعنى الأوليان: أي: الأقربان إلى الميت. ويجوز أن يكون المعنى: الأوليان باليمين [[انظر: "الحجة" 3/ 268.]]، وإنما كانا أوليين باليمين؛ لأن الوصيين ادعيا أن الميت باع الجام [[في (ش): (الجازم) والأقرب ما أثبته. "تفسير الطبري" 7/ 115، و"الإصابة" 1/ 184.
والمقصود بالجام ما أخذه تميم وأخوه من مال الميت وهو الإناء، والجام قال الأزهري في تعريفه: "عن ابن الأعرابي: الجام الفاثور من اللجين". "تهذيب اللغة" 1/ 525 (جام).
والفاثور: الخوان أو المائدة. قال محقق الطبري 11/ 185: (ط. شاكر) "الجام إناء من فضة، وهو عربي فصيح مخوص بالذهب".]] فانتقل اليمين إلى الوليين؛ لأنهما صار مُدَّعًى عليهما أن مورثهما باع الإناء، وهذا كما لو أقر إنسان لآخر بدين وادعى قضاءه حُكِمَ برد اليمين إلى الذي ادعى الدين، لأنه صار مُدَّعى عليه أنه استوفى، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر: (الأوَّلِينَ) على الجمع [["تفسير الطبري" 7/ 114، و"الحجة" 3/ 260، والنشر في القراءات العشر 2/ 256.]]، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ وتقديره: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم. وإنما قيل لهم: الأولين فمن حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى قد تقدم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وكذلك: ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ ذكرا في اللفظ قبل قوله: (أو آخران من غيركم) [[انظر: "الحجة" 3/ 169، و"حجة القراءات" ص 238.]]، وكان ابن عباس يختار هذه القراءة ويقول: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما [[أخرجه الفراء في "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 324، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 381، و"حجة القراءات" ص 238.]]، أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الجانيين، وقرأ حفص وحده (اسْتَحَقَ) بفتح التاء والحاء، (الأوليان) على التثنية [[فى رواية حفص عنه ، "الحجة" 3/ 260 - 261. و"حجة القراءات" ص 238، و"النشر" 2/ 256.]]، واستحق ههنا: بمعنى حق، أي: وجب، والمعنى: فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميتهم وهم ورثته.
وقوله تعالى: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾، قال ابن عباس: يريد ليميننا أحق من يمينهما [[انظر: "بحر العلوم" 1/ 465، "تفسير البغوي" 3/ 114.]].
وهذا ملتقى به ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ لأن معناه: فيقولان: والله لشهادتنا، وسميت اليمين ههنا شهادة؛ لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف أنه كذلك، وقد يقول القائل: أشهد بالله، أي: أقسم عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾، قال ابن عباس: أي: فيما طلبنا من حقنا [["تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 125.]]، وقيل: وما اعتدينا فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما [[انظر: "بحر العلوم" 1/ 465، "تفسير البغوي" 3/ 114.]]، وكل ما ذكرنا في هذه الآية أكثره قول أبي علي [[انظر: "الحجة" 3/ 261 - 270.]] وأبي إسحاق [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 214 - 217.]].
وقال عبد الله بن مسلم في ذكر معنى هذه الآية على سياق واحد موافق لما قدمنا: ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ بعد ما حلف الوصيان ﴿عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ أي: حنثًا في اليمين بكذبٍ في قولٍ أو خيانةٍ في وديعةٍ، قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت، فيحلفان بالله لقد ظُهِر على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما [["تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 379، 380 باختصار.]].
رجعنا إلى قصة تميم وعدي، قالوا: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو ابن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله أنهما خانا وكذبا، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت، وغرم تميم وعدي ما أخذاه من ثمنه، فكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي ﷺ يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره [[أخرجه الطبري 7/ 115 - 116 عن عكرمة، وكذا ابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 603.]]، وروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام [["القرطبي" 6/ 358.]].
{"ayah":"فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰۤ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّاۤ إِثۡمࣰا فَـَٔاخَرَانِ یَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَیَـٰنِ فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَـٰدَتُنَاۤ أَحَقُّ مِن شَهَـٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَیۡنَاۤ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق