الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية. دخول (لا) في أول الكلام يحتمل معنيين: أحدهما: أن (لا) ردّ لكلام سبق، كأنه قيل: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك. ثم استؤنف القسم بقوله: ﴿وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ [["تفسير الطبري" 5/ 158، "الكشف والبيان" 4/ 83 ب، وانظر: "الدر المصون" 4/ 19.]]. الثانى: أن (لا) توطيدٌ للنفي الذي يأتي فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وآخره كان أوكد وأحسن، لأن النفي يتصدر الكلام وقد اقتضى القسم أن يذكر في الجواب [[انظر: "البحر المحيط" 3/ 284، "الدر المصون" 4/ 19.]]. واختلفوا في هذه الآية، فذهب عطاء مجاهد والشعبي، أن هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، وأن هذه الآية متصلة بما قبلها [[أخرج الأثر عن مجاهد والشعبي الطبري 5/ 159 - 160، وابن المنذر عن مجاهد. انظر: "الدر المنثور" 2/ 322. وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 83 ب، "النكت والعيون" 1/ 503، "معالم التنزيل" 2/ 245، "الرازي" 10/ 163 ونسبه الرازي إلى عطاء. واختاره ورجحه الطبري 5/ 160، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 456.]]. وهو اختيار الزجاج [[انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70.]]. وقال آخرون: هذه مستأنفة، نازلة في قصة أخرى، وهي ما روي عن عروة بن الزبير: أن رجلًا من الأنصار [[قيل: هو: حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: ثعلبة بن حاطب. انظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 155، "معالم التنزيل" 2/ 245.]] خاصم الزبير في شراج الحرّة [[الشراج: جمع شرج وهو مجرى الماء، والحرة: موضع بالمدينة، أرض ذات حجارة سوداء. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 160، "اللسان" 2/ 828 (حرر).]] التي يسقي بها (كلاهما) [[غير واضحة في (ش)، وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 167 - 168. وقد رجح محمود شاكر في تحقيقه للطبري 8/ 519 أن تكون هذِه الكلمة: "كلاهما" وهو العشب.]]، فقال رسول الله ﷺ للزبير: "اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" وقضى للزبير على الأنصاري، فقال الأنصاري: إنك تُحابي ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال للزبير: "اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" [["الجدر: بفتح الجيم وكسرها ... والمراد بالجدر أصل الحائط، وقيل أصول الشجر والصحيح الأول". "صحيح مسلم" 4/ 1830 حاشية (4)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 246.]]. قال الزبير: والله إن هذه الآية نزلت في ذلك ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية [[أخرجه البخاري (4585) في التفسير سورة: النساء، باب: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك ..﴾ 5/ 180، ومسلم (2357) في الفضائل، باب: وجوب اتباعه ﷺ، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 607، "أسباب النزول" ص167 - 168.]]. واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء، وحقه تمام السقي، وتمامه أن يبلغ الماء الجدر [[انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163.]] وأقل السقي ما سمي سقيًا. قال الزهري (...) [[كلمة غير واضحة في (ش) ويمكن أن تقدر بـ: [وذلك في] ماء الأنهار.]] ماء الأنهار قول النبي ﷺ: "حتى يبلغ الماء الجذر" فكان ذلك إلى الكعبين. وأمر رسول الله ﷺ الزبير (....) [[غير واضح بقدر كلمتين، ويبدو أنها "أن يسقي" أو نحوها، انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163.]] على المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب، ولم يعرف حق ما أمره به النبي من المسامحة (لأجل) [[هكذا في المخطوط، وفي "التفسير الكبير" للرازي 10/ 163: "لأجله"، وهو أصوب.]] أمره النبي ﷺ باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق [[انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163.]]. وقوله تعالى: ﴿شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾. يقال: شجر بينهما من خصومة (أي اختلف واختلط) [[ما بين القوسين غير واضح تمامًا، وانظر: "الوسيط" للمؤلف 2/ 609.]]. قال الفراء: يشجر [[في "الوسيط" 2/ 609: (شجر يشجر).]] شجورًا وشجرًا. وشاجره في الأمر إذا نازعه في الأمر مشاجرة وشجارًا. وتشاجروا تشاجرا واشتجروا، وكل ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض، (ومنه) [[غير واضحة تمامًا، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 163.]] يقال لخشبات الهودج شجارٌ لتداخل بعضها في بعض [[كلام الفراء ليس في "معاني القرآن"، فقد يكون في كتابه المفقود: "المصادر"، وانظر: الطبري 5/ 158، "تهذيب اللغة" 2/ 1830، "مقايس اللغة" 3/ 246 (شجر)، "الوسيط" 2/ 609، "التفسير الكبير" 10/ 163.]]. