الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ الآيةْ اختلفوا في هذه الآية، فذهب الأكثرون إلى أن المراد به اليهود. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: "هم قريظة والنضير" [[لم أقف عليه.]]. ونحو ذلك قال الكلبي وقتادة: آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت بمخالفتها، ثم آمنت بالإنجيل، ثم كفرت بمخالفته [[المأثور عن قتادة كما في الطبري 5/ 327 أن المراد اليهود والنصارى. وانظر: " الكشف والبيان" 4/ 133 أ، و"النكت والعيون" 1/ 535.]]. وقال بعضهم: إن اليهود آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى [[نسب هذا القول لابن عباس. انظر: "زاد المسير" 2/ 225، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100.]]. وكيف ما كان الأمر فقد أخبر الله عنهم بترددهم في الكفر. وقال مجاهد وابن زيد: نزلت في المنافقين، آمنوا، ثم ارتدوا، ثم آمنوا، ثم ارتدوا [[أخرج القول عنهما الطبري 5/ 327، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 536 - 537، و"زاد المسير" 2/ 225 و"الدر المنثور" 2/ 415.]]. واختيار أبي علي أن هذا يُعني به المنافقون، قال: فالإيمان الأول دخولهم في الإسلام، وحقنُهم الدماء والأموال به، وكفرهم بعد نفاقهم، وأنَّ باطنهم على غير ظاهرهم. (وإيمانهم بعد نفيهم نفاقهم) [[في "الحجة" لأبي علي 1/ 324: "وإيمانهم بعد يقيهم نفاقهم".]] بقوله: ﴿إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: 12]، في قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14، 76]، فهذا بعد الإظهار منهم للإيمان ثانية، يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر، كما أن من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه، لقوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: 10] فعُلِمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء، يكونون مؤمنين بإظهارهم الإيمان، بعدما علم منهم النفاق، وكفرهم بعد هذا الإيمان الثاني، قولهم إذا خلوا إلى شياطينهم، أي أصحابهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] [["الحجة" لأبي علي 1/ 234.]]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قال الكلبي وقتادة: بمحمد ﷺ والقرآن [[عن الكلبي انظر:"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100، أما عن قتادة فأخرجه الطبري 9/ 315.]]. وقال مجاهد والسدي والحسن: ماتوا على كفرهم [[أخرجه عن مجاهد: الطبري 5/ 327. وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 أ، وذكره عن الحسن الهواري في "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 431. ولم أقف عليه عن السدي. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن ابن عباس. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 624، و"الدر المنثور" 2/ 415.]]. وقال أبو العالية: ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها في كفرهم [[لم أقف عليه.]]. قال أبو عبيد: جعل أبو العالية إصابة الذنوب زيادة في الكفر، كما أن أعمال البر زيادةٌ في الإيمان [[لم أقف عليه.]]. وقال أبو علي: ما ازدادوه من الكفر إنما هو بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] فهذا زيادة في الكفر. ويدل على أنَّ المستهزئ [[في المخطوط: "المستهزئين"، والتصويب من "الحجة" 1/ 234.]] باستهزائه كافر، فيزداد به كفرًا إلى كفره قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140]، فإذا كان المجالس مثلهم وإن لم يُظهر ذلك ولم يعتقده، فالقاتل لذلك أشد ذهابًا في الكفر [["الحجة" لأبي علي 1/ 234، 235.]]. وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إن قيل: إن الله عز وجل لا يغفر الكفر وقد أخبر به، فلم قال ههنا فيمن آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾؟ فالجواب: أن الله تعالى يغفر للكافرين [[هكذا في المخطوط، والإفراد أظهر.]] كفره إذا آمن، فإن كفر بعد إيمانه لن يغفر له الكفر الأول، لأنه إذا كفر بعد إيمانٍ قبله كفر، كان مُطالبًا بجميع كفره. وهذا جواب ذكره الزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 120.]]، وبه قال بعض الأصوليين [[لم أقف عليه.]]. وكذلك قالوا في الذنوب: أن من تاب من ذنب ثم عاد في مثله، فقال القاضي أبو بكر من أصحابنا [[لعله شيخ الواحدي: أبو بكر الحيري.]]: إن توبته الأولى انتقصت [[هكذا في المخطوط بالصاد المهملة، ولعلها بالضاد المعجمة.]] حتى يلقى الله مؤاخذًا بحكم الزلة الأولى التي تاب عنها [[لم أقف عليه.]]. وقال الآخرون -وهو الاختيار-: إنَّ حكم ما تاب عنه بات على الصحة، وإن عاد إلى مثل ما تاب عنه [[الراجح -حسب ما ورد به الدليل- هو القول الأول كما قال ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". أخرجه البخاري (6921) كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله، ومسلم (120) كتاب: الإيمان، باب: هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية، وانظر: "زاد المسير" 2/ 225، والقرطبي 5/ 415.]]. وعلى هذا فالجواب أن يقال: إن هذا إخبار عن قوم انتقلوا عن الكفر إلى الإيمان، وعن الإيمان إلى الكفر (... و .... [[هنا كلمة غير واضحة، ولعلها: "وتفحيش" أو "تقبيح".]]) لحالهم، وأفردوا بذكر نفي المغفرة عنهم، وإن كان الله تعالى لا يغفر كفرًا مرة واحدة، تخصيصًا بالوعيد، كتخصيص جبريل وميكائيل من جملة الملائكة بالذكر تشريفًا وتعظيمًا، كذلك جاء هذا في نقيضه، ولا فرق بين أن يقول: إن اليهود لا يغفر الله لهم، وبين أن يقول: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لا يغفر الله لهم، لأنهم هم المعينون [[هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "المعنيون" بتقديم النون.]] بهذا الوصف. وأما من قال: إنه إذا كفر ثانيًا أخذ بالأول، فقد غلط [[هذا الحكم فيه نظر؛ لأنه تقدم الحديث الصحيح الذي يدل على أن من كفر بعد إسلامه، أخذ بالأول والآخر.]]، لأنه صار بالإيمان كمن لم يكفر، كما أن التائب من الذنب صار كمن لا ذنب له، فلا يؤاخذ به بعد أن ارتفع حكمه، كما لا يؤاخذ بما لم يعمله وإن عزم على عمله. وقال الكلبي: "لم يكن الله ليغفر لهم ما أقاموا على ذلك" [[انظر: "زاد المسير" 2/ 225، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100.]]. وذلك أن الله تعالى أخبر أنه يغفر كفر الكافر إذا انتهى، فإذا أطلق القول بأنه لا يغفر لهم على [[هكذا في المخطوط، ولعلها: عُلم.]] أن المراد به ما أقاموا عليه. وقوله تعالى: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ قال الكلبي وغيره: سبيل هدى [[انظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 أ، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100.]]. وقال الزجاج: معنى ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين [["معانى القرآن وإعرابه" 2/ 120.]]. وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان، خلافًا لقول القدرية [[انظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 ب، والقرطبي 5/ 416.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب