قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لما ذكر عيسى، وقدرة الله تعالى فيه وخلقه إياه من غير ذكر، وما كان يفعل من إحياء الموتى وغير ذلك إذا قومك منه يصدون يريد: يضجون كضجيج الإبل بالأثقال [[ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 103.]].
وقال مجاهد في هذه الآية: قالوا إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدَ قومُ عيسى عيسى [[أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: 13/ 85، ونسبه الماوردي لمجاهد 5/ 233، ونسبه القرطبي لمجاهد 16/ 102.]].
وقال قتادة: لما ذكر عيسى بن مريم جزعت قريش من ذلك وقالوا: ما يريد محمد إلا أن يصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم [[انظر: "تفسير الطبري" فقد أخرجه عن قتادة 13/ 85، ونسبه الماوردي لقتادة 5/ 133، وكذلك نسبه القرطبي لقتادة 16/ 102.]]. هذا قول هؤلاء، وأريد بهذا المثل قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 59]، وهي مذكورة في آل عمران بعد ما ذكرت أحوال عيسى، وما أظهر الله على يده من المعجزات ومعنى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ لما شبه عيسى في إحداث الله إياه من غير فحل بآدم أو خلق من غير أب ولا [آدم] [[كذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب (ولا أم).]] إذا قومك منه يصدون، أي يضجون ويقولون: ما يريد محمد إلا أن نعبده [[انظر: "تفسير الطبري" 13/ 85]]، والمعنى على أنهم لما سمعوا ذكر عيسى ظنوا أن محمدًا إنما يذكره بأوصافه ليصنع به قومه ما صنع قوم عيسى بعيسى فلذلك ضجوا.
وفي: ﴿يَصِدُّونَ﴾ قراءتان: ضم الصاد وكسرها. قال الأخفش والكسائي: هما لغتان قريبتان لا تختلفان في المعنى، ونحو ذلك ذكر الفراء، قال الزجاج: ومعناهما جميعًا يضجون [[انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 690، "معاني القرآن" للفراء 3/ 36، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 416، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 376.]]. قال: ويجوز أن يكون معنى المضمومة يعرضون [[هذا تابع لقول الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 416.]].
قال الأزهري: وإذا كان بمعنى يضجون [[يقال: أضَجَّ القوم اضجاجًا إذا صاحو وجَلَّبُوا، فإذا جزعوا من شيء وغُلِبُوا قيل: ضجُّوا يَضِجُّون. انظر: "تهذيب اللغة" (ضج) 10/ 447.]]، فالوجه الكسر في يصدون، وبه قرأ ابن عباس وفسره يضجون [[انظر: "تهذيب اللغة" (صد) 12/ 104، "حجة القراءات" ص 652.]].
واختاره أبو عبيدة قال: ونرى مَنْ ضمها أراد الصدود عن الحق ولو كان من هذا القبيل [..] [[كذا في الأصل وقد سقط لفظ: (لكان).]] ﴿عَنْهُ﴾ يصدون ولم يكن ﴿مِنْهُ﴾ ولكنه عندنا على ما فسره ابن عباس يضجون.
وقال أبو عبيدة: يصدون يضجون، ومن ضمها أراد يعدلون [[انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 205.]] ويريغون [[قال الليث: الرَّوّاغ: الثعلب، وهو أروَغُ من ثعلب، وطريق رائغ مائل، وراغَ فلانُ إلى فلانٍ إذا مال إليه سرًّا. انظر: كتاب: العين (روغ) 4/ 445، "تهذيب اللغة" (راغ) 8/ 186.]] وأما تعلق أبي عبيدة بقوله: (منه) ولم يقل عنه، فذلك لا يدل على ترجيح الكسر؛ لأن من ذهب في (يصدون) إلى الضم بمعنى: يعدلون، كان المعنى إذا قومك منه، أي: من أجل المثل يصدون، ولم يصل يصد بـ (من) ومن قرأ بالكسر جعل (من) متصلة به كما تقول: ضج من كذا، وذكر ذلك أبو علي [[انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 155.]].
وذكر أكثر المفسرين [[انظر: "تفسير الطبري" 13/ 86، "الثعلبي" 10/ 87 ب، "تفسير مقاتل" 3/ 799.]] أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى مع النبي -ﷺ- لما نزل قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ [الأنبياء: 98] وقد ذكرنا تلك القصة، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي ومقاتل [[أخرج ذلك الواحدي في "أسباب النزول" عن ابن عباس، انظر: "أسباب النزول" ص 397، وأورده مقاتل في "تفسيره" بدون سند، انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798، وأورده السيوطي في "لباب النقول وعزاه" لأحمد والطبراني، انظر: "لباب النقول" ص 189، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد وعزاه" لأحمد والطبراني قال: وفيه عاصم بن بهدلة وثقه أحمد وغيره وهو سيء الحفظ وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 104. وملخص القصة: قال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعرى مع النبي -ﷺ- في شأن عيسى وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمداً يتلوا: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول له، قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرًا أفهما من حصب جهنم؟، فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ ولو تأمل ابن الزبعرى الآية، ما أعترض عليها؛ لأنه قال: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل ومن تعبدون. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 103.]]، وعلى هذا القول: معنى ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ قال مقاتل: ولما وصف ابن مريم شبهًا في العذاب في الآلهة أي: فيما قالوه وعلى زعمهم لأن الله لم يذكر في تلك الآية عيسى ولم يرده بقوله: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أو إنما أراد أوثانهم ولكنهم ألزموه عيسى جدلاً وعتبًا، ومعنى: (يضجون) على هذا القول صحيح الجدال والمخاصمة أو صحيح السرور، حيث ظنوا أنهم خصموه بتسويتهم بينه وبين آلهتهم، فقد قال بعض المفسرين: يضجون، ولا يتوجه الاعتراض على هذا القول، ويدل على صحة هذا القول الثاني في الآية.
{"ayah":"۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡیَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ یَصِدُّونَ"}