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بالمشاجرة: المنازعة [[لم أقف عليه، وقد قال السيوطي: أخرج الطستي عن ابن عباس ... ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ قال: "فيما أشكل عليهم"، "الدر المنثور" 2/ 323.]]. وقال الضحاك و (...........) [[ما بين القوسين بياض في (ش)، ولم أقف على قول للضحاك في تفسير هذِه الآية.]]. وقال الكلبي: فيما التبس بينهم [["تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88.]] وذلك أن الاختلاط والتداخل يؤدي إلى الالتباس. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾. أصل الحرج في اللغة الضِّيق، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه: حرج، وجمعه حراج [[انظر: الطبري 5/ 158، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 129، "تهذيب اللغة" 1/ 755، "الصحاح" 1/ 306 (حرج)، "التفسير الكبير" 10/ 164.]]، ومنه قول العجاج: عاين حيًّا كالحراج نعمه [[نسبه في "الصحاح" 1/ 306 (حرج) لرؤبة بن العجاج، وفي "اللسان" 2/ 822 (حرج). وهو صدر بيت من الرجز، عجزه: يكون أقصى شدِّه محر نجمه= والشاهد أن النعم وهي الإبل كالحراج وهي الشجر الملتفة الكثيرة.]] وسنذكر هذا بأبلغ من هذا الشرح عند قوله: ﴿ضَيِقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: 125] إن شاء الله. قال ابن عباس في قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾: يريد ضيقًا مما قضيت، يريد: يرضوا بقضائك [[في "زاد المسير" 2/ 124 أن ابن عباس فسر الحرج هنا بالشك كقول مجاهد الآتي وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88، وعنه أيضاً: (هما وحزنًا). انظر: "البحر المحيط" 3/ 284. وممن فسر الحرج بالضيق أبو عبيدة في "مجازة" 1/ 131، والطبري 5/ 158، والزجاج في "معانيه" 2/ 70.]]. وكذا قال أبو العالية: حرجًا أي ضيقًا [[لم أقف عليه.]]. وقال مجاهد: شكا [["تفسيره" 1/ 164، وأخرجه الطبري 5/ 158.]]، أي لا تضيق صدورهم عن قضيتك. وقوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ التسليم تفعيل من السلامة، يقال: سلم فلان، أي: عوفي ولم تنشب به بلية. وسلم هذا الشيء لفلان، أي: خلص له من غير منازع ولا مشارك. فإذا ثقلته بالتشديد فقلت: سلّم له، فمعناه أنه خلصه له ولم يدع فيه [[انظر: "مقاييس اللغة" 3/ 90، "المفردات" للراغب 239 - 240.]]. هذا هو الأصل في اللغة. وجميع معاني التسليم راجع إلى هذا الأصل، فقولهم: سلّم عليه، أي دعا له بأن يسلم. وسلم إليه الوديعة، أي أخلصها له وخلى بينها وبينه. وسلم له، أي: بذل الرضا بحكمه، على معنى: ترك السخط والمنازعة. وكذلك: سلم لفلان ما قال، أي أخلصه له من غير معارضة فيه. وكذلك: سلم إلى الله أمره، أي فوض إليه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرًا ولا شركة وعلم أن المدبر والصانع هو الله وحده لا شريك له. هذا معنى التسليم. وأما التفسير: قال ابن عباس: ويسلموا الأمر إلى الله وإلى رسوله [[انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (88).]]. وقال الزجاج: أي يسلِّمون لما يأتي من حكمه [[في "معاني الزجاج" 2/ 71: حكمك.]]، ولا يعارضونه بشيء [["معاني الزجاج" 2/ 71.]]. و (تسليمًا) مصدر مؤكد، والمصادر المؤكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانيًا فإذا قلت: سلمت تسليمًا، فكأنك قلت: سلمت سلمت. وحق التوكيد أن يكون محققًا لما تذكره في صدر كلامك، فإذا قلت: ضربت ضربًا، فكأنك قلت: أحدثت ضربًا أحقه ولا أشك فيه، فكذلك ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي: يسلِّمون لحكمك تسليمًا لا يدخلون على أنفسهم شكًا [["معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 71، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 129، "المحرر الوجيز" 4/ 121، القرطبي 5/ 269، "البحر المحيط" 3/ 284.]]. وقد أخبر الله تعالى أنه لا يتم إيمانهم حتى يعتقدوا وجوب المراجعة في خصوماتهم وتحكيمه والرضا بحكمه من غير ضيق صدر ولا كراهة، وأن من تسخط حكم النبي ﷺ، وارتاب (....) [[هنا بياض بقدر حرفين، فقد يكون الساقط: "فيه" والله اعلم.]] أو عدل إلى غيره رغبة عنه، غير مسلم له، فهو كافر [[انظر: "التفسير الكبير" 10/ 165.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب